ديزيريه قزّي تُعالِجُ الأَلم يُنبوعَ إِبداع

هنري زغيب*

إِجرَحِ القَلبَ واسقِ شِعرَكَ مِنهُ فَدَمُ القلبِ خمرَةُ الأَقلامِ

وَإِذا أَنتَ لَم تُعَذَّبْ وَتَغمِسْ قَلَمًا في قرارة الآلامِ

فقوافيكَ زُخرفٌ وَبَريقٌ… كعظامٍ في مدفنٍ من رُخامِ

رُبَّ جُرحٍ قد صار يُنبوعَ شِعرٍ تَلتَقي عندهُ النفوسُ الظَوامي

وعذابٍ قد فاحَ منه بخورٌ خالدٌ في مجامر الأَحلامِ

أَيكونُ فعلًا ما قاله الياس أَبو شبكة أَنَّ الجُرحَ ينبوعُ شِعر، والعذابَ مصدرُ إِلهام، والأَلَـمَ طاقةُ إِبداع؟

من الناس مَن يطويهم الأَلم فيَنسحبون إِلى الصمت، ومنهم مَن يُصيبُهم الأَلَـم فيُصوِّبون عليه طاقاتِهِم الإِبداعيةَ فينهزمُ ويرتاحون.

البروفسُورة ديزيريه قزي عالجَت الموضوع في بحثٍ دؤُوبٍ خصَّصتْ له كتابها التحليلي “الأَلَـمُ مصدرُ الإِبداع الأَدبي”، صدَر قبل أَسابيعَ بالفرنسية في 120 صفحة عن منشورات “مكتبة أَنطوان”. والمؤَلفة تحمل الدكتوراه في علْم النفس العيادي والتحليل النفساني من جامعة بواتييه العريقة في فرنسا، ولها عدد من المؤَلفات السيكولوجية في هذا الميدان العلْمي الدقيق.

كتابُها الجديد بحثٌ عياديٌّ في حياة خمسة كتَّاب لبنانيين معاصرين، قاربَت كتاباتِهم من منحًى سيكولوجي، يذكِّر بقصيدة الشاعر الرومنطيقي أَلفرد دو موسيه وفيها قولُه: “الإِنسان أَجيرٌ سَـيِّدُهُ الأَلَم، ولن يتعرَّف إِلى ذاته مَن لَـم يتأَلَّم”. وتُركِّز الدكتورة ديزيريه قزي على معادلةٍ واضحة: “ما الفرقُ بين الخَلْق والإِبداع؟”، وتنطلق مِن أَنَّ “بين الناس مَن يهبِطون حِيَال الأَلم، ومنهم مَن يُقْلعُون عنه إِلى الخلاص”. وهي تُورِد مقولة أَندريه مالرو الشهيرة: “التعبيرُ عن الأَلَم يحرِّر صاحبه”. ولذا ترى المؤَلِّفة أَنَّ الأَهمَّ في التعرُّف “تبيانُ معنى الأَلم للبدء باستجلاء طريق الخروج منه إِنْ كان من سبيل للخروج”. وتَرى ديزيريه قزي أَن “الكتابةَ مرآةٌ تعكِس لاوعيَ كاتبها”، وهذه مقولة قد تبدو مفاجِــئَــةً لِمَن يعتقدون أَنَّ الكتابةَ بنْتُ الوعي. من هنا اعتبارُها أَنَّ “المتخيَّل الموهوم يُعوِّضُ نقصَ ما يرغَب صاحبُه، بإِسْقاطه على الرغبة اللاوعية”. وفي تحليلها تَعتبر أَنَّ الكتابة “فنٌ ينطلق من مصدر إِلهامه في خيال الكاتب فيُحرره هذا المصدر من أَلَمه. هكذا تكون الكتابةُ آليَّةَ دفاعٍ يستخدمها الكاتب كي يتجاوزَ جراحَه الداخلية وآلامَه الجَوانية وعذاباتِه المضنية”. وهذا ما وجدَت فيه ديزيريه قزي فرصةً للكاتب “كي يعبِّر عن آلامه فيُخرجَها من سجْن صمته وينزعَ عنه بطريقته ومزاجه خيالاتِ ماضيه المؤْلم فيُكمل حاضرَه بتخيُّلِ ما لم يستطِع تحقيقَه في الواقع”.

اللافتُ في الكتاب اتخاذُ المؤَلفة أُولئِك الخمسةَ الأُدباء اللبنانيين، وتشريحُ كتاباتهم عياديًا، واستخراجُ رسومٍ بيانيةٍ مفصَّلةٍ ودقيقةٍ لكلِّ منهم، ما يساعد القارئَ على استبيان القصْد وراءَ كلِّ كاتبٍ في التعبير عن أَلَمه للخروج من حالة الاكتئاب أَو الإِحباط أَو البُؤْس.

وفي خلاصتها الأَخيرة نسجَت ديزيريه قزي خطًّا ممتازًا وواضحًا تنجلي فيه مقاصدُ الكاتب عمومًا ممَّا جعلَ آلامَه ينبوعَ إِبداعه، لأَن الأَلَـمَ يغيِّرُ في مصير الكاتب وقَدَرِه، ولو انه يَتركُ ندوبًا لا تمحوها سنواتُ الكتابة…

شكرًا ديزيريه قزي على هذا الكتاب الذي يَجدُر بكلِّ كاتبٍ أَن يتَمَرأَى فيه كي يرى في مرآته أَيَّ نبعٍ من الينابيع كان رافدًا رئيسًا لنتاجه الإِبداعي.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى