لماذا تَستَخدِمُ الكويت استراتيجيةَ التَحَوُّطِ تجاه إيران والمملكة العربية السعودية؟

يهدفُ هذا البحث إلى الكشف عن أثر المنافسة السعودية-الإيرانية على علاقة الدول بدولة الكويت. لقد أظهرَ البحث أنَّ الأحداثَ والأزمات والصراعات التي شهدتها المنطقة منذ العام 1971 إلى العام 2023 شكّلت مجالًا للتنافس بين الرياض وطهران على الهيمنة والنفوذ على دول المنطقة بما فيها الكويت.

أمير الكويت السابق الشيخ نوّاف الأحمد الجابر الصباح يستقبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في كانون الثاني (ديسمبر) 2021: توثيق الشراكة بين البلدين.

الدكتور محمد تركي بني سلامة*

تَقولُ النظرِيّة السياسيّة إنَّ الدولَ تلجأُ إلى استراتيجياتٍ أمنيةٍ مُتَعَدّدةٍ لتَحقيقِ مصالحها الوطنية وتَنفيذِ أهدافِ سياساتها الخارجية. بعضُها مُتعاوِنٌ، وبعضُها مُتَعارِضٌ، وآخرٌ يستخدم الحياد. يعتمدُ البعضُ على التوازن، الذي يُمكِنُ أن يكونَ صلبًا أو ناعمًا. ويَستَنِدُ بعضُها على التحالفِ مع قوى عظمى أو قوى صاعدة، وهو ما يُعرَف ب”العَرَبة”.

تشيرُ الممارسة إلى وجودِ خيارٍ آخر، غير تلك المذكورة أعلاه، وهو خيارٌ لم يحظَ بالاهتمامِ الكافي في الدراسات الأكاديمية: التَحَوُّطُ الاستراتيجي، أو التسوية بين الآليات المُتضارِبة والمُتعاوِنة. ويمكن للدولة الصغيرة أن تقومَ بالتحوُّطِ عندما تسعى إلى إيجادِ أرضيةٍ وُسطى. ويَعتَبِرُ البعضُ ذلك طريقةً ذكيةً للتَعويضِ عن الحجم الصغير.

التحوّط يُعَوّضُ الخسائر أو المكاسب المُحتَمَلة. فهو يسمحُ للدولِ الصغيرة بالاستعدادِ للمواجهة وعدم اليقين والمخاطر من خلال حماية وضعها الأمني في حالةِ تدهور علاقتها مع زعيمِ النظامِ الأحاديِّ القطب. وهي استراتيجيةٌ مُفيدَةٌ للدولِ التي لا تستطيع الاستقرارَ على استراتيجياتٍ أخرى مثل التوازن أو التحالف مع قوى عظمى أو صاعدة (العَرَبة).

في منطقةِ الخليج العربي، تتعامَلُ الكويت وقطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان مع إيران من خلال التحوُّطِ الاستراتيجي. وبما أن بيئتها الأمنية تتميز بالديناميكية وعدم اليقين، فهي مثالية للتحوّط الاستراتيجي، مما يُمَكِّنها من الحفاظ على خياراتٍ استراتيجية مختلفة ويُوَفّرُ القدرة على المناورة. وكما يشير الباحث في معهد دراسات الأمن القومي والمتخصّص في سياسة وأمن الخليج، يوئيل غوزانسكي، فإنَّ التحوّطَ الاستراتيجي يُقلّلُ من خطرِ الصراعِ مع إيران في المدى القصير في حين يُحافِظُ على خططِ الطوارئ في المدى الطويل.

وتسعى دول الخليج العربي إلى التعاون مع إيران مع الحفاظِ على إطار مجلس التعاون الخليجي، الذي تمَّ إنشاؤه بعدَ وقتٍ قصيرٍ من الثورة الإيرانية، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى التهديد الآتي من طهران. إنَّ تصوّراتَ التهديد المُختَلفة داخل دول مجلس التعاون الخليجي جَعَلَت من الصَعبِ وَضعِ استراتيجيةٍ أمنية مؤسّسية مُشتَرَكة، كما إنَّ التصدّعات في وحدتها تُضعِفُ قُدرَتَها على العمل بشكلٍ مُوَحَّد في مواجهة إيران. وحتى عندما تكون تصوّرات التهديد الإيراني –الحشد العسكري، والطموحات النووية، والتخريب السياسي، والإرهاب– متشابهة، فإنَّ كلَّ دولةٍ تختارُ التحوّط.

