لماذا لا يَحظى الأدب العربي بشَعبيّةٍ في إيران؟

على الرغم من أن المادة 16 من دستور جمهورية إيران الإسلامية تنص على وجوب تدريس اللغة العربية للطلاب الذين أنهوا تعليمهم الإبتدائي في جميع الصفوف والتخصّصات، فإن الأدب العربي لا يحظى بشعبية في إيران.

كتاب النبي لجبران: 15 ترجمة إلى الفارسية مختلفة؟

 

بقلم فارناز سيفي*

خلال فترة الحرب مع إيران، تلقّى رئيس تحرير صحيفة الجيش العراقي في أحد الأيام مخطوطةً بخط اليد من جندي مُنخَفِض الرتبة على خط المواجهة. واندهش مما وجده: تحفة أدبية. عندما عَلم أن الجندي قُتِل في ساحة المعركة، نشر رئيس التحرير القصة باسمه. وفاز نتيجةً لذلك بالثناء من كل ركن من أركان العالم. ولكن بعدها، بدأ في تلقّي سيلٍ من القصص المتميّزة غير العادية من الجندي نفسه الذي يُفتَرَض أنه قُتِل في الحرب …

هذه واحدة من الروايات المُفَضَّلة لديّ للكاتب والمخرج السينمائي العراقي المشهور حسن بلاسم، من مجموعته من القصص القصيرة “معرض الجثث: وقصص أخرى من العراق”. من المؤكد أن العديد من القرّاء الإيرانيين يتماثلون مع القصة ويرون أنفسهم فيها نظراً إلى أوجه التشابه العميقة مع تجربتهم التي عاشوها في الحرب. وقد أهدى بلاسم قصته “إلى قتيل حرب إيران-العراق (1980-1988)”. ومع ذلك، لم يتم ترجمة الكتاب ولا هذه القصة القصيرة إلى اللغة الفارسية. لسوء الحظ، فإن بلاسم والعديد من الكتاب العرب البارزين الآخرين غير معروفين لغالبية القراء الإيرانيين، وأعمالهم غير مُتوفّرة باللغة الفارسية. من الغريب أن الدولة التي تتفاخر برعاية جيرانها (وتتباهى في الوقت نفسه بتأكيد قوتها) ليس لديها سوى القليل من الإهتمام بالحالة العقلية لأولئك الجيران وأنماط خيالهم. لقد تمّ تجاهل الأدب العربي إلى حدّ كبير في سوق الترجمة الأدبية الإيرانية.

ماذا تُخبرنا الأرقام؟

دعونا نُلقي نظرة على البيانات. وفقاً لبحثي، الذي استخدمتُ فيه قواعد البيانات الببليوغرافية للمكتبة الوطنية الإيرانية، في السنين العشر الماضية (2010-2020)، تم نشر أو إعادة نشر أكثر من 35,000 عمل روائي في إيران. هناك فقط حوالي 200 كتاب مُعرَّب للأدب الحديث للأطفال أو الكبار العرب. وبالمقارنة، تمت فهرسة 640 عملاً أدبياً تركياً خلال الفترة عينها. إطّلعتُ أيضاً على جميع الكُتب المُفهرَسة في نظام “فيبا” (FIPA) الإيراني، والذي يُسجّل جميع الأعمال الجاهزة للنشر قبل الحصول على إذن رسمي. يُوفّر نظام “فيبا” مؤشراً إلى اقتصاد الإهتمام في سوق النشر الإيرانية، والذي هو القطاع الخاص إلى حدّ كبير. ويكشف عن المواضيع التي يهتم بها المجتمع الإيراني من المترجمين والناشرين قبل المرور بعملية الرقابة الرسمية.

ومع ذلك، فإن العديد من 200 عمل روائي عربي مترجم له ترجمات مُختلفة للنص نفسه. أحدث مثال هو رواية “سيدات القمر” للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي، التي يعرض لها نظام “فيبا” ثماني ترجمات مختلفة. كل هذه تُرجمت في النصف الثاني من العام 2019، عندما فازت الحارثي ب”جائزة بوكر الدولية” عن روايتها. لم تكن احتمالات الترجمة واردة لصالح الحارثي لو لم تفز بجائزة أدبية غربية رفيعة المستوى. نادراً ما تلفت إنتباه المجتمع الفكري في إيران غالبية المرشحين والفائزين بالجائزة الدولية للرواية العربية، وهي إحدى الجوائز الأدبية العربية المرموقة. ومع ذلك، فإن رواية عربية تكتسب اعترافاً في الغرب تُعتبَر جديرة بالترجمة في إيران.

أكثر الأعمال العربية شعبية هي ل: نجيب محفوظ، وجرجي زيدان، وجبران خليل جبران، وغسان كنفاني، وكذلك نزار قباني وغادة السمان عندما يتعلق الأمر بالشعر. هناك ما لا يقل عن 15 ترجمة مختلفة لكتاب “النبي” لجبران، تم إعادة نشر بعضها أكثر من 40 مرة في إيران. خلال العقد الماضي، كان هناك أيضاً إرتفاع في الإهتمام بكتاب “ألف ليلة وليلة” الكلاسيكي مع 60 إصداراً مختلفًا على الأقل مسجلة للنشر في نظام “فيبا”. وبالطبع هناك بعض المفاجآت غير المتوقعة أيضاً، مثل ترجمة القصص القصيرة لمعمر القذافي المُجمّعة في كتاب “الهروب إلى الجحيم” في العام 2019، والتي نُشِرت في الأصل في العام 1993. على الرغم من أن هذه الأعمال تُترجَم وتُفهرَس في النظام الببليوغرافي الإيراني، فهذا لا يعني أنها متاحة في السوق. ويعرض “شهر الكتاب” (Shahr-e Ketab)، الذي تشارك فيه سلسلة متاجر الكتب الرائدة في إيران، 40 كتاباً فقط من الأعمال العربية الروائية والخيالية المعروضة حالياً للبيع.

صناعة النشر الإيرانية

لسنوات عديدة، واجهت صناعة الكتب الخاصة في إيران إنخفاضاً مُستمراً في عدد القراء. وفقاً لدراسة حديثة، يبلغ متوسط ​​عدد النسخ المطبوعة لأي كتاب حوالي 800 نسخة. بما أن فرص تحقيق الربح ضئيلة للغاية بالنسبة إلى المترجمين والناشرين، فإن الإستثمار في الأدب العربي يُعتبر خطراً لا يرغب الكثيرون في تحمّله.

لماذا هناك القليل من الإهتمام بترجمة وتقديم الأعمال الأدبية العربية المُعاصرة في إيران؟ إذا سألت الناشرين الإيرانيين، فإن الإجابة الأكثر شيوعاً هي أنه لا يوجد سوى عدد قليل من المترجمين من العربية إلى الفارسية الموثوقين والقادرين. هناك عدد أقل من المحررين الذين يمكنهم قراءة الترجمات ومقارنتها بالنص الأصلي. من السهل ترجمة أعمال كاتب عربي يكتب باللغة الإنكليزية. أفضل مثال هو هشام مطر، الكاتب البريطاني الليبي، الذي تتوافر جميع أعماله الرئيسة الثلاثة باللغة الفارسية. الغريب أن الناشرين يفضلون التكليف بترجمة الأعمال الخيالية العربية ليس من اللغة الأصلية ولكن من الترجمة الإنكليزية. ويُمكن للمرء أن يتصوّر بسهولة كيف يُمكن أن تضيع المعاني في هذه العملية. “الأجرام السماوية” (Celestial Bodies ) كان العنوان المُختار لكتاب الحارثي باللغة الإنكليزية. عندما تُرجم من الإنكليزية إلى الفارسية أصبح العنوان “كائنات فلكية”! ومع ذلك، يُمكن للقارئ الإيراني العادي أن يفهم بسهولة معنى العنوان العربي الأصلي حيث يتم استخدام الكلمات أيضاً باللغة الفارسية.

ومع ذلك فإن تدريس اللغة العربية هو أولوية

قد يكون من المفاجئ أن نعلم أن النظام الإيراني مهووس بتعليم اللغة العربية لأبنائه ومواطنيه. تنص المادة 16 من دستور جمهورية إيران الإسلامية على وجوب تدريس اللغة العربية للطلاب الذين أنهوا تعليمهم الإبتدائي في جميع الصفوف والتخصصات. على الرغم من أن أي شخص حاصل على شهادة الثانوية العامة في إيران قد درس اللغة العربية عبر دورات لمدة ست سنوات على الأقل في حياته، إلّا أن القليل جداً من هؤلاء الدارسين يمكنه إجراء محادثة أساسية باللغة العربية أو حتى فهم نص بسيط مكتوب للأطفال. إنه سرٌ مفتوح ومعروف بأن الطلاب يكرهون تعلم اللغة العربية، ويعتبرون أن النظام التعليمي قد خذلهم وفشل بشكل ذريع من خلال إضاعة وقتهم. علاوة على ذلك، فإن طريقة التدريس قديمة العهد وعتيقة، وهي مهووسة بتربية كلاسيكية قديمة لتدريس قواعد اللغة – صرف ونحو – وهي إيديولوجية للغاية: فهي تُدرِّس شكلاً من أشكال اللغة العربية مُخصَّصاً فقط لقراءة النصوص الدينية.

وقد كان لهذا النهج الإيديولوجي تأثيرٌ سلبي في التعليم العالي. تُقدّم أكثر من 100 جامعة ومعهد تعليم عالي في إيران درجات البكالوريوس في الأدب العربي والترجمة العربية. مُجتمعةً، لديها القدرة على استيعاب أكثر من 5000 طالب سنوياً. ونظراً إلى أن إيران لديها امتحانات قبول جامعية تنافسية للغاية، لا يستطيع الكثيرون من المتقدمين متابعة الدراسة في المجال الذي يرغبون فيه ويجب عليهم بدلاً من ذلك متابعة ما تسمح به لهم درجاتهم. في حالة اللغة العربية، مع ذلك، يُمكن للمرء الحصول بسهولة على القبول في مدرسة تُقدّم درجات اللغة العربية. على الرغم من هذه الحقيقة، فإن المُتقدمين قليلون ويتم ترك العديد من المقاعد فارغاً. وبالمقارنة، يتقدم كثيرٌ من الطلاب كل عام لدراسة لغات مثل الإنكليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية في السنوات الأخيرة، ولكن نظراً إلى ارتفاع عدد المتقدمين، يتم رفض العديد منهم. وأخيراً، يحتاج المرء إلى شغف قوي للحصول على درجة عربية في الجامعة لأن احتمالات العثور على وظيفة وكسب راتب مناسب ليست واعدة.

أداء المجلات التي يُراجعها الأقران أفضل نسبياً. خلال العقد الماضي، بدأ نشر خمس مجلات أكاديمية حول الأدب العربي – ثلاث منها في جامعات كبرى في العاصمة طهران، واثنتان في مدينتي يزد ومشهد. تتراوح مواضيع المقالات في هذه المجلات من الدراسات الكلاسيكية للنحو العربي إلى الانتقادات النسوية الحديثة للمؤلفين المعاصرين.

فقط إذا كان يتناسب مع السرد السياسي

تصرّ الحكومة الإيرانية على تعليم مواطنيها اللغة العربية، لكنها قلّما تهتم بتقديم الأدب العربي المُعاصر إليهم. وعندما تفعل ذلك، سيكون من أجل الترويج لما يتناسب مع سردها السياسي. إبتداءً من ثمانينات القرن الفائت، قام من حين إلى آخر الشاعر هوزيه هوناري، من قسم الفنون في منظمة التنمية الإسلامية الإيرانية – وهي كيانٌ كبير تحت إشراف المرشد الأعلى مُكلَّف بنشر الثقافة الدينية وترويجها – بترجمة ما يُطلَق عليه “أدب المقاومة” في العالم العربي، وخصوصاً تلك المؤلفات التي تتعلق بفلسطين. في العام 2002، أنشأ هوزيه هوناري مكتباً خاصاً لتبادل الأدب الفارسي والعربي. وقد دعم هذا المكتب من حين إلى آخر ترجمة مجموعة عشوائية على ما يبدو من الأعمال العربية المعاصرة، بما في ذلك مختارات حديثة للشعراء والكُتاب العُمانيين، لكن تركيزه الرئيس ينصب على ترجمة أعمال المؤلفين الإيرانيين الذين يتناسبون ويتوافقون مع المعايير الإيديولوجية للنظام. على سبيل المثال، تم اختيار “حرب امرأة واحدة. دا”، وهي مذكرات حرب شهيرة لسيدة إيرانية تروي قصة احتلال خرمشهر من قبل القوات العراقية وتحريرها النهائي، للترجمة إلى اللغة العربية.

إن هَوَسَ النظام الإيراني بغرس المعرفة الدينية باللغة العربية لدى مواطنيه أجبر بالتأكيد العديد من الأجيال الساخطة على العيش مع الاستخدام المستمر للمصطلحات الدينية العربية في المدارس والشوارع وفي وسائل الإعلام. وقد أدى ربط اللغة العربية بالنظام السياسي إلى ثني العديد من الإيرانيين عن تطوير مصلحة مستقلة للتعرف على المجتمعات العربية وإنتاجها الثقافي.

من المهم ملاحظة أن هناك أيضاً افتراضات وثقافة نمطية عميقة الجذور تمنع المُثقّفين الإيرانيين من الإقتراب من الأدب العربي. مثل أقرانهم العرب، فإن بوصلتهم مُوَجَّهة نحو الغرب. وكما قال أحد مترجمي الأدب العربي: “يُمكن بسهولة ترجمة أعمال الدرجة الثالثة والرابعة من المؤلفين الأميركيين والأوروبيين بينما يظل أبرز الكتاب العرب مجهولين. … يقول الناس عادة أنه لا يوجد شيء يستحق في الأدب العربي! ألا يجب أن يقرأوا أولاً ثم يحكموا؟”. لا يتردد المترجمون الإيرانيون للأعمال الأدبية العربية في الإشارة إلى موقف مجتمعهم وانتقاده. قال مترجم آخر: “يجب على المثقفين أن يضعوا جانباً تحيّزهم العرقي وعداءهم التاريخي وتحديث معرفتهم حول جيرانهم [العرب]”.

لا يعرف الإيرانيون إلا القليل عن الطريقة التي عاش بها العراقيون حرب الثماني سنوات في ثمانينات القرن الفائت. مثل هذا الفهم غير ممكن من خلال السرد الرسمي والذكريات الحربية عن الحرب، والتي، بالمناسبة، متشابهة بشكل لافت في كلا البلدين. بدلاً من ذلك، يمكن اكتساب المعرفة من قراءة أعمال حقيقية ومُبتكرة من قبل مؤلفين مثل حسن بلاسم واسماعيل فهد اسماعيل.

عادة ما يلجأ المرء إلى الخيال للهروب من أهوال الحياة الحقيقية. لكن بالنسبة إلى إيران وجيرانها العرب، يُمكن للرواية أن تكون جسراً وتُساعد على إيجاد حلول سياسية إيجابية لصراعاتهم. يفتح الأدب نافذة على قلوب وعقول الناس وتطلعاتهم وقلقهم ورؤيتهم للحاضر والمستقبل. وهذه النافذة يجب أن تُفتَح وتنتظر مَن يفتحها على نطاق واس تنص المادة 16 من دستور جمهورية إيران الإسلامية على وجوب تدريس اللغة العربية للطلاب في جميع الصفوف والتخصصات الذين أنهوا تعليمهم الابتدائي ع.

  • فارناز سيفي كاتبة مستقلة ومستشارة عملت في منعطف النوع الاجتماعي ووسائل الإعلام مع العديد من المنظمات الدولية وأصحاب المصلحة في إيران وأوروبا والولايات المتحدة. الآراء الواردة في هذه المقالة هي خاصة بها. يُمكن متابعتها على تويتر: @FarnazSi
  • هذا الموضوع كُتِب بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى