هل تدخّلت روسيا في سوريا من أجل خطوط أنابيب الغاز؟

شعر الروس بعد تفكك الإتحاد السوفياتي أن الصراع على التسلح قد أنهكهم وسط غياب عن عوالم الطاقة الضرورية لأي دولة صناعية، فيما كان الأميركيون يتحرّكون في مناطق النفط عبر عقود عدة مكّنتهم من النمو ومن السيطرة على القرار السياسي الدولي بلا منازعات كبيرة. ولهذا تحرّك الروس بإتجاه مكامن الطاقة (النفط والغاز). وعلى إعتبار أن القسمة الدولية لا تحتمل المنافسة في قطاعات النفط كثيراً، فقد عملت موسكو على السعي إلى ما يشبه إحتكار الغاز في مناطق إنتاجها أو نقلها وتسويقها على نطاق واسع. ولكن هل كان تدخّلها في سوريا نابعاً من هذه الفرضية؟

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: بارك خط الأنابيب الإيراني
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: بارك خط الأنابيب الإيراني

دمشق – محمد الحلبي

جدّد تدخّل روسيا الأخير في سوريا النقاش والجدل حول دوافع موسكو التي دفعتها الآن للإنخراط عسكرياً في هذا الصراع الذي تجاوز عمره الخمس سنوات. جيمس نيكسي، رئيس برنامج روسيا وأوراسيا في مركز أبحاث “تشاتام هاوس” البريطاني وزميلته، زينيا ويكيت، مديرة مشروع الولايات المتحدة في المركز، ربما وضعا أفضل تبرير للدوافع الروسية في مقالهما أخيراً عندما تساءلا: “ما الذي يجعل بلداً ينوء إقتصاده تحت ثقل مشاكل ركود حاد ويعاني من عقوبات مفروضة عليه بسبب تدخله في أوكرانيا، الى فتح جبهة عمليات عسكرية إضافية في سوريا بعيداً من ساحة عملياته التقليدية وخارج مجال فضاء الإتحاد السوفياتي السابق؟ ما الذي يدفعه بالإضافة الى الأسباب الرسمية المُعلَنة الى القيام بضرب المجموعات العسكرية المعارضة التي تحارب النظام في دمشق بإستثناء المعاقل التي يسيطر عليها تنظيم “داعش”؟”.
جواب واحد هو الغاز الطبيعي. على وجه التحديد، إن غالبية الدول الأجنبية المشاركة في الصراع في بلاد الشام هي دول مصدّرة للغاز، ولديها مصالح في واحد من مشروعين متنافسين من خطوط أنابيب يسعى كلٌّ منهما إلى عبور الأراضي السورية لنقل الغاز إلى أوروبا: واحدٌ قطري والآخر إيراني. بإختصار، في الوقت الذي تخرج الجمهورية الإسلامية من عزلتها وتتحرّر من العقوبات الدولية وتصبح إحتياطاتها الهائلة من الغاز مُتاحَة للتصدير، فإن حرب الغاز السوري بدأت تغلي.

خطوط الطاقة

في العام 1989، بدأت قطر وإيران تطوير حقل القبة الشمالية / بارس الجنوبي، الذي دُفِن على 3000 متر تحت قاع الخليج العربي. ومع 51 تريليون متر مكعب من الغاز و 50 مليار متر مكعب من المكثّفات السائلة، فهو يُعتبر أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم، حيث يقع ما يقرب من ثلث إحتياطاته في المياه الإيرانية والثلثين في المياه القطرية.
منذ إكتشافه، وقطر تستثمر بكثافة في مصانع ومحطات الغاز الطبيعي المسال التي تمكّنها من نقل الغاز إلى جميع أنحاء العالم في ناقلات. لكن عمليات التسييل والشحن التي تُضاعف مجموع التكاليف، لا سيما فيما أسعار الغاز تراجعت، قد قوّضت الفرصة أمام الغاز القطري للدخول إلى الأسواق الأوروبية بسبب مزاحمة الغاز الروسي الأرخص الآتي عبر خطوط الأنابيب. وهكذا، في العام 2009، إقترحت قطر بناء خط أنابيب لإرسال الغاز عبر شمال غرب المملكة العربية السعودية، والأردن، وسوريا إلى تركيا، وإستثمار مليارات الدولارات مسبقاً، إيماناً من الدوحة بأن هذا المشروع من شأنه أن يقلّل تكاليف النقل في المدى الطويل. مع ذلك، رفض الرئيس السوري بشار الأسد التوقيع على الخطة. يبدو أن روسيا التي لا تريد تقويض مكانتها في أسواق الغاز الأوروبية قد وضعت العصي في دواليب المشروع وضغطت على الرئيس السوري بشكل كبير لمنعه من التوقيع.
في الوقت عينه، على الرغم من أن إيران تفتقر إلى البنية التحتية لتصدير إحتياطاتها من الغاز، فقد وجدت أن الفرصة سانحة لها، لذا إقترحت خط أنابيب بديلاً بين إيران والعراق وسوريا الذي سيضخ الغاز الإيراني من الحقل نفسه، الذي تتشارك فيه مع قطر، من طريق المرافئ السورية مثل اللاذقية وتحت البحر الأبيض المتوسط. وعلى ما يبدو، باركت موسكو هذا المشروع، وربما لأنها تعتقد بأنه سيكون من السهل عليها التعامل مع طهران (التي على عكس قطر، ليست موطناً لقاعدة أميركية) للسيطرة على واردات الغاز إلى أوروبا من إيران ومنطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى. وجاء الإعلان عن صفقة خط أنابيب بين العراق وإيران وسوريا في العام 2011. ووقع الأطراف المعنيون على الوثائق في تموز (يوليو) 2012. وكان من المقرر أن يتم الإنتهاء من بناء الخط في العام 2016، ولكن عواصف “الربيع العربي” وما تلاها من فوضى في سوريا عثّر وأخّر المشروع.

تدخّل روسيا

منذ بداية القتال، قدّمت إيران دعماً واسع النطاق لحكومة الأسد. وحسب بعض التقارير، فهي إلى حد ما، أكثر أو أقل، تدير الجيش السوري، فضلاً عن تزويده بالأسلحة والعتاد والآن حتى بقوات من “الحرس الثوري” وفيلق “القدس” و”حزب الله”. لدى طهران أسباب عديدة لدعم الأسد – كانت دمشق حليفاً يمكن الإعتماد عليه وقناة لإرسال الأسلحة إلى “حزب الله” – ووضع سوريا كطريق عبور محتمل لإحتياطات إيران الضخمة من الغاز الطبيعي يدخل في الإعتبار.
في الوقت عينه، بدأت قطر من جهتها العمل لإسقاط نظام الأسد من طريق تمويل جماعات متمرّدة حيث وصلت قيمة دعمها إلى حوالي 3 مليارات دولار بين عامي 2011 و2013. حتى أنها قدّمت 50،000 دولار مكافأة للمنشقّين عن النظام السوري وأسرهم وإستضافت قاعدة عسكرية التي من خلالها تقوم المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إي) بتدريب المتمرّدين السوريين. علماً أن العلاقات القطرية مع سوريا في السابق كانت ودية – وبقيت كذلك، حتى لعبت قناة “الجزيرة” في الدوحة دوراً حيوياً في دعم ثورات “الربيع العربي” وأعطت صوتاً للإحتجاجات في سوريا. كما سعت قطر أيضاً إلى عزل الأسد ديبلوماسياً بتسليم مقعد سوريا في الجامعة العربية إلى المعارضة. وبقيامها بذلك، فقد هددت الإمارة الخليجية الصغيرة علاقاتها الوثيقة سابقاً مع إيران.
من ناحية أخرى، فقد أضاف التدخل الروسي طبقة جديدة. إن موسكو تفضّل رؤية بناء خط الأنابيب بين العراق وايران وسوريا أو لا خط أنابيب على الإطلاق، بحيث يمكنها السيطرة على إمدادات الغاز إلى أوروبا، سوقها الرئيسي، بطريقة أفضل. بالنسبة إلى دولة قطر، تمثّل سوريا فرصة لنقل الغاز إلى السوق بثمن بخس أو منع إيران من الهيمنة على صادرات خط أنابيب ينقل الغاز من حقل مشترك الملكية. الولايات المتحدة، في الوقت عينه، تدعم خط أنابيب قطر بإعتباره وسيلة لتحقيق التوازن مع إيران وتنويع إمدادات الغاز إلى أوروبا بعيداً من روسيا. وتركيا، وبالمثل، تعتقد بأن خط الأنابيب القطري من شأنه أن يساعد على تنويع إمداداتها من الغاز بعيداً من الطاقة الروسية وتعزيز طموحاتها لتكون مركزاً لنقل الغاز بين آسيا وأوروبا. وفي الأيام الأخيرة، ذكّرت وسائل الإعلام الرسمية الروسية تركيا بأنها “من غير المرجح أن تستطيع العيش من دون الغاز الروسي” وبأن المورّد الرئيسي الآخر لتركيا، إيران، قد تحالفت مع روسيا في سوريا.
بعبارة أخرى، إن أية تسوية سياسية للأزمة في سوريا يجب أيضاً أن توفّق بين المصالح المتنافسة على الغاز. وثمة طريقة للقيام بذلك تتمثّل في بناء وتمكين كلٍّ من خطي الأنابيب، بحيث يمكنهما معاً جلب الغاز القطري والإيراني إلى السوق بثمن بخس. ومن شأن ذلك أن يحلّ، على الأقل، واحدة من مشاكل الصراع. في الحقيقة، إن ذلك سيخدم مصالح جميع الأطراف الفاعلة بشكل معقول، بإستثناء روسيا.
في الواقع، إن خطي الأنابيب سيكونان بمثابة كارثة للكرملين. لدى روسيا مصلحة حيوية في السيطرة على إمدادات الغاز إلى أوروبا، حيث تبيع “غازبروم” 80 في المئة من إحتياجاتها من الغاز. لقد نجح الإتحاد الأوروبي في تنويع مصادر وارداته في السنوات الأخيرة (جزئياً من خلال واردات الغاز المسال) وتسعى إلى تطوير خطوط أنابيب إضافية من آسيا الوسطى والشرق الأوسط لزيادة خفض إعتمادها على الغاز الروسي. إن خطوط أنابيب جديدة من قطر وإيران يمكنها أن تسلب حصة من روسيا في السوق، ولكن الأهم سوف تؤدي إلى تخفيض الأسعار أقل مما تحتاج إليه موازنة الدولة الروسية من أجل الصمود والبقاء.
أظهرت روسيا من قبل عن إستعدادها لخوض حرب بسبب مثل هذه القضايا. خاضت حرباً في جورجيا لإحباط خطط غربية لتصدير الغاز من منطقة بحر قزوين الى الغرب عبر أذربيجان وجورجيا إلى تركيا. ذهبت إلى الحرب في أوكرانيا من أجل السيطرة على دولة عبور حيوية بين روسيا وأوروبا. ومن المعقول التوقع أن تنخرط روسيا في قتال لمنع خط الأنابيب القطري من عبور سوريا في طريقه إلى أوروبا وإلى جعل الصادرات الإيرانية تعتمد على الدعم الروسي. وهذا ما يفسر أيضاً لماذا إختارت روسيا إستهداف الجماعات المتمرّدة التي تموّلها السعودية وقطر في سوريا في حملة القصف، ولماذا أن مشاركة روسيا قد عزّزت عزم دول الخليج.
عندما تؤخذ إعتبارات الطاقة هذه بعين الإعتبار، يبدو واضحاً بأن تسليم سوريا للمصالح الروسية والإيرانية، كما أوصى البعض في الأسابيع الأخيرة، سيكون كارثة. لكن التفاوض على الحلّ سيكون صعباً للغاية مع موسكو عندما تتعارض المصالح الأميركية والروسية بشكل حاد. يجب على الولايات المتحدة الوقوف بشكل حازم وإستغلال الأزمة للبدء في إصلاح العلاقات مع تركيا، والمملكة العربية السعودية، والدول الحليفة التقليدية الأخرى في الشرق الأوسط، والتي توترت العلاقات معها جراء الإضطرابات التي نتجت من “الربيع العربي”. إن تركيا تقع على مفترق طرق بين آسيا وأوروبا، ويمكنها أن تمثّل أفضل فرصة للعب دور الوسيط النزيه في نقل الغاز وضمان، مع دعم أميركي، أن جميع موردي الغاز في الشرق الأوسط لديهم القدرة على تصدير ونقل سلعهم القيِّمة بحرية تامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى