إيران العاجزة عن تسويق “قنبلتها”!

محمّد قوّاص*

ستكتشف فيينا يوم الاثنين في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري النسخة الجديدة الموعودة لإيران النووية برئاسة إبراهيم رئيسي. تقدمت المفاوضات بشكل كبير خلال جولات ست من التفاوض بدأت في نيسان (أبريل) وانتهت في حزيران (يونيو). تعد طهران بالجديد ويَعِدُها العالم بالمُستَجِدّ.

جرت المفاوضات بشكل مباشر مع مجموعة الـ 4+1 (بريطانيا والصين وفرنسا وروسيا وألمانيا)، وبشكل غير مباشر مع الولايات المتحدة، وكادت أن تصل إلى خواتيم نهائية، على الأقل وفق ما كان أعلن الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني وما كان وعده وزير خارجيته محمد جواد ظريف وما بشّر به الرئيس السابق للوفد الإيراني عباس عرقجي. لكن انتخابات إيران الرئاسية قلبت الأمور رأساً على عقب.

باتت إيران محكومة بمعسكر المحافظين بدون منازع. بدا أن انتخاب إبراهيم رئيسي يتكامل مع أغلبية محافظة داخل البرلمان ويُتمّم إمساك المرشد علي خامنئي والحرس الثوري بهياكل الحكم في البلاد. وصار على إيران “الثورة” أن تدلي بدلوٍ مختلف في مفاوضاتها النووية عن إيران “الدولة” بالنسخة التي كان يحاول تسويقها الثنائي روحاني-ظريف. وعليه فإن الوفد الإيراني الجديد إلى فيينا برئاسة علي باقري كني سيطل على شركاء بلاده في الاتفاق الشهير مُتأبطاً هذا الاختلاق في الشكل والمضمون، ذلك أن طهران حين كلفته بهذه المهمة وعينته مساعداً لوزير الخارجية للشؤون السياسية تفاخرت بالتذكير بأنه شخصية معارضة لاتفاق فيينا.

غير أن طهران التي أخذت وقتها في “تقييم” المفاوضات السابقة وفق أعذار التلكّؤ في العودة إلى فيينا، قدمت خلال شهور تعطيل المفاوضات الخمس ما تملكه من أوراق جديدة، وأخذت علماً بالمقابل بالتحوّلات الدولية الإقليمية الجديدة لردع إيران عن التعويل على تغيير موازين القوى.

أعلنت إيران تخلّيها عن الالتزام ببنود الاتفاق ورفعت نسب تخصيب اليورانيوم من 3.76 في المئة المسموح به وفق الاتفاق الى 20 ثم 60 في المئة، علماً أن إنتاج قنبلة نووية يحتاج إلى نسبة تخصيب تصل إلى 90 في المئة. أكثر من ذلك منعت طهران الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الاطلاع على ما تُظهره الكاميرات داخل المنشآت النووية وتوترت علاقات إيران مع مدير الوكالة رافائيل غروسي.

بالمقابل تدفقت التقارير المخابراتية الغربية لتُحذّر من اقتراب إيران من إنتاج قنبلة نووية. ولئن توعّدت تقارير بريطانيا وإسرائيل من أن إيران على بُعدِ بضعة أشهر من إنتاج هذه القنبلة، فإن تقارير أميركية بدأت تروِّج أيضاً لهذه النظرية. بمعنى آخر فإن وقف القنبلة النووية الإيرانية بات عاجلاً مُلحّاً، سواء عبر الديبلوماسية في فيينا أم عبر خيارات “أخرى” (وفق المستخدم في واشنطن) أو “عسكرية” (وفق الذي تتوعّد به وتستعدّ له إسرائيل).

والحال أن إيران المتوجّهة إلى العاصمة النمساوية لا يضيرها أبداً تراكم تقارير “الرعب” التي تُصدرها العواصم وتحويلها إلى أوراق تستعرض بها عضلاتها على طاولة المفاوضات. حتى أن المتحدث باسم هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، بهروز كمالوندي أكد عشية استئناف المفاوضات، أن “بلاده تمتلك قدرات صنع السلاح النووي منذ مدة طويلة، لكن عقائدها وتعليمات قائد الثورة تمنعها من الحصول عليها”، فيما يكشف مصدر برلماني إيراني أن أب البرنامج النووي، محسن فخري زاده، الذي مرّ عام على اغتياله كان “أنشأ نظاماً في مجال الأسلحة النووية على الرغم من فتوى المرشد الأعلى الإيراني”.

لم يصدر عن الولايات المتحدة ما يجرّ مياه إلى طواحين طهران. لن ترفع واشنطن كل العقوبات، ولن تعود إلى اتفاقٍ غير مُعدَّل غير مُعزَّز، ولن تنخرط في اتفاقٍ لا يأخذ هواجس حلفائها في المنطقة، لا سيما إسرائيل، بالاعتبار. ولم يرشح من جولات المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران، روبرت مالي، في الشرق الأوسط وأوروبا وروسيا ما يكشف مرونة أميركية جديدة عن تلك التي أظهرتها خلال الجولات الست السابقة.

ولئن تحدث وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن عن “نفاد صبر” و”درس خيارات بديلة” بما في ذلك إسقاط الاتفاق وعدم العودة إلى المفاوضات، فإن في ذلك صفعة لإيران-المحافظة وحثّاً لها على عدم التعويل على “انهيار” جو بايدن الذي يترصّد له الجمهوريون بقوة في هذا الملف.

تسعى إيران بصعوبة إلى إقناع الرأي العام الداخلي كما ذلك داخل معسكرها “الممانع” في المنطقة أنها تعود إلى فيينا أقوى مما سبق. إكتشفت إيران خلال الشهور الأخيرة أن نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن لم يعد من الثوابت القوية التي بالإمكان حمل أوراقها إلى أيّ طاولة مفاوضات. ثم أن الفتك الإسرائيلي بمواقع إيران وميليشياتها العسكرية في سوريا بات مُخجِلاً مُذلّاً يتواطأ داخله كل أعضاء نادي فيينا النووي. ثم أن العالم الذي يُلمّح إلى خيارات أخرى إذا ما سقط الاتفاق وفشلت المفاوضات، يعرف أن إيران المتصابية لا تملك أية خيارات أخرى تُخفّف من أزمتها الاقتصادية والمعيشية الداخلية التي قد تتحوّل إلى تململٍ عام ظهرت أعراض له في الأشهر والأيام الأخيرة.

لن يُسمَح لإيران بامتلاك قنبلة نووية. أمرٌ تُدركه طهران كما تُدرك أن رفض دولة حليفة مثل روسيا لإيران نووية هو أقوى من رفض إسرائيل والولايات المتحدة والدول الغربية ودول الشرق الأوسط. وطبعاً لا مصلحة للصين في طموحاتها الدولية أن تنبت قنبلة نووية إيرانية على “طريق الحرير”. وتعلم طهران أن الخيار العسكري ضد إنتاج قنبلة نووية ليس ترفاً أو تلفيقاً، بل حتمياً إذا ما باتت قنبلة إيران مُمكنة. وعلى ذلك فإن مستوى التخصيب وكميات المخصب من اليورانيوم ليست عوامل رادعة تُغيّر من موازين القوى، وأن ما حققته في هذا المضمار قبل العام 2015 تمّ التعامل معه وضبطه وإخراجه وفق اتفاق فيينا في ذلك العام.

على طاولة الجولة السابعة للمفاوضات سينتهي مفعول الأبجديات التي أطلقتها طهران منذ تبوؤ رئيسي سدة الرئاسة. فشلت إيران في تسويق حوارها مع السعودية واستنتجت من انقلاب طاولة أذرعها في اليمن أن مناخاً جديدا سبق أن استنتجته في العراق ولبنان وسوريا ينفخ عواصف سوداء على إمبراطوريتها المزعومة. والأرجح أن وفد رئيسي المتشدد سيكتشف في فيينا ما سبق أن عرفه وفد روحاني هناك مع زيادة وبدون نقصان.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى