أَرسطو: ثلاثُ أُمثولاتٍ في الصداقة

“أَرسطو يلامس رأُس هوميرس” بريشة رامبرانْتْ (1653)

هنري زغيب*

           

(إِلى ديزي)

 

عن الفيلسوف الإِغريقي أَرسطو (384-322 ق.م.) قولُه: “لا يمكن أَن يعيش أَحدٌ بدون أَصدقاء، ولو كان لديه كلُّ ما يتمنى”. من هنا الحاجة إِلى الصديق الذي فُقدانُهُ قد يكون أَكثر إِيلامًا من فقدان حبيبٍ/حبيبة أَو شريك/شريكة عُمر. وإِلى شهرة أَرسطو في تأْثيره على العلوم والسياسة والجماليات، تنامت أَيضًا شهرته في الكتابة عن الصداقة والعلاقة بين الأَصدقاء، وهي أَحيانًا متينةٌ أَكثر مما بين العشاق والأَزواج.

أَرسطو يُلقي درسًا على الإسكندر فتًى

عن أَرسطو

يؤْثَر عنه أَنه وُلِد في سْتاجيرا (بلدة في مقدونيا قديمًا، واليوم في شمال اليونان). انتقل منذ مطلع شبابه إِلى أَثينا ليتابع دروس أَفلاطون. أَمضى معه نحو عشرين سنةً طالبًا ثم معلِّمًا، وكان بين تلامذته الأَمير الشاب الإسكندر الذي أَصبح لاحقًا الإسكندر الكبير. كان لفلسفة أَرسطو تأْثير كبير على الفلسفة الغربية، وتاليًا على الفكْر العالَمي، خصوصًا في حقول الأَخلاقيات والمنطق والمعرفة العامة، ومن هذه الأَخيرة أُمثُولاته في الصداقة.

وهنا ثلاث أُمثولات منها.

الأُمثولة الأُولى: الصداقة متبادَلة وتوافقية

هكذا يعرِّفُها أَرسطو: أَن تكون على مستوى واحد من التبادُل الإِراديّ بين الطرفين، والتوافُق بينهما أَن تكون هكذا. وهي عكس القرابة العائلية التي تُفرَض فرضًا على الإنسان. ويضيف أَرسطو: “كي يرتقي المستوى إِلى الصداقة الحقيقية، على الطرفَين أَن تكون نواياهما متبادَلة تمامًا على مستوى واحد بينهما، وفي جميع الحالات وتطوُّرات الحياة اليومية والحاجات والنوايا المتبادَلة بين الطرفَين”. ويشدِّد أَرسطو على التعادل في الشعور بين الفريقَين، فلا يمكن أَن يقوم من طرف واحد، كإِعجاب أَحدهم بنجمٍ رياضي أَو فني أَو أَدبي، لأَن هذا النجم لا يبادل الـمُعجَب به الشعورَ ذاته. الإِعجاب بالآخَر أَمر، والصداقة معه أَمر آخر. من هنا أَنَّ الصداقة عن بُعد ليست صداقةً حقيقية كما مثلًا: “الصداقة” عبر “الفايسبوك”، لأَنها تبقى من طرف واحد مهما طال بها الوقت، حتى لو رضيَ الطرف الآخَر أَن يكون “صديقًا” عبر شاشة “الفايسبوك”، أَو حتى لو سجَّلَ أَحدُهم “نعم” لصداقةٍ مع الآخَر عبر الشاشة.

ويميز أَرسطو بين الصداقة المعمَّقة المتينة وتلك المتينة التي لا تبلغ حد الصداقة. فالصداقة الحقيقية هي التي تَدخل إِلى عمق الدواخل وتحفظها وتحرسها وتقدِّسها، لا تَبوح بها ولا تُفشيها ولا تُعمِّمها. وهذا لا يمكن أَن يحصل اليوم مع “الصداقة” على الشاشة. فالحميميةُ وحفْظُها، وفْق أَرسطو، شرط أَول للصداقة بين اثنين، لا يباح بها ولا تُفشى لأَحد. لذا يشدِّد أَرسطو على “إِرادية” أَن يتوافق اثنان على صداقةٍ بينهما، ولذا لا يمكن أَن تتعمم “حميمية الصداقة” على مجموعة، كما تعمَّمَت في عصرنا اليوم، سطحية اصطلاحيةً، عبر وسائل الاتصال الإِلكترونية.

تمثال أَرسطو في وسط أَثينا

الأُمثولة الثانية: الصداقة ثلاث مراتب

يميِّز أَرسطو بين ثلاث مراتب للعلاقات: صلة المصلحة، صلة المتعة، صلة المزاج المشترَك. وكل منها ينبع من الهدف لعقْد الصداقة: عملانيتُها، لذة صحبتها، توافُق المزاج. ولعلَّ هذا الهدف الأَخير هو الأَعلى رتبةً، لكنه الأَقلُّ شيوعًا فلا يتوفَّر إِلَّا بين قلة من الأَصدقاء. فالمزاج المتبادَل يتطلب وقتًا كي يكتشفَه الفريقان ويرتاحا إِليه على موجة واحدة ووتر واحد من التفاهم المديد، وحين يتأَمَّن ذلك تصبح الصداقةُ متينة ودائمة. أَما المرتبتَان الأُولَيَان (المصلحة والمتعة) فلا تدوم بهما الصداقة إِلَّا قليلًا، وعندها لا تستحقُّ أَن تكون فعلًا صداقة. في مرتبة المصلحة، مثلًا، تكون العلاقة للإفادة، ولو الصالحة، المتبادَلَة من الآخر (وليس بالضرورة للاستغلال). يشرح أَرسطو: “الخلاف في المرتبة بين الصديقَين ينشأُ من الخلاف في المقصد لـعقد هذه الصداقة، فيكون على غير ما كان يظنه أَحد الفريقَين”. والارتياح إِلى الآخَر قد يكون عابرًا لفترةٍ محدَّدة (دراسة، زمالة، العمل على مشروع، …). وهنا قد تكون مفيدةً للفريقَين فترةُ هذه العلاقة ولو موَقَّتة، كما قد تكون مفيدةً أَيضًا لِمن لا يصحُّ لهم أَن يعقدوا علاقة صداقة وطيدة مع أَصحاب المرتبة الثالثة (المزاج المتبادَل) وهم عمليًّا قلائل. أَما الآخرون، ذوو العلاقات الـمُوَقَّـتـة، فهُم أَكثر الناس، ومهما توثَّقَت بينهم الصداقةُ وكانت علاقاتهم سائغة وممتعة، لا يبلُغون عمق ذوي المرتبة الثالثة.

خلاصة أُمثولة أَرسطو الثانية أَنَّ لكل مرتبة من الثلاث مكانًا بين الناس، يبقى المهمّ أَن يتشكَّلَ بين الفريقين تفاهمٌ حول ماهية كلٍّ من تلك الثلاث.

الأَكروبوليس: هنا كان أَرسطو يعلِّم

الأُمثولة الثالثة: الصداقة كاللياقة البدنية

لضمان ديمومة العلاقة، يعطي أَرسطو مقارنة حسية: الصداقة، تمامًا كاللياقة البدنية، تحتاج صيانةً من الطرفين بجهد تمرينيٍّ دوريٍّ بل متواصلٍ لاستمراريتها، وبالعمل على صقل هذه الاستمرارية من الطرفين معًا وبالوتيرة ذاتها لا من طرف واحد فقط. ويضيف أَرسطو: “الذين بينهم فروقاتٌ في المبادلة ليسوا أَصدقاء حقيقيين، ولو سعوا إلى ذلك. وذوو المرتَبَتَين الأُولَيَين تخفِّف المسافات من نبض علاقتهم، وقد تطفئها نهائيًا. أَما ذوو المرتبة الثالثة فتدوم صداقتهم بدون جهد تمرينيّ، ولو باعدت بينهم المسافات. ووسائط الاتصال اليوم تلغي المسافات فتبقى العلاقة متوهِّجة بينهم. وفي إِحصاءات حديثة أَجْرتها مراكز أَبحاث متخصصة، جاء أَن الانقطاع الجسدي الحاد الذي عـمَّ الكوكب خلال فترة الكورونا القاسية، فَصَلَ الناس عن بعضهم بعضًا فانهارت العلاقة بين ذوي المرتبَتَين الأُولَيين بينما لم يؤَثِّر ذاك الانقطاع على علاقة ذوي المرتبة الثالثة.

وعلى أَيِّ حال، لا بدَّ من صيانة الصداقة تواصليًّا، كي تبقى قويةً بديمومة أَكيدة، تمامًا كما يحتاج الحب هذه الصيانة، وتحتاجها الروابط الزوجية والعائلية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى