هل تُعيدُ مصرُ علاقاتها مع إيران؟

كابي طبراني*

منذُ أشهرٍ عدّة تستمر جهودُ وساطةٍ هادئة بين مصر وإيران سعيًا إلى إنهاء أحد أطول النزاعات في الشرق الأوسط، والذي غالبًا ما يتمُّ تجاهله. في أيار (مايو) الفائت، أشارت تقاريرٌ موثوقة إلى أنَّ محادثاتٍ مصرية-إيرانية تجري في بغداد منذ آذار (مارس). وفي وقتٍ لاحق من ذلك الشهر، زارَ سلطانُ عُمان، هيثم بن طارق، كلًّا من القاهرة وطهران، وهو أمرٌ فُسِّرَ على أنه محاولةٌ للتوسّط في المصالحة بين العاصمتين.

وقد أيَّدَ العديدُ من المسؤولين الإيرانيين، بمَن فيهم المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، هذه الجهود علنًا. وقال عضوٌ في البرلمان الإيراني أنه يتوقّعُ أن تُتَوَّجَ المحادثات باستعادةِ العلاقات الرسمية وتُمهِّدَ الطريقَ لاجتماعٍ بين رئيسَي البلدين. لكنَّ المسؤولين المصريين، من جانبهم، حافظوا على موقفٍ حذر من هذه القضية، حيث قال وزير الخارجية سامح شكري إنَّ الوَضعَ الراهن مع إيران لم يتغيّر.

الواقع أن العلاقات بين مصر وإيران توتّرت منذ أكثر من أربعة عقود، تخلّلتها فترات من الهدوء. يُمكِنُ أن تُعزى هذه التوتّرات جُزئيًا إلى الأحداث الدرامية التي وقعت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات الفائتة، عندما منحت مصر ملاذًا للشاه الإيراني محمد رضا بهلوي بعدما أطاحته “الثورة الإسلامية” في العام 1979. عاش الشاه في القاهرة حتى وفاته في العام 1980، حيثُ دُفِنَ أيضًا هناك. لإعلان الإحتجاج على ذلك، قطع حكّام إيران الجُدد العلاقات مع مصر. وفي وقت لاحق، عندما اغتال جندي “إسلامي” في الجيش، يُدعى خالد الإسلامبولي، الرئيس المصري آنذاك أنور السادات في العام 1981، أطلقت السلطات في طهران على شارعٍ رئيسي في المدينة اسم ذلك الجندي. واستمرت المرارة التي نشأت بين الجانبين في تسميم العلاقات الثُنائية لبعض الوقت.

بالإضافة إلى هذه الانحرافات الرمزية، هناك عددٌ من الاعتبارات الإستراتيجية التي دعمت الصَدع. بعد عقدٍ من الحماسة الثورية في إيران التي خلقت علاقات عدائية مع جميع جيرانها تقريبًا، سعت طهران إلى وضعِ حدٍّ لعزلتها الإقليمية. لكن مصر، باعتبارها حليفًا رئيسًا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتلقّى حوالي ملياري دولار من المساعدات الأمنية والاقتصادية من واشنطن كل عام، لم تشعر بالحاجة إلى إصلاح علاقاتها مع دولةٍ اعتادَ قادتها على وصف أميركا ب”الشيطان الأعظم”. بحلول الثمانينيات والتسعينيات، طوّرت مصر أيضًا روابط سياسية واقتصادية وثيقة مع دول الخليج العربي، وخصوصًا مع المملكة العربية السعودية، التي تَعتَبِرُ إيران تهديدًا أمنيًا.

وقد رأى الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، الذي حَكَمَ من 1981 إلى 2011، أنَّ التقرّبَ من إيران قد يُعرّضُ للخطر تحالف بلاده الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، وكذلك مع دول الخليج. علاوةً، في مواجهةِ مُعارضةٍ إسلامية شرسة، شعرَ بعدم الارتياح إزاء ترويج إيران لشكلٍ عابرٍ للحدود من النشاط الإسلامي، واشتبه في أنَّ طهران تهدفُ إلى تنمية العلاقات مع الجماعات الإسلامية المصرية. بعد الإطاحة بمبارك في العام 2011، سعى الرئيس المُرتَبِط بجماعة “الإخوان المسلمين” محمد مرسي إلى إعادة العلاقات، وزار طهران في العام 2012 واستقبل الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في القاهرة في العام التالي. لكنَّ الدفءَ الذي لم يدم طويلًا انتهى بعد صعود الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في 2013.

ومع ذلك، ظهرَ وضعٌ جديد في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، بسبب التصوّرِ بأنَّ الولايات المتحدة تتراجع تدريجًا عن المنطقة. فيما قلّصت واشنطن التزاماتها وحوّلت تركيزها واهتمامها إلى المُحيطَين الهندي والهادئ، استجابت القوى الإقليمية على ذلك من خلال تنويع شراكاتها الدولية وتعزيز علاقاتها مع روسيا والصين على وجه الخصوص. كما إنّها أصبحت أقل رغبةً في الاستجابة لمطالب الولايات المتحدة. في آذار (مارس)، توسّطت الصين في صفقةِ تطبيعٍ تاريخية بين السعودية وإيران. وفي أيار (مايو)، أُعيدَ قبول سوريا في جامعة الدول العربية بعد 11 عامًا من التعليق، على الرُغم من انتقادات واشنطن العلنية لهذه الخطوة. في هذا السياق، يُعَدُّ الحوار المصري-الإيراني جُزءًا من جهود مصالحة إقليمية أوسع لا تملك الولايات المتحدة سيطرةً تُذكَر عليها.

ليس هناك شك في أنَّ إيران تهدف من المحادثات مع مصر تخفيف عزلتها النسبية في العالم العربي وتقويض الجهود الأميركية والإسرائيلية لتشكيلِ جبهةٍ عربية مُعادية لإيران. في الواقع، باعتبارها الدولة العربية الأكثر اكتظاظًا بالسكان، فإن مصر هي آخر دولة عربية كبرى متبقية لم تبدأ على الأقل ترميم علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية. دوافعُ مصر أقل وضوحًا. مُحاطة بالعديد من النقاط الساخنة التي يُحتَمَل أن تكون مُعدية في ليبيا والسودان وغزة، لدى القاهرة  مصلحة في تعزيز الإنخراط والاعتدال في جميع أنحاء المنطقة. بعد ما يقرب من عقد من العداء، على سبيل المثال، طبّعت مصر أخيرًا علاقاتها مع قطر وقلصت من خلافاتها مع تركيا.

يمكن رؤية الحوار مع طهران من هذا المنظور. القاهرة على علم بنفوذ إيران على حركة “حماس” والفصائل الفلسطينية الأخرى المتمركزة في غزة. من وجهة نظرها، يُمكنُ تسخيرُ تفاهمٍ مع إيران لتهدئة سلوك هذه الجماعات المتشدّدة.

ولكن ربما هناك ما هو أكثر من ذلك. تمرُّ مصر في خضم أزمة اقتصادية حادة أدّت إلى خفض قيمة عملتها إلى النصف وتعطيل التدفقات التجارية. في مواجهةِ نقصٍ حاد في العملات الأجنبية، سعت إلى أشكالٍ مختلفة من المساعدة المالية من المؤسّسات المالية الدولية ودول الخليج الغنية بالنفط وحتى دول مثل الهند وليبيا التي مزّقتها الحرب.

إيران، التي تواجه تحدياتها الاقتصادية الخاصة بسبب تأثير العقوبات الأميركية، ليس لديها الكثير لتقدّمه في شكلِ مساعداتٍ مباشرة. لكن تحسّن العلاقات يمكن أن يكون نعمةً لقطاع السياحة في مصر. كونها موطنًا لعشرات الأماكن المقدسة الشيعية والمساجد والأضرحة، يمكن لمصر أن تجتذب أعدادًا كبيرة من الزوار الإيرانيين –الذين مُنِعوا من دخول البلاد منذ عقود– إذا تمَّ تطبيعُ العلاقات. يمكن أن يقدم ذلك مساهمةً مهمة لاقتصادها الذي يُعاني من ضائقة مالية. في الواقع، تمَّ بالفعل اتخاذُ خطوةٍ في هذا الاتجاه في آذار (مارس)، عندما خففت السلطات المصرية من أنظمة التأشيرات للسماح للإيرانيين المسافرين في مجموعات إلى جنوب سيناء الحصول على تأشيرات عند الوصول. يمكن أن يؤدي التقارب أيضًا إلى تعزيز التعاون الاقتصادي، بما في ذلك في قطاع النفط الحيوي.

ومع ذلك، فإن استعادةَ العلاقات المصرية-الإيرانية ليست نتيجةً متوَقعة سلفًا، حيث تسير مصر حاليًا بحذر على هذا المسار. وقد استخدمت الأجهزة الأمنية ذات النفوذ حق النقض ضدّ خطواتٍ مُماثلة في الماضي، على الرُغم من مَيلِ كبار الديبلوماسيين في البلاد للنظر في الخيارات التصالحية. بالإضافة إلى ذلك، تحرص مصر على عدم استفزاز حلفائها الخليجيين، الذين نظروا تاريخيًا بارتياب إلى التقارب المصري-الإيراني، خوفًا من أن يخلَّ بتوازنِ القوى الحسّاس في الخليج. والآن بعد أن سعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى الانفراج مع إيران، فقد ترفعان اعتراضهما على أن تحذو القاهرة حذوهما.

ولكن، إذا نجحت، فإنَّ تطبيعَ العلاقات بين مصر وإيران من شأنه أن يكشفَ مرة أخرى دور واشنطن المُتضائل في التأثير في الديناميكيات الإقليمية. مع تآكل السلام الأميركي في الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي، قام الفاعلون المحليون بشكلٍ متزايد بتشكيلِ ملامح السياسة الإقليمية، غالبًا بالتعاون مع الصين وروسيا. لكنَّ الخاسرَ الأكبر من مثل هذه النتيجة ستكون إسرائيل، التي تشعر بالتهديد من برنامج إيران النووي وتعتبرُ طهران ووكلاءها قوى شريرة لا يمكن المساومة معها. إنَّ إعادةَ دَمجِ إيران وسوريا في المجتمع الإقليمي لن يؤدّي إلّا إلى تفاقم مخاوف إسرائيل الأمنية.

قد تساعد الموجة الأخيرة من صفقات المصالحة في الشرق الأوسط على تهدئة التوتّرات في المنطقة. لكن إلى متى؟ الصراعُ مُستوطِنٌ وراسخٌ بين دولها، وغالبًا ما تكون فترات السلام عابرة. لكن إذا نجحت مصر وإيران في تطبيع علاقاتهما، فسيكون ذلك على الأقل خطوة نحو معرفة الإجابة عن هذا السؤال.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى