“Métastases”

رشيد درباس*

“قَبلَ  أن تُناقِش، تنفّسْ
وقبلَ أن تتكلّم، اسمعْ
وقبل أن تَكتُب، فَكّرْ
وقبلَ أن تتخلّى، حاولْ
وقبل أن تموت، عِشْ”
(وليم شكسبير)

خُلِقَ الإنسان على أحسن تقويم، فهو يتغذّى وينمو وَفْقَ قوانين دقيقة، مَن ثابرَ على احترامها بعد بلوغه الوعي، صانَ جسده من الضُّرِّ وتمتّع بصحّةٍ طيبة. أما المُزدَري بتلك القوانين، المدْخِلُ النيكوتين إلى مفردات التنفّس، وإدمانَ الكحول إلى مختبرات الكبد، والمتْخِمُ الآذانَ بالضجيج والعيونَ بالقذى، فهذا خارجٌ على القانون مستحقٌّ للعقوبة.

كلُّ ما في الكَونِ له قانونه، “فلا الشمس ينبغي لها أن تُدرِكَ القمر، ولا الليل سابق النهار، وكلٌّ في فلكٍ يسبحون” (ص.ع.) كذلك الهواء له طبقاتٌ ذوات أنظمة، من افترى عليها كان كَمَن يثقب المظلة في عزِّ المطر، أو كَمَن تُغريه المراهقة بالإسراف في إنفاق شبابه، فَيُلْزمُ بعد ذلك بدفع ديونه مُبكرًا.

والدولة أيضًا جسدٌ آدميٌّ، يتكوّن جهاز مناعته من الدستور والقوانين.  من هنا كان بلاؤنا الأوّل عندما رضينا أن يُعَدَّلَ الدستور “لمرّةٍ واحدة ونهائية” فأدخلنا بذلك (كل زُناةِ الليل إلى حجرته) كما قال مُظَفَّر النَّواب؛ وغدت كلمة “لمرّةٍ وحيدة” نكتة دستورية، أو مهزلة تُمثَّل على مسرح الدولة الذي راحَ يترنّحُ تحت أقدامِ “المُمثّلين” والراقصين.

وعلى الرغم من أن النصَّ الذي يمنعُ المُوَظّف من تولّي الرئاسة الأولى كان مقصودًا بذاته، بعد التجربة المريرة، فإن الأمور اتخذت سبيلًا مُعاكسًا للنصِّ والقصد معًا، وتقلَّدَ الرئاسة على التوالي ثلاثة قادة للجيش، فكان ذلك شروعًا في استباحة النظام الصحّي للدولة، بدءًا بإفقادها “المناعة النَّصِّية” مرورًا بتكاثر الخبراء الدستوريين الحائمين حول النصوص حَوْمَ الكواسر على طريدة مهيضة. وكانت الطامة الكبرى استسهال العبث بمواعيد الاستحقاقات الدستورية، الذي يوازي التلاعب بمواقيت الليل والنهار وتعاقب الفصول. وهنا أتذكّر قولَ رشدي معلوف:” الكلّ طبّقوا قرار تقديم الساعة إلّا الديك، فهو لا يصيح ولا يوقظ  صيصانه ودجاجه إلّا عندما يرى النور، لأن ثقته بنظامِ الكون أقوى من ثقته بنظام الحكومة”. وهذا ما حدث عندنا فعلًا، إذ تعامى عن النور المُتَحكِّمون، واخترعوا لنا أنوارًا لا تتولَّدُ إلّا افتراضًا من معامل حسن الظن بوعودهم، ففقدنا ضوءَ الدستور الذي ما كنّا لِنَضِلَّ لو اتبعناه، وفقدنا طبعًا نور الكهرباء التي اكتشفنا أن لا حاجة لنا بها، لأن جدودنا كانوا من أهل الفوانيس، كما قال نائبهم الجزيل الاحترام.

تسلّلت أولى خلايا السرطان إذًا من ثغرة اختراق الدستور ومواعيده، والثانيةُ من التجاهل المُتَعَمَّد لاستشراء ازدواجية السلطة باعتماد الثلاثية الذهبية، فذلك كان مؤشرًا حاسمًا إلى أن الدولة بدأت تفقد تعريفها كمُحتكِرٍ للسلطات وللقوّة القمعية. ولهذا راح يَتَفَشَّى “العضال” فيما يُسَمىَّ طِبّيًا “voyage de métastases”  فصارَ تشكيل الحكومة رهنًا بالشهور الطويلة ريثما تُثمِرُ المساومة عن فعلٍ فاضحٍ علني، وتعوّدت المراسيم على البَياتِ في الأدراج، وانفلت التحفّظ القضائي من عقاله بحيث سوغت بعض المحاكم لأنفسها تخطّي حدودها الجغرافية لتغتصب صلاحيات جيرانها، من غير أن تلقي بالًا للصلاحية النوعية، ولا تتقيد بالقوانين، حتى إن بعضًا ممن أعيته الحيلة فلم يجد سندًا من القانون لجموحه الإعلامي، راح يسند قرارًا له خاطئًا بقرارٍ له خاطئ سابق، ثم يُخاطب الجماهير حاثًّا إيّاها على دعمه بالتظاهر والمواكبة ووسائل التواصل. أما الملاحقات فهي غبَّ الطلب السامي، حتى بات المواطن يناجي ربه قائلاً:” الَّلهم لا أسألك ردَّ (القضاء)  ولكن أسألك اللطف فيه”.

هكذا انتشر الداء وتعذّرت عملية استئصاله بعد أن غادر الجرَّاحون وهَيمَنَ الجارحون، وغاب العلاج الكيماوي برحيل الأُساة وبقاء القُساة، واستحالَ العلاج بالراديو بعد مصادرة شعاع الشمس وإعادة الأشعة السينية والليزر إلى منشئها في بلاد الغرب، وذلك استعدادًا للتوجه شرقًا، والعلاج بالأعشاب المزروعة على سطوح المنازل.

لكن، ورُغمَ ما حاق بنا ويُحيق، علينا ألّا نستسلم لموازين القوى الراهنة استسلامنا للقدر، فوضع اليد الفعلي على الدولة لا ينبغي له، أن يتحوّلَ إلى وضع يد “شرعي” من خلال انتخابات بدأ تزويرها بقانونها الخبيث، وتمدّدَ عبر فوضى الترشح المشفوعة بتعليق النشاط والاعتكاف والاعتزال، ناهيكم عن عفّةِ نفسٍ مُسْتغرَبة… ذلك أن المشروع القائم الذي أدّى إلى إفقار الدولة والمجتمع لن تُكتَبَ له أسباب الحياة لأنه مُخالفٌ لقانون الطبيعة وأمزجة البشر وأنماط الإنتاج والثقافة القائمة.

هناكَ مَن يقول: إن ما يجري وضعَ خريطة لبنان في برّادِ انتظار ما ستسفر عنه “فيينا” من إطلاق يدٍ إيرانية مُتوَقّع، وما سيؤول إليه الوضع في أوكرانيا، بعد أن دخل المجتمع الدولي في رمالٍ مُتحرّكة أحدثت اضطرابًا خطيرًا في أنماط الحياة على سطح الكرة الأرضية من تفلّتِ الأسعار وغلاء المحروقات والغذاء، حتى بات لبنان على جَمْرين من انتظار، وتردّي أحوال.

من هنا ألفت القراء إلى ما كتبه الدكتور غسان عياش في “نهار” الأربعاء الماضي، من أنه ينبغي علينا ألّا نخدع أنفسنا بأننا سنتخطّى الأزمة التقدية والمعيشية بسهولة، كما حدث من قبل، لأن بُنيتنا الاقتصادية التي قامت أصلًا على حرية خروج العملات من لبنان ودخولها إليه، أنشأت ثقة بالنظام اللبناني وبمؤسساته الدستورية والسياسية الحامية لفكرة الاقتصاد الحر الموثوق، وهذا  كان كفيلًا بإعادة البحبوحة إثرَ كلِّ أزمة. أما بعد انهيار النظام المصرفي وتلاشي الثقة الائتمانية فلن يتم الخلاص إلّا بعملية استنقاذ عربية ودولية على غرار ما حدث لقبرص واليونان، مع فارق الظروف والمصالح. وهذا يُعيدُنا إلى أن فكرة لبنان الكبير قامت على كونه مساحة حرة مُتنوِّعة، تتقبّل مناخات شتّى والفصول جميعَها، وتشرّع شرفاتها والنوافذ لتجدد الهواء، وفضاءاتِها للسنونو واللقلاق وباقي الطيور المهاجرة، أما الآن، فالهواء أسِنَ من إغلاق الشبابيك، والسنونو الأليفة فَرَّت من شدة الزعاق، والعربَ انفضّوا من حولنا، وفرنسا رجعت إلى صفوف المتفرجين.

بعد هذا الوصف الواقعي كلّه، يقتضيني الإنصاف أن أرفع لغبطة البطريرك بشارة الراعي وسماحة المفتي عبد اللطيف دريان وسيادة المطران الياس عودة شكري العميق، لأنهم من مواقعهم الرفيعة، يقفون سورًا معنويًّا وأخلاقيًّا ووطنيًّا بوجه اليأس والاستسلام، ويقولون الكلام الدسم الخالي من التورية، ويناشدون اللبنانيين أن  انتبهوا وتوحّدوا، ويخاطبون الأشقاء لائمين وآملين، ويلفتون المجتمع الدولي إلى أن إدارة الظهر لمشروع تغيير هوية لبنان لن يُخلِّفَ إلّا المآسي المتوالدة.

إن كان ثمة خُلاصة مما تقدّم، فهي أن الشعب اللبناني دفع غاليًا جدًّا، وعلى مسافات طويلة من السنين، ثمن تمسّكه بعروبته وحماسته للقضايا القومية، وهذا رصيدٌ له ثمين. لكنه، وبسبب رونقه القائم على الحرية الفكرية والثقافية والاقتصادية، يعي اليوم تمامًاً أن أرقى درجات السياسة التنميةُ وخلقُ فرص العمل، والتقيدُ بالدستور والقوانين، وأن أحطَّ أنواعها الخطابُ الغرائزي الفارغ، الذي يسلبك الواقع، ويبيعك الأوهام والمعاناة.

قبل أن نستسلم للموت، علينا أن نُمارِسَ الحياة؛ هكذا تكلّم شكسبير.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صُدورِه في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى