الجمهورية اللبنانية «المُزَعزَعَة» إلى أين؟

دفع إقتصاد لبنان ثمناً باهظاً جراء الحرب الجارية في سوريا، وقد يدفع المزيد إن لم تضع أوزارها في وقت قريب كما يفيد التقرير التالي الذي كتبه الخبير الإقتصادي والباحث في مركز كارنيغي الدكتور باسم نعمه.

مصرف لبنان: لولاه لساء الإقتصاد أكثر

بقلم باسم نعمه*

كان الإنقلاب في الحظوظ الإقتصادية بين لبنان وسوريا خلال السنوات الست الأخيرة، مُجلجلاً. ففيما كان الناتج المحلي الإجمالي الإسمي للبنان 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السوري، إذ بالإقتصاد اللبناني يصبح (وفق بعض التقديرات) أكبر ب3.5 في المئة من زميله السوري.
هذا التطوّر يعود في معظمه إلى إنهيار الظروف الإقتصادية في سوريا، وليس إلى أيِّ نمو ذي شأن في لبنان، لكن ستكون له مع ذلك مضاعفات وتبعات على كلٍ من الديناميكيات الإقتصادية بين البلدين، كما على قدراتهما الإنتاجية المُستقبلية. ثم أن الإقتصاد اللبناني يتعرّض إلى ضغوط جمّة، هذا علاوة على أن بطن أرصدته الخارجية مفتوحٌ على مخاطر متعددة الرؤوس والأنواع.

اللاجئون: العبء الهائل

أدّى النزاع السوري الذي إندلع في العام 2011، إلى تدفق أكثر من مليون لاجيء إلى لبنان، وفق تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (أرقام أخرى تشير إلى وجود 1.5 مليون لاجىء)، كما أدّى أيضاً إلى إغلاق المنافذ البريّة إلى منطقة الخليج التي تٌعتبر سوقاً رئيسيةً للصادرات اللبنانية. وهكذا، تهاوى الناتج المحلي الإجمالي السنوي من 8-10 في المئة قبيل العام 2011 إلى نحو 1-2 في المئة اليوم، ومن المتوقّع أن يبقى على نسبة متواضعة ( 2-3 في المئة) في السنوات الأربع المقبلة.
بيد أن تحديد ورصد التأثيرات المباشرة للأزمة السورية ليس بالأمر السهل، لأن الصعوبات الإقتصادية اللبنانية تتقاطع مع تحديات أخرى، منها: الأزمة السياسية المديدة في الداخل، والتطورات الإقتصادية السلبية في البلدان التي تستضيف أعداداً كبيرة من الأيدي العاملة اللبنانية، ما أسفر عن تضييق الخناق على تدفق التحويلات والودائع.
ما هو واضح هو أن الحيرة وعدم اليقين اللذين تسبّبت بهما الظروف الإقليمية، تلاقيا مع تدنٍ حاد في ثقة المستهلكين ورجال الأعمال. فهؤلاء أبطأوا نشاطاتهم الإستثمارية في مجالات العقارات، والبناء، والمال، والسياحة؛ وهي القطاعات التي كانت تقليدياً الدافع الأول للنمو. إضافة إلى ذلك، باتت البنى التحتية العامة تئنّ تحت ضغط كبير، وتدهورت الخدمات الحكومية بفعل تراجع إستثماري مُزمن والتوسّع السكاني الناجم من وجود اللاجئين السوريين. والحال أن مثل هذا التوسّع جاء مُساوياً للزيادة السكانية اللبنانية التي كانت مُتوقعة خلال السنوات العشرين المقبلة. ثم أن ما تلا ذلك من زيادة في القوة العاملة بما يترواح بين 30 و50 في المئة، ضاعف معدلات البطالة إلى أكثر من 20 في المئة. وقد وقع عبء هذا التطور بشكل غير متناسب على الشبان غير المهرة.
في الأونة الأخيرة، تحسّنت مؤشرات ثقة المستهلكين، وبرزت دلائل تشي بأن السورييين في لبنان يدعمون الطلب الخاص من خلال الإستهلاك والإستثمار، وإن جرى ذلك في القطاع غير النظامي. بيد أن تباطؤ النمو أدّى إلى ديناميكات دين حكومي سلبي، بعد أن قفز الدين العام بشكل حاد إلى نسبة 157 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2016، وهي ثالث أعلى نسبة في العالم، ما أسفر عن محو كل التقدم الذي أُحرز خلال العقد الفائت، بعد أن قفز المعدل إلى 185 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2006. علاوة على ذلك، يقدّر أن كلفة خدمة الدين زادت إلى أكثر من 50 في المئة من عائدات الحكومة ويتوقّع أن ترتفع إلى 60 في المئة قبل العام 2021.
كل هذا يقلّص حيّز المناورة لدى الحكومة، في وقت تُعتبر فيه الحاجة ماسّة للغاية إلى إعادة إطلاق عجلة النمو. وقد عمد مصرف لبنان، في إطار مساعيه لدعم وإسناد الإقتصاد المحلي وبخاصة القطاع العقاري، إلى وضع خطط شبه مالية تشمل برنامج دعم قروض حيث قدّم 4.4 مليارات دولار منذ العام 2013. بيد أن إعتماد الإقتصاد على تمويل عجزه من خلال إجتذاب الودائع الخارجية، بات موضع تساؤل بعد أن تباطأ تدفّق الودائع منذ أواسط العام 2015 بفعل ضائقة الظروف المالية في بلدان الخليج المصدّرة للنفط.
وقد أدّى التباطؤ في نمو الودائع إلى مزيد من الضغط على إحتياجات لبنان الكبيرة من النقد الأجنبي. وتعود هذه الإحتياجات في معظمها إلى العجز الكبير والمتواصل في الحساب الجاري (الميزان التجاري في قطاعي السلع والخدمات، جنباً إلى جنب مع التحويلات ومدفوعات الدخل).
قرّر مصرف لبنان في العام 2016، في معرض تصدّيه لهذه الصعوبات، تعزيز إحتياطيّاته من العملة الأجنبية، عبر الإنخراط في عمليات مالية واسعة النطاق، فبادل سندات دين بالعملة المحلية بسندات دين أوروبية (يوروبوندز) أصدرتها حديثاً وزارة المال، ثم باعها إلى المصارف المحلية. وفي حين سجّلت هذه العملية نجاحاً في تحقيق هدفها المعلن وهو زيادة إحتياطي العملة الأجنبية، إلّا أن كلفة ذلك تمثّلت في خلق سيولة فائضة من العملة المحلية، إضافة إلى تقديم حوافز كبيرة للمصارف لكي تشارك في هذا البرنامج.

الحرب السورية والصادرات اللبنانية

من المُحتمَل أن تبقى المخاطر على إستقرار الحساب الجاري قائمة في المستقبل المنظور. وأحد العوامل الذي يسمح لنا بمعاينة التأثيرات الواضحة للحرب السورية، يكمن في هبوط معدلات الصادرات البريّة من لبنان. صحيح أن الواردات تقلّبت هي الأخرى منذ العام 2011، إلا أنها لم تفعل ذلك بالحدة نفسها التي حدثت مع الصادرات. ففي العام 2016، إرتفعت الواردات 4 في المئة مقارنة مع قيمتها في العام 2010، وبلغت 18,71 مليار دولار، وهو تغيّر طفيف نسبياً. أما التدهور في الميزان التجاري فكان بفعل تقلّص الصادرات.
في العام 2015، بدأت الحرب السورية تؤثّر بشكل مباشر في شبكات الصادرات اللبنانية. ومعروف أن للبنان ثلاثة معابر حدودية مع سوريا هي: العبودية شمال شرق طرابلس، والعريضة على طول طريق طرابلس- طرطوس السريع، والمصنع على طريق بيروت- دمشق السريع. وكان المصنع تاريخياً هو الأهم بين هذه المعابر الثلاثة، وشكّل، على سبيل المثال، نحو 70 في المئة من كل الصادرات البريّة في 2013 و2014.
كانت السلع تتدفق عبر هذه المعابر لتدخل أسواق الخليج المدرارة للأرباح. وقد بقيت الصادرات تجري بشكل متّسق حتى نيسان (إبريل) 2015، حين سيطر المتمردون في جنوب سوريا على معبر نصيب الحدودي مع الأردن. وقد أدى الإغلاق إلى تدهور كبير في الصادرات بلغ 60 في المئة في ذلك الشهر نفسه بالمقارنة مع نيسان (إبريل) 2014، كما يظهر الرسم البياني الأول أسفله.

تبعاً لذلك، هبطت الصادرات البريّة 75 في المئة في الفترة بين 2014 و2016، وباتت تحت سيطرة الطلب السوري. وبإستثناء صادرات الوقود، وبعد فصل الصادرات السنوية وفق أسلوب النقل (البحري، والبري، والجوي)، نستطيع أن نرى هذا التطور بوضوح من خلال تقارب “الصادرات البريّة” مع “صادرات سوريا”.

ما هو جدير بالملاحظة حول الصادرات إلى سوريا، هي أنها لم تنخفض مع الإنهيار العام للنشاط الإقتصادي السوري. ربما هذا يعود جزئياً إلى مقدرة المنتجين اللبنانيين على الولوج والحلول مكان العجز الانتاجي داخل سوريا. فالصادرات في العام 2016 (بإستثناء الوقود) بلغت نحو 200 مليون دولار، أي زهاء 13 في المئة فقط تحت مستوى 2009.
لقد قمنا بإستبعاد صادرات الوقود من الرسم البياني الثاني، بسبب وتيرتها غير المُنتظمة ومعدلاتها غير المألوفة، ما يجعلها غير عاكسة للعلاقة الاقتصادية بين البلدين. ويبدو أن لبنان عمل كطرف مؤقت في مجال تلبية الطلب السوري على الوقود. ففي العام 2012، قُدِّرت صادرات الوقود |إلى سوريا بما يتجاوز قليلاً الـ60 مليون دولار، في حين إرتفع هذا الرقم إلى أكثر من 300 مليون دولار في 2013. كل ذلك إنحسر في معظمه، لكن بدا أنه عاد إلى التصاعد حين جرى تصدير وقود بنحو 25 مليون دولار في الأشهر الخمسة الأولى من ذلك العام، أي ما يساوي تقريباً كل السنوات الثلاث السابقة مجتمعة.
يعود التحسّن والإنتعاش في الصادرات الجوية إلى الوتيرة العالية لصادرات المعادن والأحجار الثمينة، خصوصاً منها الذهب الخام، والتي تمثّل أكبر نسبة من الصادرات اللبنانية (35 في المئة في العام 2011). هذه الصادرات هبطت من نحو 1.5 مليار دولار في 2011 إلى 400 مليون دولار في 2015، قبل أن تتحسّن لتصبح 800 مليون دولار في 2016. وقد ذهب أكثر من 99 في المئة من هذه الصادرات عبر مطار رفيق الحريري الدولي، وبدا أن حركتها لا علاقة لها بالحرب في سوريا.
بلغ إجمالي الصادرات في العام 2016 نسبة 70 في المئة من مستواه في العام 2010، وتساوى تقريباً مع معدله في العام 2017. وفي حين أن هذا يُعتبر هبوطاً قابلاً للإحتمال نسبياً، إلا أن التأثيرات السلبية الناجمة من إنهيار التجارة البريّة قد يكون مدعاة للقلق. فقسط وافر من الزراعة اللبنانية والمنتجات الغذائية العامة يُصدّر برّاً. صحيح أن الهبوط في الأرقام الكُلية في هذه الفئات كان متواضعاً (نحو 10 في المئة منذ 2014)، إلا أن المُنتجين كانوا مضطرين إلى تحمّل أكلاف عملية التأقلم الخاصة بالعثور على طرق شحن بديلة. وبالتالي، فإن تحسّن تجارة المعادن والأحجار الثمينة يخفي تطوراً سلبياً في أساسيات الإقتصاد الكلي.
لكن، في الجانب الإيجابي من هذه الصورة تبرز مرونة وقدرة المصدرين على التأقلم، في مواجهة كل هذه الصدمات. وهذا أمرٌ واعد. ثم أن هبوط الإنتاج كان متواضعاً نسبياً ويُمكن أن نتوقع تحسنّه على نحو معقول حين يُعاد في خاتمة المطاف فتح طريق بري يُعتد به إلى خارج سوريا. علاوةً على ذلك، يقوم لبنان على نحو متزايد بالتموضع ليكون مركز إعادة البناء في سوريا مستقبلاً، فهو يقوم بتوسيع المنطقة الإقتصادية الخاصة في طرابلس ويحاول ضخ أصول المستثمرين الدوليين في المرفأ المجاور لهذه المدينة.
من نافلة القول أن النجاح في هذه الخطوات لا يزال يعتمد على الديناميكيات الخاصة بالنزاع السوري، وعلى قدرة برامج إعادة الأعمار على تنشيط النمو الشامل الذي يخلق أعمالاً للاجئين السوريين العائدين. وإذا حدث ذلك، قد تشجّع دورة النمو الجيدة والطيّبة هذه على خلق المزيد من فرص العمل في لبنان، ما يوّلد كسباً مفاجئاً تشتد الحاجة إليه للإقتصاد المحلي، وطفرة إزدهار في النشاط التجاري.

• خبير إقتصادي وباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى