أنابيب الغاز الإسرائيلي “تؤرق” السلام
فيما تقضم إسرائيل الأراضي الفلسطينية على قدم وساق من دون أي رادع، تحاول من جهة أخرى تطبيع تجارة الطاقة مع الفلسطينيين والأردنيين ودول عربية أخرى… مستبعدة أي خطوة بإتجاه السلام، وكل ذلك يجري تحت مظلة وزارة الخارجية الأميركية.
عمان – ليلى الشامي
في تشرين الأول (أكتوبر) 2014، أعلنت إسرائيل عن عقد صفقة غاز مع الأردن بلغت قيمتها 15 مليار دولار، والتي بموجبها تقوم الدولة العبرية بتصدير 1.6 تريليون قدم مكعبة من الغاز إلى المملكة الهاشمية على مدى السنوات ال 15 المقبلة، بدءاً من العام 2017، وذلك من واحد من حقلين نفطيين إكتُشفاً حديثاً في البحر الأبيض المتوسط. وكان هذا الإتفاق الأحدث في سلسلة من المفاوضات التي أجرتها إسرائيل وتحاول إجراءها في المنطقة. وكان الإتفاق السابق تم توقيعه مع شركة فلسطينية في كانون الثاني (يناير) 2013، والذي بموجبه تحصل الأخيرة على 168 مليار قدم مكعبة من الغاز الإسرائيلي على مدى 20 عاماً مقابل 1.2 مليار دولار. كلٌّ من هذين الإتفاقين، اللذين رعتهما وزارة الخارجية الأميركية، سوف يجدّد ظاهرياً التعاون الإقتصادي، وربما السياسي، بين إسرائيل والدول العربية –وقد أعربت مصر أيضاً عن إهتمامها في إستغلال الإحتياطات الضخمة. ونتيجة لذلك، نُعِت الغاز الإسرائيلي بأنه “شريان الحياة من أجل السلام” في الشرق الأوسط. ولكن مفاوضات الطاقة التي جرت وراء الأبواب المغلقة، وبدعم شعبي لا يُذكر، لن يكون بمقدورها فعل الكثير لتحقيق سلام فعلي.
طاقة غير آمنة
الحقلان الجديدان الإسرائيليان –”تامار” (Tamar) و”الطاغوت” (Leviathan)– إكتشفتهما الشركة الأميركية “نوبل إينرجي” في عامي 2009 و2010. وقد حدث الإكتشافان تماماً في الوقت المناسب. لقد كانت إسرائيل إستنفدت تقريباً خزاناتها المحلية، وفي العام 2012، فقدت إمداداتها من الغاز الرخيص من مصر – والذي كان يؤمّن في السابق أكثر من 40 في المئة من إستهلاكها المحلي– بعدما أقفلت الحكومة المصرية التي يقودها “الإخوان المسلمون” الصنابير على الدولة العبرية. إن تجارة الطاقة بين تل أبيب والقاهرة، التي ينظر إليها المصريون منذ فترة طويلة كإبتزاز غير مستساغ سياسياً، قد أدت إلى موجة من الهجمات على منشأ خط الأنابيب في بلدة العريش في سيناء. وقد أمل محمد مرسي، الرئيس في ذلك الوقت، في أن يتمكّن من تخفيف المعارضة الداخلية من طريق إغلاق خط الأنابيب.
أشار قرار مرسي إلى تل أبيب بضرورة إعادة تقييم سياستها في مجال الطاقة –بالتحديد، تعزيز أمن الطاقة والحدّ من إعتمادها على الدول المجاورة. إن تسعة تريليونات قدم مكعبة من الغاز من “ثامار” و17 تريليون قدم مكعبة من “الطاغوت”، تمكّن البلاد من تلبية الطلب المحلي حتى العام 2050 وتجعلها مصدّراً رئيسياً للغاز في المنطقة.
من جهته، فقد تأثر الأردن أيضاً من التفجيرات في العريش، والتي بلغت، ربما عن غير قصد، جزءاً من خط الأنابيب الذي يوجّه وينقل الغاز إلى المملكة الأردنية. بالنسبة إلى بلد يفتقر إلى موارد وثيقة أصلية — حوالي 80 في المئة من إحتياجاته من الغاز من مصر- فإن الخسارة كانت مزعزعة للإستقرار، وخصوصاً بأن مصر لم تستأنف إمداداتها أبداً. ونتيجة لذلك، فقد كان على عمّان اللجوء بسرعة إلى بدائل مكلفة، مثل إستيراد الوقود السائل والديزل من العراق.
ورداً على ذلك، أصدر مجلس الوزراء الأردني قراراً في العام 2012 لبناء محطة لإستيراد الغاز الطبيعي في مدينة العقبة الساحلية في جنوب الأردن. هذه المحطة، التي لديها فترة ديمومة لعشر سنين، ستشتري للحكومة الوقت لإستكشاف مصادر بديلة للإمدادات المحلية، مثل الصخر الزيتي، والطاقة النووية، والطاقة المتجدّدة. وإدّعى المسؤولون المتورّطون في الصفقة بأنه من خلال إستثمار ما يقرب من 65 مليون دولار في هذه البنية التحتية، فإن الأردن سيخفّض حوالي 500 مليون دولار سنوياً من فاتورة الطاقة.
كما أعلن محمد حامد، وزير الطاقة الأردني، بأن أكبر فائدة ممكنة من هذه المحطة كانت أنها ستُعطي “الإستقلال لهذا البلد في مجال الطاقة”، وذلك لأنها تمكّن الأردن من الوصول إلى سوق الغاز العالمي الطبيعي المسال، بدلاً من إعتماده فقط على خط أنابيب غاز في المنطقة. وبحلول نهاية العام 2013، كان الأردن قد أنجز مفاوضات مكثّفة مع شركة “شل” ووقّع معها إتفاقاً للتزويد لمدة خمس سنوات، مع تسليم أول كمية من الغاز في صيف 2015.
ولكن بعد بضعة أشهر فقط على الإنتهاء من صفقة “شل”، أعلنت المملكة الهاشمية بشكل غير متوقَّع أنها ستشتري 1.6 تريليون قدم مكعبة من الغاز من إسرائيل، وهو حجم يساوي مرات عدة أكثر مما كان قد تم الإتفاق على شرائه من شركة “شل”. ويبدو أن الخيار له حيثياته من الناحية الإقتصادية: إن خطوط أنابيب نقل الغاز، سواء من إسرائيل أو مصر، لا بد أن تكون أرخص من الغاز الطبيعي المسال المستورد، الذي يشتمل على معالجة ونقل مُكلِفين. ولكن الاتفاق قوبل بإعتراض واسع النطاق من قبل الشعب الأردني، الذي يعارض أي درجة من التطبيع مع إسرائيل في الوقت الذي تبقى الأراضي الفلسطينية محتلة.
لبيع الصفقة إلى الجمهور، فقد صوّرها حامد بأنها خطوة واجبة ولازمة لتحقيق أمن الطاقة. “لا ينبغي على الأردن أن يكون أسيراً لمصدر واحد للغاز الطبيعي” على حد قوله. مضيفاً:”إن شراء الغاز من “نوبل إينرجي” لا يشكّل خطراً على الأردن ولا يضع الإقتصاد الوطني تحت رحمة أي دولة”.
على الرغم من إدعاءات الحكومة، مع ذلك، فإن الأرقام ترسم صورة مختلفة تماماً: خلال الفترة الأكثر إنتاجية، زوّدت مصر الأردن مع ما يقرب من 250 مليون قدم مكعبة من الغاز يومياً. ويشير الإتفاق الحالي إلى أن إسرائيل يمكن أن توفر للمملكة الهاشمية 290 مليون قدم مكعبة يومياً. وبعبارة أخرى، في إطار هذا الترتيب، تستعد تل أبيب لتصبح المورِّد الرئيسي للطاقة في الأردن. في حين أن محطة الغاز الطبيعي المسال يمكن أن تكون مساراً موثوقاً نحو تحقيق الإستقلال في مجال الطاقة، أو على أقل تقدير، تسمح للحكومة بشراء الوقت للبحث عن مصادر بديلة، فإن الهدف الحقيقي منها ليس واضحاً حتى الآن: فهي كما يبدو ثمثل إلى حد ما عازل صمود للأردن حتى وصول الغاز من إسرائيل. ومن ناحية أخرى، يبدو أن عمّان قد أغفلت حقيقة أن الصفقة، مهما كانت أفضل إقتصادياً، قد ربطت أمن الطاقة في البلاد بالعلاقات العربية الإسرائيلية التي لا يمكن التنبؤ بها.
ربما في ضوء هذه الحساسيات، حاول مسؤولون إسرائيليون وأردنيون التفاوض والتوقيع على صفقات الغاز خلسة وبطريقة سرّية. وقبل أكثر من عام على الإعلان عن الإتفاق في تشرين الأول (أكتوبر) 2014، بدأت وسائل الإعلام الأردنية الشك في أن حكومتها كانت تجري محادثات سرّية مع إسرائيل حول إستيراد الغاز الطبيعي. ولكن في شباط (فبراير) 2013 أصدرت وزارة الطاقة والثروة المعدنية الأردنية بياناً وصفت فيه المزاعم بأنها كاذبة و”لا أساس لها”. على الرغم من أن البيان أكد على أن شركة البوتاس العربية الأردنية كانت تجري محادثات مع “نظيرتها في إسرائيل” عبر شركة أميركية، فإن الوزير السابق للطاقة علاء البطاينة إستبعد أي دور للحكومة، محاولاً تصوير المفاوضات بأنها تجارية بحتة.
في الواقع، مع ذلك، كانت الصفقة نتاج جهود ديبلوماسية مستمرّة بقيادة الحكومة الأميركية. وقد زُعِم بأن عاموس هوشستين، مسؤول رفيع للطاقة في وزارة الخارجية الأميركية، قام ب14 رحلة عمل إلى المنطقة لوضع الأساس للمفاوضات بين تل أبيب وشركة البوتاس العربية في الأردن. كما ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية، بإنه تلقّى في هذا المجال والجهد مساعدة الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز.
بعد شهور من المحادثات، تم توقيع الإتفاقات في شباط (فبراير) 2014 بين الشركة الأميركية “نوبل إينرجي” المتمركزة في هيوستن، وشركتين أردنيتين، “البوتاس العربية” و”برومين الأردن المحدودة”، الأمر الذي يمهد الطريق نحو تعاون فعّال على مستوى الدولة. إن الإتفاق “التجاري” الخاص، والذي عجّل في محادثات أوسع، كان في الأساس حالة إختبار إستخدمتها الحكومة الأردنية لتقييم مدى إستعداد الجمهور للسماح بتطبيع تجارة الطاقة مع إسرائيل. ولما لم يكن هناك إحتجاج علني يُذكر بعد الإعلان الأولي (لم تكن هناك أيضاً دعاية كبيرة)، فقد تم الإعلان، بعد أقل من ثمانية أشهر على توقيع الإتفاق الخاص، عن صفقة الغاز الأكبر بكثير بين شركة الكهرباء الأردنية المملوكة للدولة وشركتين مستثمرتين في حقل “الطاغوت”، “نوبل إينيرجي” الأميركية و”ديليك” الإسرائيلية. ومنذ ذلك الحين، بدأ جهد شعبي عام أكثر تنسيقاً لإلغاء الصفقة.
صفقة غير متوازنة
في الوقت عينه، فيما كانت إسرائيل تتفاوض مع الأردن، كانت تعمل على إتفاق في مجال الطاقة مع شركات فلسطينية. في كانون الثاني (يناير) 2013، وقّعت شركة الطاقة الفلسطينية عقداً بقيمة 1.2 مليار دولار للحصول على 168 مليار قدم مكعبة (4.75 مليارات متر مكعب) من الغاز على مدى 20 عاماً. هذه الصفقة، التي وصفتها أيضاً وزارة الخارجية الأميركية قناة للسلام، تبدو مضلّلة أكثر من الإتفاق الأردني.
لقد سعى الفلسطينيون إلى إستكشاف إحتياطاتهم الخاصة على مدى أكثر من عقد ونصف. وقد إستعانوا بشركة الغاز البريطانية (British Gas)، التي إكتشفت حقلين معروفين بإسم “غزة البحري”، حيث يبلغ مجموع إحتياطاتهما 1.4 تريليون قدم مكعبة من الغاز، ويقعان على بعد أقل من 20 كيلومتراً قبالة ساحل غزة. (هذه الإحتياطيات هي بلا منازع داخل الأراضي الفلسطينية وفقاً لإتفاق غزة-أريحا الموقَّع مع إسرائيل في العام 1994). ودعاهما الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات “هدية من الله إلى شعبنا”.
وفقاً لوثائق الحكومة البريطانية، قبل سيطرة حماس على قطاع غزة في العام 2007، طالبت إسرائيل بأن تبيع فلسطين الغاز من “غزة البحري” بما يقرب من ثلث إلى نصف قيمته السوقية، مما جعل من الصعب على الحكومة الفلسطينية جذب شركات نفط وغاز دولية مستعدة للإستثمار في هذه الإحتياطات مقابل هذا العائد المنخفض. لذا، غير قادرة على جذب الإستثمارات لإستخراج إحتياطاتها الخاصة، ومع حرية قليلة لإيجاد بدائل، إضطرت السلطة الفلسطينية إلى اللجوء إلى الإستيراد من الدولة العبرية.
وقد فشلت محاولات وزارة الخارجية الأميركية لتسهيل تصدير الغاز من إسرائيل إلى الأراضي الفلسطينية في معالجة هذه الإختلالات — التي ولّدت الحاجة إلى واردات الغاز في المقام الأول– وزيادة ترسيخ سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية ومواردها. كما أن الإتفاق الجديد يقوِّض جهد الفلسطينيين لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي من خلال وسائل بديلة، مثل المقاطعة، وسحب الإستثمارات، ومبادرة العقوبات، التي تكتسب تأييداً شعبياً، حتى من الإسرائيليين واليهود الأميركيين. من خلال تطبيع علاقات الطاقة بشكل فعّال مع إسرائيل، فإن القادة العرب ووزارة الخارجية الأميركية يعوّضون أي مكاسب حققتها الحركة.
أخيراً، تستبعد الصفقة الورقة الديبلوماسية المهمة التي دعا إليها العالم العربي منذ فترة طويلة: مبادرة السلام العربية. هذه المبادرة التي طرحتها المملكة العربية السعودية في قمة الجامعة العربية في العام 2002 في بيروت، تقترح تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل إذا إنسحبت الأخيرة من الأراضي المحتلة إلى حدود ما قبل 1967 وإعترفت بالدولة الفلسطينية. على الرغم من أنها ليست الحل الأمثل، لا يزال يُنظَر إلى هذه المبادرة كآلية ممكنة لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. ومع ذلك، بموجب صفقات الغاز، فإن تل أبيب تجني الآن فوائد وثمار مبادرة السلام العربية – تطبيع التجارة – من دون أن تقدّم أي تنازلات.
من المضلّل الإعتقاد بأن صفقة الغاز بين إسرائيل وشركات الطاقة الفلسطينية، وكذلك مع دول عربية أخرى مثل الأردن، يمكنها أن تؤدي إلى السلام. في حال عدم وجود جهد سياسي مصاحب للتعامل مع معاملة إسرائيل للفلسطينيين، فإن صفقات الطاقة غير المتوازنة التي تروّج لها وزارة الخارجية الأميركية ستمدّد فعلياً الوضع الراهن. من خلال توقيع هذه الإتفاقات سراً، ضد إرادة مواطنيهما، فإن كلاً من القيادتين الأردنية والفلسطينية تقوّض المصالح الوطنية من أجل إستقرار مزعوم. إن توقيت صفقات الغاز بدا غير حساس، فقد أُعلنت الصفقة بعد العملية العسكرية الإسرائيلية ضد حماس في صيف العام 2014 التي أودت بحياة أكثر من 2،000 شخص، معظمهم من المدنيين في غزة. إن مكافأة إسرائيل بإتفاقات طاقة مربحة يبدو أنها ترسل إشارة بأنها تستطيع التصرف كما تشاء مع الإفلات من العقاب. بعبارة أخرى، “الغاز مقابل السلام” يبدو أنه يفعل العكس لتعزيز السلام على المدى الطويل.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.