إدارَةٌ لا إدارات في لبنان: مَن يَجرُؤ؟

الدكتور غسان الشلوق*

قد يكونُ القطاعُ العام في لبنان هو القطاعُ شبه الوحيد الذي لم يَحظَ حتى الآن بتصحيحِ الحَدِّ الأدنى للرواتب الهزيلة في حين ذهبَ القطاعُ الخاص إلى خطواتٍ بدأت رمزيةً ثم توسَّعت، لكن من دون أن تُصبِحَ كاملةً أو شاملة. وللتدليل على ذلك تكفي الإشارة إلى أن حسابَ  مستوى أسعار نهاية الفترة لمديرية الإحصاء المركزي يشيرُ إلى أن  هذا المستوى تضاعفَ 9.67 مرات (في مقابل ارتفاعاتٍ قياسية بلغت نحو 44 مرة للمواد الغذائية والمشروبات غير الروحية) منذ تشرين الاول/ أكتوبر 2019 وحتى أيار/ مايو 2022. وعلى الرُغم من أن هذا المؤشر ليس دقيقًا خصوصًا أنه يَستندُ إلى تثقيلاتٍ قديمة (2012) وإلى سلّةِ مُستهلِكٍ تبدّلت جوهريًا، إلّا أنه يُعطي صورةً عن مدى الانهيار الذي ضرب مستوى عيش اللبنانيين، لا سيما منهم الأُجَراء الذين يتقاضون رواتب مُحتَسَبة بالليرة. ودفعت هذه الصورة بأُجورِ العمال والموظّفين إلى أدنى المستويات االمعروفة  في الدول الفقيرة، بينما غابت في الداخل التحرّكاتِ الاعتراضية ما خلا حركة موظفي الإدارة المشروعة بعدما  صادرت  السلطة “النقابات الرسمية” وأفرغتها كما أفرغت هيئات ومجالس عدة من أيِّ مضمون.

وإذا كانت مرونة الحركة والخلفية الانتاجية الاقتصادية (بمعنى ضرورات الاستمرار في العمل والإنتاج) لا تلك الاجتماعية تحكم أوّلًا مبادرات أهل القطاع الخاص فإن تصرّفَ الحكومة كصاحبةِ عملٍ تعكس نوعًا من رسالة إلى كلِّ أصحابِ الشأن بدءًا بالموظّفين تقول إنهم مشكلةٌ مالية قبل أن يكونوا حاجةً إنتاجية وإدارية، وأن أيّ مُعالجة حقيقية لا يُمكنُ أن تكونَ بتصحيحٍ فعلي كما يشتهي الموظفون وأن المطلوب دفع الموظفين إلى تركِ وظائفهم أو “تدبير أمورهم” كما يحلو لهم، وهو ما يعني الدفع باتجاه الفساد المُقَونن علنًا.

وتترافَقُ هذه الرسالة مع استمرارِ الهدر في المال العام الذي يُقدَّر حتى اليوم بما بين 10 و15 في المئة من الإنفاق، كما تترافق مع تحليلاتٍ منها أن حجمَ القطاع العام بات لا يُحتَمَل وأن تعويضاتَ مُتقاعدي هذا القطاع باتت أحد ثلاثة ابواب رئيسة في الموازنة وأن مالية الدولة لا تسمح بأيِّ إنفاقٍ إضافيٍّ واسعٍ، وأن أقصى ما يُمكِنُ فعله هو هذه “المساعدة الاجتماعية” المُجتَزَأة والمُهينة، أو تعويضات نقل محدودة  يظل الالتزام بدفعها مُرتبكًا.

كل هذا “المنطق” يصطدم بأخطاءٍ وثغراتٍ عدة منها:

  1. إن الإدارة بمعناها العملي، أيّ موظفو الوزارات تحديدًا، لا تُمثّل سوى7-8% من مجموعِ مُجتمعٍ ما يُسمى الموظفين باعتبار ان نحو 40% من هذا المجتمع هم عسكريون وأن 12-14% هم في قطاع التعليم. وثمة مجموعات بعضها كبير في المؤسسات العامة والبلديات ….وبكلامٍ اّخر فإن تعظيم حجم المشكلة للتصويب على مجموعةٍ محدودة هي مجموعة الموظفين فعلًا في الإدارات هو كلامٌ غير صحيح أبدًا.
  2. إن الفائض الكبير وغير المُنتِج أحيانا يتركّزُ أساسًا في بعض الأجهزة الأمنية وفي قطاع التعليم وفي مؤسّساتٍ عامة عدة. فعلى رُغمِ الجهد والدور الفعّال والوطني الذي يقوم به الجيش اللبناني لا سيّما في الألوية المُتَحَرِّكة منه، إلّا أنّ الصدقية العلمية تفرض الإشارة إلى ثغراتٍ في بعض أجهزة الأمن الداخلي (التي يتولّى الجيش أحيانًا أدوارًا لها) بكل مُسَمَّياتها باستثناءِ أجهزةٍ مُحَدَّدة طبعًا.

أما في التعليم فثمّة فائض كبير وأعداد من غير المُنتجين في التعليم الابتدائي بشكل خاص ثم في التكميلي وصولًا حتى  إلى الجامعي. وأما في المؤسسات العامة فمشكلة (كارثة) غير العاملين تتجدّد بشكلٍ صارخ والأسوأ أن أبوابَ “التوظيف” لا تُقفَل، وأنّ غير عاملين “يضربون” عن “العمل” بدعمٍ ملفت أحيانًا.

  1. إن المشكلة هي أساسًا في هذه “الإدارات” وفي “الموظّفين” غير العاملين قبل أن تكونَ في الإدارة بمعناها الضيّق على رُغمِ شوائب عدة في هذه الادارة. والمؤسف أنّ هذه الشوائب تزداد كعدوى من “الإدارات” الرديفة وغير المنتجة ومنها ما يُترجَم بالفساد والزبائنية والغياب لا سيّما في مجالس وصناديق ومؤسسات “رسمية” لا عمل فعليًا لها… ويترافق كل ذلك مع تفريغِ دورِ أو “تهذيب” أجهزة الرقابة التي ما زالت تذخر بكفاءاتٍ نظيفة ومنها الخدمة المدنية أو التفتيش المركزي …
  2. إن تعويضات التقاعد مُستقلّة عن الموازنة، ويجب أن تكونَ كذلك، وقد دفعها الموظفون لا سيّما في الإدارة جبايات ملموسة من مرتباتهم خلال سني خدمتهم.

ولكن هل تبقى الصورة على ما هي عليه وكيف تكون المعالجة؟

إن استمرارَ السياسات القائمة تعني بالتأكيد تدمير الإدارة ولو بعد حين، وهذا خيارٌ يجد للأسف مَن يُرَوِّجُ له ويدعمه بأشكالٍ مُختلفة ولأسبابٍ سياسية أو اقتصادية أو حتى نظرية عدة مُعلَنة أو غير مُعلَنة. وواضحٌ أن لبنان الدولة والمجتمع لا مصلحة له مُطلقًا في هذا الخيار، بل أن المصلحة الأكيدة تكمنُ في عمليةٍ جراحيةٍ إصلاحيةٍ كبيرة تستند إلى حتمية وجود الدولة، بكل مضامينها الإيجابية، وتفترض بالضرورة خطوات تبدأ حالًا ويتولّاها مسؤول يجمع الجرأة إلى الكفاءة ونظافة اليد و… الفكر.

من هذه الخطوات:

أ- الدخولُ حالًا، ولو بشكلٍ مَرحليّ، في عملية تشذيب الإدارة من غير العاملين، بدءًا بالمؤسسات العامة والشركات المملوكة للدولة والمجالس والصناديق. وهذا الأمرُ مُمكنٌ وبوسائل عدة خصوصًا أن نسبة “الموظفين” العاطلين من العمل ربما تجاوزت 40% في كل مجتمع القطاع العام، وهي نسبةٌ قياسيّة في دول الاقتصاد الحرّ، خصوصًا أن عدد “العاملين” نفسه غير معروف تمامًا حتى لكبار المسؤولين بما يُفسِّرُ الضياع في مقاربة الملف.

ب- تصحيحُ رواتب وتعويضات الموظفين بشكلٍ عادل وإن مرحليًا أيضًا. ويجب أن يتمَّ ذلك جنبًا إلى جنب مع عمليةِ إصلاحٍ واسعة للإدارة تمنح فيها أجهزة الرقابة صلاحيات استثنائية واسعة، ربما بعد تصويب أوضاعها. ويُمكِنُ أن يُطرَحَ في هذا المجال بدء إعادة نظر بالكادرات الإدارية بما يسمح بتعويضاتٍ عادلة لموظفي المجموعة الأولى العاملة فعلًا والمنتجة، وإرجاء ملفات غير العاملين ريثما يُحسَمُ مصيرهم.

ت- يجب ان يترافق ذلك مع معالجةٍ جريئة للفساد بكل أشكاله، وكذلك لسوء الإنفاق والهدر وفق معايير عقلنة الإنفاق المعروفة في الدول المُتقدّمة بحيث يُقاسُ كلُّ إنفاقٍ بحسب عائداته وفعاليته. ولا بدّ أن تُعتَمَدَ السياسةُ نفسها في الجهاز الأمني الذي قامت سياسةُ العقلنة من أجله أوّلًا في الولايات المتحدة ثم في أوروبا وسواهما. ولا يجوز على سبيل المثال لا الحصر استمرار سفر وزراء (ووفود كبيرة) لِلا سبب أو أن يدفع سفيرٌ في سفارة لا دور ملموس لها (ولما كل هذه السفارات أساسًا؟) بدل موقف لسيارته في المنزل ما يعادل رواتب كامل موظفي إدارة وسطى في لبنان …

ث- أما الحديث عن انعكاساتِ أيِّ عمليةٍ إصلاحية على معدّلات البطالة، فإذا صحّ، فإنه لا بدّ أن يستندَ إلى واقعِ أن الإدارة ليست مكانًا لِلا عمل وأن معالجة البطالة تمرّ أوَّلًا عبر النشاطِ الإنتاجي .

ج- ولا بدَّ أيضًا من إنشاءِ جهازٍ خاصٍ ومُستقلٍ تمامًا لتعويض المتقاعدين يعتمد نظامًا مُتَطوّرًا للجباية والإنفاق. وربما أُنشِئ حهازٌ أو أكثر للمتقاعدين الإداريين والعسكريين والمعلمين و… خصوصًا أنَّ هؤلاء يُسساهمون بأشكالٍ مختلفة وغير متساوية في تمويل التقاعد والإحالة إليه. وفي كلِّ حال، فإنَّ أموال التقاعد هي للموظفين حصرًا وقد دفعها هؤلاء من رواتبهم وليست يأيِّ حال جُزءًا من الموازنة العامة للدولة.

ح- إن سياسة الأجور لا يُمكِنُ أن تكونَ إلّا جُزءًا من سياسةٍ إقتصاديةٍ إجتماعيةٍ إنقاذيةٍ فعلًا وشاملة للدولة وللمجتمع، وهي سياسة طال انتظارها وباتت اليوم أكثر إلحاحًا وتتطلّبُ جرأةً استثنائيةً.

مَن يَجرُؤ؟

  • الدكتور غسان الشلوق هو بروفسور في العلوم الاقتصادية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى