أَقدَم شِعر في التاريخ كَتَبَتْهُ امرأَة
هنري زغيب*
معروف أَنَّ أَقدم كتابة في التاريخ ترقى إِلى 5000 سنة في ميزوبوتاميا القديمة (بلاد ما بين النهرين – العراق اليوم)، ولم يكُن معروفًا مَن كان صاحبها، حتى حسرَت المكتشفات الحديثة عن أَقدم كتابة موجودة وموثَّقة ترقى إِلى 3400 سنة قبل الميلاد في سومر، كما دلَّت أَبحاث أَخيرة صادرة عن متحف غيتي في لوس أَنجلس، تشير إِلى أَنها مدوَّنة بالكتابة المسمارية القائمة بشكل علامات منقوشة يضغطها جسم صلب على مساحة صلصالية رطبة من الطين.
إِنهِدْوانَّا
في المتداوَل أَن أَقدم الكتابات هي نصوص هوميروس الملحمية وقصائد سافو العاطفية. لكن الأَقدمَ تاريخيًّا نصوصٌ سبقت تلك أَعلاه بأَلف عام، وهي للأَميرة والكاهنة والشاعرة إِنهِدْوانا Enheduanna، كما كشفها الأَكاديمي إِرهان تامور الباحث لدى متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك. وهو نال الدكتوراه أَخيرًا من جامعة كولومبيا على دراساته عن الآثار القديمة في الشرق الأَدنى القديم، ويتولى حاليًّا إِدارة معرض خاص بالفن القديم في بلاد ما بين النهرين بموضوع “إِنْهِدْوانَّا ونساء ميزوبوتاميا: 3400 -2000 ق.م.)” لدى متحف مورغان في نيويورك (افتُتح المعرض في أُكتوبر الماضي ويستمر حتى نهاية فبراير 2023).
وفي بحث متخصص آخَر عن تلك الفترة، وردَ أَن القول بــ”أَقدم كاتبة في التاريخ، يعني أَول مؤَلفة معروفة بالاسم وصلنا منها نص موثَّق”، كما ذكر الباحث بنيامين فوستر في دراسته المعمَّقة، وهو الاختصاصي بالآثار الأَشورية لدى جامعة يال (في ولاية كونيتيكَت الأَميركية)، ويضيف: “سائر النصوص الميزوبوتامية لا نعرف كُتَّابها، لكنَّ نص إِنهِدْوانَّا ثابتةٌ نسبتُه إِليها، لأَنها وقَّعت اسمها واضحًا في نهاية القصيدة الثانية والأَربعين”.
مَن هي؟
إِنهِدْوانَّا هي ابنة الملك سرجون الأَكادي (2334 – 2279 ق.م.)، وهو الذي نحو سنة 2300 ق.م. وحَّد معظم أَراضي ميزوبوتاميا تحت رايته، عندما جيوش شماليّ ميزوبوتاميا غزت السومريين في جنوبيِّها، ما مهَّد لقيام الأَمبراطورية الأَكادية، أَول أَمبراطورية في التاريخ توحَّدت تحت راية قائد واحد.
عيَّن سرجون ابنته كاهنة أُولى وزوجةَ نانَّا إِله القمر في مدينة أُور السومرية، وكان ذاك التعيين جزءًا من خطَّته لتمتين أَركان حُكمه. وحين تولَّت مهمتَها، بات اسمها “إِنهِدْوانَّا” الذي يعني باللغة السومرية “الكاهنة الأُولى زينة السماء”. وبهذه الصفة كزوجة إِله القمر وممثلة والدها الملك، باتت أَهم شخصية في أُور، وتجلَّت شخصيتُها ساطعة أَكثر بأَنها تكتب الشعر، وكان والدها الملك يطلب إِليها كتابة أَناشيد إِلى إِنانَّا إِلهة الحب والحرب والخصوبة.
في العصر الحديث ظهرت نصوص إِنهِدْوانَّا سنة 1927 على أُسطوانة من مرمر بين آثار سحيقة تمَّ اكتشافُها في أُور إِبان حفريات البعثة الأَركيولوجية البريطانية برئاسة عالِم الآثار ليونارد وُوليز (1880 -1960)، حقَّقَتْها لاحقًا الاختصاصيةُ في التاريخ الأَشوري القديم لدى جامعة سيدني الباحثة الأُسترالية لويز پرايكي في أُطروحتها عن الأُسطوانة لنيل الدكتوراه.
ماذا في الأُسطوانة؟
ذكرت برايكي في أُطروحتها أَنَّ الأُسطوانة (محفوظة حاليًّا لدى متحف بنسيلفانيا في فيلادلفيا) تُظهر إِنهِدْوانا في صدر المشهد، ويظهر اسمها على مقلب الأُسطوانة، فيما هي تكرس منصَّة للإِلهة السومرية إِنانَّا في معبدها. وهذه الأُسطوانة هي الشاهد الوحيد الباقي الذي يظهر فيه اسم إِنهِدْوانَّا وشكلها، ونص يشي بأَنها زوجة إِله القمر نانَّا وابنة الملك سرجون. والنص منقول إِلى لوح بعد قرون من زمانها، ما يدل على استمرار إِرثها طويلًا بعدها. ويظهر من تلك النسخة أَن إِنهِدْوانَّا أَهدت هذه الأُسطوانة الفريدة إلى معبد لتخليد بنائه. وواضح من نصوص تلك الكاهنة أَنها كانت تمجِّد الإِلهة إنانَّا أَكثر من سائر آلهة السومريين. وقصائدها في إِنانَّا هي أَقدم نصوص مكتوبة لإِلهة قديمة.
الكتابة على هذه الأُسطوانة مأْخوذة من نسخة لوح بابلي قديم يرقى إِلى ما بين 1894 و1595 ق.م.، مسجَّل زمنيًا بعد مئات السنوات من قصيدة إِنهِدْوانَّا. والمشهد المحفور على المقطع المقابل في الأُسطوانة يمثل باحة مقدسة في الهواء الطلق، على يسارها مبنى من طبقات عدة، وإِنهِدْوانَّا في الوسط مع بعض الفراغ حولها، خلفها كاهنان يحملان أَوانيَ طقوسية، وكاهنًا أَمامها يرش سائلًا مقدسًا على مذبح. وتبدو إِنهِدْوانَّا لابسةً رداءً متدرِّجًا ذا أَهداب، وتعتمر قبعة بشكل حلقة، وكلا الرداء والقبعة أَصبح دُرجة طقسية لمن جاء بعدها. يتضح من حركة يدها أَنها تؤَنِّب أَو تعاقب، واتجاه وجهها متطلِّع إِلى فوق، كما من العالم الأَرضي الترابي إِلى عالَم إِنانَّا الخشوعي الروحي.
ماذا في الكتاب؟
للكاهنة إِنهِدْوانَّا قصائد عدة في تمجيد نانَّا إِله القمر. لكنها انشغلت أَكثر بالإِلهة إِنانَّا التي “بيتُها في نجمة الصبح والمساء عند كوكب الزهرة”، كما ذكرَت المحللة النفسانية بيتي دو شونغ ميادور الباحثة اليونغية (نسبةً إِلى العالم النفساني السويسري كارل يونغ 1875-1961). وهي ترجمت إِلى الإِنكليزية قصائد إِنهِدْوانَّا في كتابها “إِنانَّا: السيدة ذات القلب الأَكبر – 245 صفحة – منشورات جامعة تكساس 2001). وميادور أُستاذة التاريخ القديم في كلية كاليفورنيا الجامعية – سان فرنسيسكو.
في قصائد إِنهِدْوانَّا، كما تذكر ميادور في مقدمتها للترجمة، تتساوى الإِلهة إِنانَّا السُومرية مع نظيرتها الأَكادية عشتار إِلهة الحب والحرب. وفي تلك القصائد تظهر الإِلهة إِنانَّا شرسة وقاسية، كما تظهر محبة ولطيفة، فهي تمتلك القُدرتَين معًا: التدمير والكرَم. وقصائد إِنهِدْوانَّا غنية بعناصر وتفاصيل من سيرتها الذاتية، مثل صراعها مع لوغالان، ترجيحًا ملك أُور، وهو حاول بالقوة تجريدها من مسؤُولياتها، وهي أَول مؤلفة تُخبرنا كيف تكتب قصائدها. فهي تشبّه فعل الخلق الأَدبي بولادة الجنين، وتلك أَول استعارة في تاريخ الأَدب ستستمر طيلة تاريخه حتى اليوم.
في كتاب “إِنانَّا: السيدة ذات القلب الأَكبر – قصائد للكاهنة السومرية إِنهِدْوانَّا” أَناشيد إِنهِدْوانَّا المرفوعة إِلى إِنانَّا، يظهر فيها تحرُّرُ الشاعرة روحيًّا ونفسيًّا من كونها ابنةً مطيعةً لوالدها الملك. وفي تلك القصائد تتجلى الأَنظمة الدينية والثقافية في ميزوبوتاميا القديمة، وقدرة إِنانَّا كأقدم إِلهة ذات قوة وحضور في العالَمَين الأَرضي والسماوي.
أَهمية هذا الكتاب أَنه يكشف للمرة الأُولى منتخبات نصوص غنية عن حياة النساء في ميزوبوتاميا القديمة إِبَّان الأَلف الثالث قبل الميلاد، ودورهنَّ في المفهوم الديني للآلهات والكاهنات والعبادات، وحضورهنَّ في الإِطار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للأُمهات والعاملات والقائدات. وهكذا تميَّزت بينهن الكاهنة الكبرى والشاعرة إِنهِدْوانَّا أَقدم “مؤَلِّفة” في التاريخ.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.