في أعقابِ ثورات الربيع العربي، كانَ على دولِ الخليج العربي أن تتكيَّفَ مع الظروفِ السياسية الجديدة في المنطقة. كانت هذه المُراجعاتُ السياسية أيضًا استجابةً للسياسات المُتغَيِّرة للقوى العظمى مثل الولايات المتحدة. وكما كَتَبتُ من قبل، فإنَّ تصوّرَ انسحابِ الولايات المتحدة من التزاماتها في الشرق الأوسط، فرَضَ على الدول الصغيرة في الخليج العربي أن تُطَوّرَ رؤيةً جديدة لكيفية حماية نفسها. بدأت دول الخليج العربي، التي اعتمدت على الولايات المتحدة لعقود من الزمن في تعزيز وصيانة أمنها الداخلي، تفقد ثقتها في أميركا.

استَقطَبت منطقةُ الخليج العربي اهتمامَ الباحثين والمُتَخَصّصين في العلاقات الدولية نظرًا لأهمّيتها الجيوسياسية، فهي حلقةُ وَصلٍ بين الشرق والغرب وتحتوي على أهم المضائق الدولية: مضيق هرمز، خليج عُمان، باب المندب، والبحر الأحمر. ويسيطرُ مضيق هرمز على طُرُق التجارة مِن وإلى الخليج، ما يعني أنَّ السيطرة عليه تعني السيطرة على الملاحة في الخليج، وبالتالي إمدادات النفط، العمود الفقري للتنمية في الدول المتقدّمة.

تقوم العلاقات السعودية-الإيرانية على التنافس للسيطرة أو الهيمنة على دول المنطقة، وقد مرَّ هذا التنافس بمراحل عدة، أوّلها المواجهة العلنية في الثمانينيات، أعقبها تَوَسُّعٌ قصير المدى في التسعينيات، ثم مرحلة الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط. وانعكسَ ذلك على دولِ المنطقة ومن بينها دولة الكويت التي شهدت منذ العام 2011 العديد من التحوّلات والتغيّرات الاستراتيجية التي جعلت علاقاتها مع السعودية وإيران تتَّسِمُ بالأفعال وردود الفعل والجاذبية. لذلك، سنتناول في هذا المقال التنافس السعودي-الإيراني وتأثيره على العلاقات مع الكويت.

يؤكّدُ هذا البحث أنَّ الكويت تستخدمُ استراتيجيةَ التحوّط لتقليل المخاطر والشكوك التي خلّفتها سياسة إعادة التموضع الأميركية في الشرق الأوسط. وهي تستخدم التحوُّط لمنع إيران والمملكة العربية السعودية من السيطرة على النظامِ الإقليمي.

التنافس على القيادة والجيوسياسي في المنطقة

بَعدَ انتصارِ الثورة الإيرانية في العام 1979 وتَشكيلِ نظامِ ولايةِ الفقيه المُتَمَحورِ حَولَ الحكم الديني للمُرشِد الأعلى الإيراني، تَبَنّت إيران شعارات الدولة الإسلامية العالمية، وتصدير الثورة، وحماية الضعفاء على الأرض. ومع التزامِ طهران بتوظيفِ كافةِ إمكاناتها لتحقيق ذلك، يعتمِدُ المشروع الإيراني للتغلغلِ في دولِ المنطقة على تشكيلِ مجموعاتٍ وكياناتٍ سياسية ترتَبِطُ بها، ومن ثمَّ خَلقِ حالةٍ من عدم الاستقرار في دول المنطقة وتحويلها إلى دولٍ فاشلة سياسيًا وعسكريًا. وقد أدّت الثورات والأزمات العربية التي شهدتها المنطقة في الفترة من 2003 إلى 2011 إلى إضعاف السلطة المركزية للدولة في لبنان والعراق وسوريا واليمن. وفي مثل هذه البلدان، تتمتّعُ إيران بحضورٍ كبيرٍ من المتعاطفين والمؤيّدين، وحتى المقاتلين، الذين يُكرّسون كل إخلاصهم للمشروع الإيراني التوسّعي في الشرق الأوسط، مما أعطى إيران الفرصة لفَرضِ هيمنتها على تلك البلدان عبر جهات فاعلة غير حكومية (الحركات الشيعية في العراق والبحرين والمملكة العربية السعودية والكويت) والكيانات السياسية الموالية لإيران (“حزب الله” اللبناني، و”الجهاد الإسلامي” في غزة، وجماعة الحوثي في اليمن، والتدخل العسكري في سوريا). بَدَت إيران مُبتَهِجة بسبب تفكك النظام العربي المُوالي للغرب، وشهدت “صحوة إسلامية” تتحرّك مع دورٍ أوسع لشبكتها الشيعية. وفي ضوء ذلك، حاولت السعودية قيادة تحالفٍ عربي وإسلامي مُوَحَّد ضد إيران وحاولت دعم الدول التي تنتمي إليه وتعزيز سلطاتها العسكرية لتتمكّن من تقييد وجود الجماعات والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل “حزب الله” اللبناني والميليشيات العراقية المدعومة من إيران.

تأثير التنافس السعودي-الإيراني على العلاقات الكويتية-الإيرانية

الكويت دولةٌ صغيرة تُحيطُ بها ثلاثُ دولٍ رئيسة في المنطقة. وهي تقع ضمن ما يُسَمّى بمثلث الضغط بين العراق وإيران والمملكة العربية السعودية، والذي كان دائمًا مَصدَرَ قلقٍ كبير في السياسة الخارجية للكويت. وذلك لأنَّ التجربة التاريخية أثبتت أنَّ كُلًا من هؤلاء اللاعبين الرئيسيين في هذا النظام الإقليمي يسعى إلى فرض نفوذه وسيطرته على بقيّةِ الأطراف، وخصوصًا دول الخليج الصغيرة، ومن بينها الكويت.

لقد قامت الاستراتيجية الكويتية على أساسِ حماية البلد من صراعاتِ هذه القوى الكُبرى في المنطقة، والسعي بالدرجة الأولى إلى الحفاظ على وجوده. لذلك حرصت الكويت على أن تسعى لنفسها إلى دورٍ إقليمي مؤثّر يُخَلّصها من ضغوطِ “مُثَلّث الضغط” ويحدُّ من المحاولات التوسّعية لأيٍّ من أطرافه. وفي مواجهة هذه المعضلة الجغرافية، حاولت دولة الكويت انتهاجَ سياساتٍ خارجية غير مُكلِفة تميلُ إلى الحذرِ وتجنّبِ إثارة الأزمات مع إيران والسعودية. وفي تنفيذ سياستها الخارجية، اعتمدت إلى حدٍّ كبير على الأدوات الديبلوماسية المُتَعَدِّدة الأطراف، والمؤتمرات الدولية، والمنظمات الإقليمية، فضلًا عن العلاقات الاقتصادية، لذا فإنَّ قراراتها الخارجية ترتَبطُ أكثر بتعظيم المكاسب والفوائد الاقتصادية.

تاريخيًا، تأثّرت العلاقاتُ الثُنائية بين إيران والكويت بالسلوكِ الخارجي الإيراني الذي اعتَمَدَ منذ الثورة الإيرانية في العام 1979 على التدخّلِ في الشؤون الداخلية لدولِ الجوار من خلال تبنّي “ولاية الفقيه” مبدأ تصدير الثورة، وإحياء دور الشيعة في المنطقة (تقوية الشيعة في لبنان والعراق والسعودية والكويت والبحرين)، ولُعبِ دورِ على الساحتيَن الإقليمية والدولية. استجابت المجتمعات الشيعية الأصلية في الكويت للثورة الإيرانية في العام 1979 من خلالِ تنظيمِ سلسلةٍ من الاجتماعاتِ والمظاهرات الشعبية. وردّت السلطات بترحيل رجل دين شيعي بارز له علاقات وثيقة بإيران وطَردِ عددٍ كبير من المغتربين المُشتَبَه بهم سياسيًا. وفي أوائل الثمانينيات، شنَّ مسلّحون شيعة موجةً من التفجيراتِ وعملياتِ الاختطاف في محاولةٍ لتقويضِ سلطة آل الصباح. ولجأت الأسرة الحاكمة إلى القوميين والبدو كوسيلةٍ لحَشدِ الدَعمِ للنظامِ السياسي بين المواطنين الكويتيين. لقد أصبحت هناكَ علاقةُ منفعة مُتَبادَلة بين صعودِ مكانةِ إيران السياسية وأدوارِ حلفائها في الشرق الأوسط، الأمرُ الذي عزّزَ مكانةَ الهوية الشيعية في الساحة السياسية الإقليمية والدولية. وتمَّ ذلك من خلالِ عددٍ من الوسائل والأساليب المُختلفة، بما في ذلك تجنيد عملاء في هذه الدول، بالإضافة إلى القيام بعمليات العنف والإرهاب بهدف زعزعة الاستقرار الداخلي والتأثير على مواقف الكويت.

خلال الفترة من 1983 إلى 1987، شُنَّت سبعُ عملياتٍ إرهابية إيرانية ضدّ دولة الكويت. كان أخطَرُها في العام 1985، عندما تعرّضَ الشيخ جابر الأحمد الصباح، أمير دولة الكويت آنذاك، لمحاولةِ اغتيال. وتزايدت وتيرةُ العملياتِ الإرهابية خلال فترة توتّرِ العلاقات الإيرانية-الكويتية بسبب دعم الكويت للعراق في حربه ضد إيران، والتي تزامنت مع ذروة الجهد الإيراني الداخلي لتصدير الثورة إلى دول الجوار واعتمادها مبدأ التدخّلِ كتوجّهٍ أساسي للسياسة الخارجية الإيرانية. كما استهدفَ بعضُ العمليات الإرهابية المصالح السعودية في الكويت، مما عَكَسَ العلاقة المتوتّرة والعداء الذي تكنّه إيران تجاه الرياض وحلفائها في دول الخليج العربي. وفي أعقاب الغزو العراقي للكويت في العام 1990 والدعم الإيراني للكويت، تحسّنت العلاقات بين البلدين، واختفت العمليات الإرهابية المدعومة من إيران خلال الفترة 1990-2011. لكن بعد العام 2011، بدأ التدخّلُ الإيراني في الشؤون الداخلية الكويتية يعودُ إلى الواجهة من جديد. وبدأت إيران زَرعَ عملاءٍ وتجنيدَ جواسيس ودَعمَ الشيعة في الكويت والتسلُل عبرهم إلى الإمارة سعيًا إلى كسب ولائهم ودعم الحراك الداخلي ضد النظام السياسي. وفي العام 2011، اكتشفت قوات الأمن الكويتية شبكَة تجسّس تُقدّمُ معلوماتٍ استخباراتية لإيران، مما أدّى إلى توتر العلاقات بين البلدين، خصوصًا أنَّ اكتشافَ هذه الخلية ارتبطَ بالحراك الذي شهدته الكويت ضمن موجة الاحتجاجات التي اجتاحت دول العالم العربي. وكشفت التحقيقات أنَّ هذه الخليّة مُرتبطة بشكلٍ مباشر بإيران وتحديدًا بالحرس الثوري الإيراني. وصدرت أحكامٌ بالإعدام على أعضاء هذه الشبكة، وطُرِدَ ثلاثة ديبلوماسيين إيرانيين، واستُدعيَ سفير الكويت في إيران للتشاور.

في العام 2012، عاد الخلافُ على منطقةِ الجرفِ القاري على الحدود البحرية بين البلدين، ليشمل “حقل الدرة” (تسميه إيران حقل آرش)، وهو المثلث المائي الواقع شمال الخليج العربي. ويقعُ الجُزء الأكبر منه على الحدود المشتركة بين الكويت والمملكة العربية السعودية، لكنَّ جُزءًا منه يقع في الجانب الإيراني، والذي يُقَدَّر بـ5 في المئة فقط من إجمالي الحقل. وتعود جذور الخلاف إلى منح إيران حق التنقيب والاستغلال لشركة بريتيش بتروليوم، فيما منحت الكويت الامتياز لشركة رويال داتش شل، وتقاطع الامتيازان في جُزءٍ من الحقل. واحتجّت الكويت على بحث إيران عن الغاز في الحقل الذي لم يتم التوصل فيه إلى اتفاقٍ بشأن ترسيم الحدود، واستدعت القائم بأعمال السفارة الإيرانية في الكويت وسلمته مذكرة احتجاج. ورُغمَ أنَّ هذا الخلاف يتعلّقُ بحقٍّ سيادي، إلّا أنهُ لم يؤدِّ إلى اشتباكٍ مباشر أو تدخّلٍ عسكري. بدلًا من ذلك، كانت لدى البلدين مساحةٌ للتحرّك الديبلوماسي لتجنّبِ تأثير هذا الملف على مسار العلاقات بما يصل إلى المواجهة أو القطيعة.

في كانون الأول (ديسمبر) 2019، تمَّ توقيعُ مذكّرة تفاهم بين الكويت والمملكة العربية السعودية للعمل معًا لتطوير واستغلال حقل الدرة. أعربت الخارجية الإيرانية عن استنكارها ومُعارضتها لهذه الخطوة التي وصفتها بأنها غير قانونية، نظرًا لأنَّ إيران تتقاسم هذا الحقل مع الطرفين، وأكدت أنَّ “هناكَ أجزاءً منه ضمن المياه غير المُحَدَّدة بين إيران والكويت، وتحتفظ الجمهورية الإسلامية بحق استغلال حقل الغاز”، على حدِّ تعبيرها. في المقابل، أعربت الكويت على لسان وزير خارجيتها أحمد الصباح، عن رفضها التصريحات الإيرانية بشأن الحقل، مؤكّدةً أنَّ “إيران ليست طرفًا في حقل الدرة، فهو حقل كويتي-سعودي بحت”، وهي إشارة إلى أن الكويت والسعودية لهما وحدهما حقوق استغلال هذا الحقل، وفقًا للاتفاقيات المُبرَمة بين البلدين، ووفقًا للقانون الدولي وقواعد ترسيم الحدود البحرية.

في العام 2015 أعلنت وزارة الداخلية الكويتية القبضَ على نحو 26 عضوًا في خليّة إرهابية (أحدهم إيراني والبقية من الكويتيين) ومُصادرة كميات كبيرة من الأسلحة في منطقة العبدلي شمال العاصمة الكويتية قرب الحدود العراقية. ومع ارتكاب إيران و”حزب الله” أعمالًا من شأنها المساس بوحدة دولة الكويت وسلامة أراضيها، تمت الإشارة ضمنًا إلى تورّط إيران في تشكيلِ خليّةِ تجسّسٍ في الكويت وتدريب أعضائها في لبنان وفي السفارة الإيرانية في الكويت. ولاحقًا، استغلَّ المُتَّهَمون إطلاقَ سراحهم بعد أن أصدرت محكمة الاستئناف حُكمًا ببراءتهم، في انتظار صدور حكم التمييز، وفرّوا إلى إيران، حيث أعلنت الكويت على الأثر خَفضَ مستوى التمثيل الديبلوماسي الإيراني في الكويت من تسعة عشر ديبلوماسيًا إلى أربعة. وجاء رد الفعل الإيراني مع تصعيدٍ جُزئي ضدّ الكويت، مُتَّهمةً االإمارة بالخضوع للضغوط السعودية للقيام بهذه الخطوة. وفي 22 تموز (يوليو) 2017، خفّضت الكويت التمثيل الديبلوماسي الإيراني إلى أدنى حدوده بسبب تهديد إيران لأمن الكويت الداخلي ونظام الأمن الإقليمي ودورها في نشر الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة.

تباينت مواقف البلدين تجاه ثورات “الربيع العربي” التي اندلعت في العام 2011 بشكلٍ كبير، إذ اعتبرتها الكويت موجةً كبيرة تهدف إلى ضرب استقرار الدول العربية، بما فيها الكويت، وإحداث تغييرات جوهرية في بنية وسلطة الدولة، فيما اعتبرتها إيران، باستثناء ما حدث في سوريا، استمرارًا للثورة الإيرانية لعام 1979 واستجابةً من الشعوب العربية لرسالة الثورة الإيرانية. مثّلت الاحتجاجات التي اجتاحت البحرين في شباط (فبراير) 2011، اختبارًا مُهمًّا للعلاقات الكويتية-الإيرانية، حيث تدخّلَ الجانب الإيراني بقوة في الأزمة وشجّعَ المعارضة البحرينية على إحداثِ تغييرٍ سياسي لصالح الكتلة الشيعية في الداخل البحريني، لكن دخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين، والتي شاركت فيها الكويت، وَضَعَ حدًّا لتدهور الأوضاع في البحرين. وقد أبدى بعضُ القادة الإيرانيين رأيهم في الدور الكويتي في قوات درع الجزيرة، حيث قال النائب كريم عابدي عضو اللجنة البرلمانية لشؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية الإيرانية في العام 2012: “إنَّ ما حدث بدخول جيوش دول الخليج إلى البحرين لن يتكرّر، ولن نسمح به. وبتكرار الأمر في الكويت فإنَّ ظروف البحرين وموقعها جغرافيًا وعسكريًا يختلفُ تمامًا عن الكويت، ومن حق الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدخول إلى الكويت لحماية الشيعة هناك، كما برّرت دول الخليج دخولها إلى البحرين بحماية أهل السنّة هناك”.

باختصار، ظلّت العلاقة بين إيران والكويت، لسنوات عديدة، مُتأرجِحة بين العداء والتعاون. وقد اتَّسَمت بانعدامِ الثقة الراسخ والتسرّعِ في اتخاذِ القرارات. وتتنوَّعُ العواملُ التي تُساهِمُ في هذه العلاقة، فهي تشمل سياسات إيران التوسّعية، ومحاولاتها المستمرة للتدخّل في الشؤون الداخلية للكويت، ومعركة القيادة الإقليمية مع أقرب حليف إقليمي للكويت، المملكة العربية السعودية.

تأثير التنافس السعودي-الإيراني على العلاقات الكويتية-السعودية

بدأت جذور العلاقات السعودية-الكويتية مع مطلع القرن العشرين، عندما استضافت الكويت مؤسّس الدولة السعودية الحديثة الملك عبد العزيز آل سعود، بعد سقوط الرياض في يد دولة الرشيد شمال السعودية، وتلاها استعادتها من سلطة الرشيد. وقرّرَ الملك عبد العزيز، بعد أن حسم الأمر في الرياض، توسيعَ حُكمه إلى حدٍّ أدّى إلى صراعٍ مع الحكومة الكويتية آنذاك، في عهد الشيخ سالم المبارك الصباح. وانتهى الصراع بتوقيع معاهدة العقير في العام 1922، التي رسمت الحدود بين السعودية والكويت، وإنشاء منطقة محايدة بين البلدين. وبدأت الخلافات الاقتصادية بين البلدين في الظهور بعد اتفاقية العقير، وانتهت في العام 1940 بعد التوصّلِ إلى تسويةٍ سلمية برعايةٍ بريطانية. وفي 20 نيسان (أبريل) 1942، وقَّعت الدولتان اتفاقيات عدة تهدفُ إلى تنظيمِ العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية، وكان من أهم نتائج هذه الاتفاقيات إنشاء المنطقة المقسومة بين الكويت والمملكة العربية السعودية في ما عُرِفَ بالمنطقة المحايدة في العام 1965، ما أدّى إلى ترسيم الحدود بين البلدين الأمر الذي يعكس توازن القوى آنذاك في المنطقة. وفي العام 2000، أبرمت الكويت والمملكة العربية السعودية أيضًا اتفاقية الحدود البحرية التي حَسَمَت مسألة الحدود النهائية بين البلدين. وخلال الفترة ما بين 2009 و2019، أدّى الخلاف بين الكويت والسعودية حول المنطقة المقسومة إلى توقّف إنتاج المواد الهيدروكربونية ابتداءً من العام 2014، إلى أن تمَّ التوصل إلى الترتيبات الحدودية النهائية، لكن التفسيرات المختلفة لمشاكل الحدود الكويتية-السعودية أدّت إلى اتفاق خامس في العام 2019، كان هدفه تحقيق قدر أكبر من الوضوح وتسوية مسألة الحدود.

تُمثّلُ مساحة المملكة العربية السعودية 83.45 في المئة من إجمالي مساحة دول الخليج، بينما تمثل دولة الكويت 0.4 في المئة من هذه المساحة. لقد ربطت الجغرافيا مصير الكويت والمملكة العربية السعودية، كما ربطت عمق الروابط الدينية والثقافية والعائلية بين مواطنيهما، ويتميّز البلدان بتجانس الهوية والقيم. وفي الشؤون التعليمية والثقافية والاجتماعية هناك نوعٌ من الاتصال والتداخل بين حدود البلدين، حيث تتسع الحدود السعودية لتمتد على مساحة دولة الكويت بحيث تشكل عُمقًا استراتيجيًا لها، كما إنَّ الواقعَ الجغرافي يجعلُ أيّ تهديد للكويت مصدر تهديد مباشر لأمن المملكة العربية السعودية، مما يجعل الكويت تقريبًا خطَّ الدفاع الأول عن الأراضي السعودية.

كان الغزو العراقي للكويت في العام 1990 أحد أهم المعالم السياسية للإمارة. دخلت الكويت ساحة المواجهة العسكرية بإغلاق خط أنابيب النفط العراقي الممتد عبر أراضيها إلى البحر الأحمر وقررت تعويض النقص في إنتاج النفط بزيادة إنتاجها بمقدار مليوني برميل يوميًا للحفاظ على استقرار سوقها في العالم. ثم فتحت المملكة السعودية أراضيها وقواعدها لاستقبال القوات العربية والإسلامية والصديقة التي تم استدعاؤها. ولرَدِّ العدوان وصدّه، تم وضع هذه القوات تحت قيادة أميركية-سعودية مشتركة. في البداية، أصبحت الكويت أقرب إلى الدولة السعودية، حيث سعى قادتها إلى التقرّب من المملكة في أعقاب ذلك الغزو. وأظهرت تلك التجربة هشاشة الحضور السياسي الكويتي في منطقةٍ مُضطَرِبة تتّسم بالصراعاتِ على السيادة والنفوذ بين الدول الإقليمية والدولية الكبرى. وعلى الرُغم من التوافقِ الظاهري بين الكويت والسعودية على ضرورة مواجهة الغزو وأسبابه، فقد كان هناك اختلافٌ جوهري بينهما: فقد رأى الكويتيون ضرورة اقتلاع النظام العراقي من جذوره، كما اعتبروه مُعاديًا لهم بشكل أساسي. بينما اقتصرت الرغبة السعودية على إسقاط صدام حسين مع الحفاظ على النظام السياسي حتى لا يحدث تغييرٌ جذريٌّ عميق في العراق.

تأتي المملكة العربية السعودية على رأس أولويات السياسة الخارجية الكويتية، إذ تَحرُصُ الديبلوماسية الكويتية دائمًا على تفعيل التعاون ودعم التقارب مع الرياض على كافة الصُعُد. وعلى المستوى الثُنائي والخليجي، تَجري المحادثات السعودية-الكويتية بشكلٍ منتظم في أعقاب الأزمات التي تواجه دول الخليج والعالم العربي، وكثيرًا ما يؤدّي موقف الكويت والسعودية إلى توافق الرؤى حول تلك الأزمات، وفي ما يتعلق بإيران، فإن موقف البلدين يتوافق في رفضِ التهديدات الإيرانية لدول الخليج. وعلى المستوى الخليجي، يسعى الجانبان إلى بلورةِ موقفٍ خليجي مُوَحّد في التعامل مع إيران، من خلال تنسيق الجهود في إطار مجلس التعاون الخليجي. أمّا بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فقد اتفقت السعودية والكويت على كيفية التعامل معها. ولعلَّ أبرز تجلّيات هذا التوافق يتجلّى في رفضِ كلٍّ منهما التطبيع مع إسرائيل وحرصهما على تقديم الدعم المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني على كافة الصعدان. لكن هذا لا يمنع وجود بعض الخلافات بينهما، مثل مواقفهما الأحادية تجاه إيران، حيث وصلت الكويت وإيران في علاقاتهما إلى مستويات متقدمة وودية.

وفي ما يتعلّقُ بموقف البلدين من الأزمة الخليجية ومقاطعة إمارة قطر في العام 2017، فقد أبدت الكويت طوال تلك الأزمة موقف الحياد تجاه مقاطعة الدوحة، لكنها مع ذلك، واصلت لعب دور الوسيط بين دول الخليج. وخلال القمة الخليجية التي عُقِدَت في الرياض في كانون الأول (ديسمبر) 2018، والتي لم يحضرها أمير قطر، وحضر وزير الدولة للشؤون الخارجية نيابةً عنه، ألقى أمير الكويت كلمة انتقد فيها التراشق الإعلامي الحاد بين الدولتين. وحثَّ الأطراف المتنازعة على استخدام لهجة إعلامية هادئة، وأملَ في حلِّ النزاع في أسرع وقت ممكن.

في أعقاب ثورات “الربيع العربي”، تخلّت المملكة العربية السعودية عن مسار سياستها الخارجية التقليدية لصالحِ مسارٍ أكثر هَيمَنة. لقد حاولت تقليديًا التأثير على دول الخليج الأخرى للتحالف معها، لكنها ضاعفت هذه الجهود في فترة ما بعد العام 2011. اتخذت المملكة موقفًا مُضادًا للانتفاضات والثورات العربية، وتوقعت أن تحذو دول أخرى في الخليج حذوها، كما حاولت الضغط على دولٍ مثل الكويت والبحرين لتقديم الدعم المالي للحكومة المصرية. لقد أصبحت السياسة الخارجية السعودية أكثر حزمًا في الفترة الأولى من حُكم الملك سلمان بن عبد العزيز.

خاتمة

يُعتَبَرُ التنافس السعودي-الإيراني أحد أطول المنافسات في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، والعداءُ بين البلدَين هو سمةٌ مستمرّة للجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. شكلت الأحداث والأزمات والصراعات التي شهدتها المنطقة منذ العام 1971 وحتى العام 2015، بدايةَ الصراعِ والتنافُسِ على الهيمنة في منطقة الخليج العربي بين السعودية وإيران، حيث حاولت كلُّ دولةٍ استغلالَ هذه الأزمات والصراعات لصالحها. كان نجاحُ الثورة الإيرانية وسقوط نظام الشاه في العام 1979 بمثابةِ بدايةِ انتقالِ إيران من السعي إلى الهيمنة بالاشتراك مع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة إلى محاولة الهَيمَنة على المنطقة من جانبٍ واحد. أصبحت إيران الطرف الأكثر زعزعة للاستقرار في منطقة الخليج. وقد أدى ذلك إلى خلقِ صراعٍ مع السعودية على قيادة المنطقة. وبمرور الوقت تحوّلَ الخلاُف بينهما إلى معركةٍ إيديولوجية ودينية وسياسية وعسكرية. يستخدم النظام الإيراني كافة الآليات والوسائل للهيمنة على دول المنطقة، وقد سعت إيران بشكلٍ مباشر إلى تغيير الأنظمة الحاكمة في دول الخليج العربي من خلال الحركات السياسية الإسلامية الشيعية في هذه الدول أو من خلال السعي إلى احتكار تمثيل الشيعة في تلك الدول ذات التواجد الشيعي بحجة حمايتهم. أدّى احتلالُ أفغانستان والعراق وثورات “الربيع العربي” (2001-2011) إلى تحويل إيران إلى لاعبٍ إقليمي رئيس في أربع دول عربية: سوريا ولبنان والعراق والبحرين. ومنذ ذلك الحين، تصاعَدَ التوتر بين السعودية وإيران، واشتدّت الخلافات بينهما في كافة القضايا الإقليمية.

في ظلِّ أجواءِ التنافس السعودي-الإيراني، قامت الاستراتيجية الكويتية على أساسِ حمايةِ البلاد من صراعاتِ القوى الكبرى في المنطقة من خلال السعي، في المقام الأول، إلى الحفاظ على وجودها. وحرصت الكويت على البحث عن دورٍ إقليمي مؤثّرٍ لتخفيفِ الضغوط من تلك الدول ومنع المحاولات التوسّعية.

ونتيجةً للمعضلة الجغرافية التي تعيشها دولة الكويت، فقد حاولت انتهاجَ سياساتٍ خارجية غير مُكلفة، تميلُ إلى الحذر، وتجنّب إثارة الأزمات مع إيران والسعودية. وفي تنفيذ سياستها الخارجية، اعتمدت بشكلٍ كبير على الأدوات الديبلوماسية المتعددة الأطراف، والمؤتمرات الدولية، والمنظمات الإقليمية، فضلاً عن العلاقات الاقتصادية، لذا فإن قراراتها الخارجية ترتبط أكثر بتعظيم المكاسب والفوائد الاقتصادية.

  • الدكتور محمد تركي بني سلامة هو أستاذ العلوم السياسية في كلية الدفاع الوطني في دولة الإمارات العربية المتحدة. الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس آراء كلية الدفاع الوطني، أو حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى