ثورة الطاقة تهدّد مستقبل العالم العربي

لندن – هاني مكارم

لأن الإقتصاد يعتمد على النفط وواردات الغذاء تعتمد على دخل الهيدروكربونات

فيما تهلّل الولايات المتحدة لثورة الطاقة المنتعشة عندها، والتي تعد بجعلها مستقلة في هذا المجال، يتخوف خبراء كثر من أن أثار هذه الثورة ستكون سلبية وتحمل في ثناياها تداعيات خطيرة. ويشيرون إلى أن من المناطق التي يمكن أن تكون الأكثر ضرراً وتهديداً بسببها هي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

الرئيس فلاديمير بوتين: النفط أعطاه القوة في أوكرانيا
الرئيس فلاديمير بوتين: النفط أعطاه القوة في أوكرانيا

 

أصبح إستقلال الطاقةشعاراً مرحلياً لأميركا وعلاجاً حقيقياً لكثير مما تعانيه بلاد العم سام، لا سيما في ما يتعلق بسياستها الخارجية. وقد وصف بعض الخبراء ذلك بأنه يشكل وسيلة مثالية لواشنطن لمواجهة التحديات التي تعترض الديموقراطية، ونظام المستبدين العالميين، بدءاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى آية الله علي خامنئي في إيران، وإلى بعض الحكام العرب“. لقد إعتُبر ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، على سبيل المثال، كدليل على النفوذ الذي تتمتع به موسكو جرّاء إعتماد أوروبا على الغاز الروسي، مع إعتراف مرفق أن الولايات المتحدة غير قادرة في المقابل حتى الآن على سد كمية كافية من فجوة العرض المحتمل لتقوية ودعم حلفائها الأوروبيين. ولكن الرسالة الأساسية التي إستنتجها معظم الخبراء من الإستجابة للأزمة في أوكرانيا وغيرها من التهديدات المستقبلية ضد مصالح واشنطن هي: “إنتظروا الإستقلال في مجال الطاقة، وبالتالي المزيد من العضلات، إن أميركا عائدة على الطريق“.

الواقع إن تحقيق الولايات المتحدة الإستقلال في مجال الطاقة، وما قد يكون تأثير ذلك فعلياً على مكانتها في العالم، هما بطبيعة الحال لم يتحدّدا بعد. ولكن ما هو واضح حالياً هو أن تغييرات عميقة تحدث ليس فقط في أسواق الطاقة الأميركية ولكن في جميع أنحاء منظومة الطاقة العالمية. إن تنويع إمدادات الطاقة يجري ويحدث بسرعة، في حين أن نمو الطلب بالنسبة إلى الناتج الإقتصادي يتباطأ بشكل كبير. ومن جهته لم يعد النفط الذهب الأسود السائل الذي يُطرح كمادة حيوية أعلى وأهم من العلاقات الإقتصادية الطبيعية، حيث يسعى المشترون إلى الحصول عليه من عدد محدود نسبياً من المورّدين ويدفعون الثمن المطلوب مهما كان مرتفعاً. إن إستهلاك النفط العالمي يعرف حالياً ركوداً تاماً، في حين تتوسع حصص المنافسين في حقل المحروقات من الفحم والغاز في السوق الهيدروكربونية الشاملة التي تواجه تحدياً متزايداً من مصادر الطاقة المتجددة. كما أن إنتاج الهيدروكربونات يتوسّع بشكل أسرع في الأميركتين مما هو عليه في أي منطقة أخرى في العالم. وفيما يضيف النمو الإقتصادي العالمي البطيء منذ العام 2008 إلى الضغط النزولي على الطلب، فإن إستئناف مزيد من النمو السريع لن يستطيع وقف ثورة الطاقة التي تتكشف فصولها الآن.

ويفيد أهل الخبرة أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما فيها العالم العربي، التي تملك إحتياطات هيدروكربونية مذهلة، حيث يقبع في أراضيها وحدها ما يمثل أكثر من 50 و30 في المئة، على التوالي، من النفط والغاز من إحتياطات العالم، هي من المناطق الأكثر عرضة في العالم لتهديد التغيرات الهائلة التي تحدث في أسواق الطاقة. في الواقع، بينما عانت هذه المنطقة من لعنة النفط بسبب التبعية الإقتصادية، التي مازالت تتوسع، للهيدروكربونات التي ساعدتها على إمتصاص نمو أعمق واسع النطاق لليد العاملة، فيمكن أن يكون التحوّل الوشيك لظروف التبادل التجاري لعنةأكبر ضد النفط. ويرى الخبراء بأن العالم العربي، بإحتضانه فعلياً لأعلى معدل بطالة في العالم وأبطأ ناتج محلي إجمالي بالنسبة إلى معدل نمو نصيب الفرد بين الإقتصادات الإقليمية الناشئة، وهما من أوجه القصور التي ساهمت إلى حد كبير في الإضطرابات السياسية والصراعات العنيفة على نطاق واسع، سيواجه مستقبلاً إقتصادياً وسياسياً قاتماً إذا إستمرت الإيرادات النفطية بالركود كما كان الأمر على مدى السنوات الثلاث الفائتة.

 زعماء مجلس التعاون الخليجي: المطلوب إستراتيجية نفطية جديدة

زعماء مجلس التعاون الخليجي: المطلوب إستراتيجية نفطية جديدة

الإضطراب في معاقل الهيدروكربونات في العالم ليس نبأً ساراً وطيباً لأحد، بما في ذلك الولايات المتحدة. لقد كان النفط سلعة قابلة للإستبدال لعقود، كما الغاز على نحو متزايد، وذلك نتيجة لإرتفاع حصة الغاز الطبيعي المسال في سوق الغاز العالمية. إن إختلالات كبيرة للتزويد أو التصدير من العالم العربي لها عواقب إقتصادية سلبية حتى بالنسبة إلى أميركا المستقلة في مجال الطاقة. لقد أصبحت الإضطرابات الطفيفة بالفعل شائعة، مع بعضها ناجم عن تخريب خطوط الأنابيب أو السيطرة على حقول النفط من قبل متمردين. ولكن العنف هو مجرد واحد من العوامل التي تسببت في ركود الصادرات من سوريا واليمن، ومصر، وليبيا، وإحباط الأمل في التوسع الكبير في الإنتاج في العراق. وفي هذا الأخير ليس السبب فقط هو إنعدام الأمن، ولكن سوء إدارة حكومة بغداد العميق لقطاع النفط الذي دفع بعض شركات البترول العالمية الرائدة، بما في ذلك إيكسون، للتوجه شمالاً إلى المنطقة الكردية حيث توجد كميات أقل من النفط، ولكن المزيد من الأمن، وبيئة للأعمال التجارية أكثر عقلانية.

حتى مع وجود الإستقرار وغياب العنف، فإن القدرة العربية على توليد الدخل من المواد الهيدروكربونية، وبالتالي دفع ثمن واردات الغذاء التي تعتمد عليها المنطقة أكثر من أي شيء آخر، هي تحت التهديد. يتم إستهلاك نسبة أعلى من أي وقت مضى من إنتاج النفط والغاز محلياً، في جزء كبير منه بسبب قلة كفاءة الإقتصادات العربية في عالم الطاقة، في حين أن كلاً من القدرة والإستعداد لرفع رأس المال المطلوب لتوسيع الإنتاج في تناقص. إن دولاً عربية عدة كانت مصدرة صافية للطاقة حتى وقت قريب جداً، بما في ذلك مصر واليمن، هي الآن مستوردة صافية، غير قادرة حتى على إحترام إتفاقات تقاسم الإنتاج مع شركات الطاقة العالمية التي طوّرت لها حقول النفط والغاز. على مدى السنوات الخمس المقبلة سوف يحتاج المنتجون العرب إلى حوالي 800 مليار دولار في إستثمارات جديدة لدعم إنتاج النفط والغاز في حقولهم المعمّرة والهرمة القديمة وإضافة بعض القدرات الجديدة. في حين أن إحتياطات النفط والغاز العربية سابقاً كانت تكلّف أرخص لوضعها على خط الإستهلاك، فإن تكاليف ممارسة الأعمال التجارية هناك تصاعدت الآن إلى الحد الذي يجعل الوضع أرخص، ناهيك عن كونه أكثر أمناً، لإستخدام تقنيات الإسترداد المتقدمة لتطوير إحتياطات الغاز والنفط المستخدمة في الولايات المتحدة. لقد قاومت الدول العربية التي يمكنها توسيع الإنتاج بسهولة ذلك، بما في فيها الكويت وقطر، في جزء منه بسبب الصراعات السياسية الداخلية وفي جزء آخر بسبب المخاوف بشأن المديونية. وفيما صارت إحتياطات النفط والغاز أعمالاً مماثلة لجميع الأعمال الأخرى، فإن تكاليف ومخاطر ممارسة الأعمال التجارية تلعبان دوراً أكبر من أي وقت مضى في حسابات أولئك الذين يختارون أين يستثمرون. وقد تم فعلياً إعتبار قطاع النفط والغاز العربي من قبل بعض الدول الغربية ذات الصلة بأنه بالمقارنة رهان سيئ.

وباختصار، هناك جانب صغير أشار إليه الخبراء، ولكنه عنصر محتمل مهم من ثورة الطاقة المعاصرة، هو تأثيرها في العالم العربي الذي على مدى ثلاثة أجيال ساهم في التجارة العالمية الهيدروكربونية أكثر من أي شيء آخر. الواقع أنه بإعتماده بشكل كبير على عائدات النفط والغاز أكثر من أي منطقة أخرى، وتابعاً جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا في المعدل الرائد في العالم بالنسبة إلى النمو السكاني في حين أن لديه معدلاً من نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد أقل من تلك المنطقة الفقيرة، إضافة إلى سجل سحيق غير مشجع بالنسبة إلى تنويع إقتصاده وصادراته، يواجه العالم العربي بالفعل تهديدات خطيرة بالنسبة إلى الإستقرار وحتى بقاء بعض دوله على قيد الحياة والنمو.

سوف تتفاقم هذه التهديدات بشكل أعمق بسبب ثورة الطاقة. كما أن تهديداً وجودياً يتمثل في عدم قدرة العالم العربي على إطعام سكانه لا يمكن إستبعاده بشكل قاطع. إن آثار الإضطرابات في هذه النقطة الإستراتيجية المختنقة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، التي تمتلك أكبر حصة من إحتياطات النفط والغاز العالمية وتعاني فعلياً من معدلات رائدة في العالم من الصراعات العنيفة، سوف تكون كبيرة. حتى أميركا المستقلة في مجال الطاقة لن تكون في مأمن من العواقب. لذا فمن الضروري إجراء تقييم بشكل عام عن آثار ثورة الطاقة في صناعة النفط والغاز العربية وآثارها في الإقتصادات السياسية لدول المنطقة ككل.

ثورة الطاقة العالمية: العرض والطلب، والأسعار

التغييران الهائلان في إمدادات الطاقة هما في الأنواع والمصادر الجغرافية. في ما يتعلق بالأولى، داخل الأسرة الهيدروكربونية يفسح النفط المجال للغاز، وإلى حد أقل، للفحم، بينما تفقد الهيدروكربونات ككل حصتها في السوق لصالح مصادر الطاقة الأخرى. لقد إنخفض مجموع إمدادات الطاقة الأولية العالمية التي يقدّمها النفط من 53 في المئة في العام 1973 الى 36 في المئة في العام 2012، في حين إرتفعت الحصة التي يقدّمها الغاز من 19 في المئة إلى 26 في المئة في الفترة عينها. في العام 2012 وصل انتاج الطاقة الكهرومائية إلى ما يقرب من 7 في المئة من إمدادات الطاقة العالمية، وهي أعلى حصة لها على الإطلاق، في حين نمت طاقة الرياح بمعدل سنوي يزيد على 18 في المئة وتوليد الطاقة الشمسية بنسبة 58 في المئة. لقد زادت حصة أشكال الطاقة المتجدّدة بمقدار ثلاثة أضعاف بين 2002 و2012. أما بالنسبة إلى المصادر الجغرافية للطاقة، فقد إنخفض نصيب منطقة الشرق الأوسط من إنتاج النفط الخام العالمي من 36 إلى 32 في المئة بين 1973 و2012. وكان التحوّل الكبير حقاً في إرتفاع إنتاج النفط والغاز الأخير في الولايات المتحدة. لقد نما إنتاج النفط 30 في المئة بين عامي 2011 و 2014 إلى ما يقرب من 13 مليون برميل يومياً، في حين توسع إنتاج الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي بنسبة 4.7 في المئة في العام 2012 وحده، مقارنة مع النمو العالمي البالغ 1.9 في المئة، مما يجعل أميركا على حد سواء الأسرع نمواً وأكبر منتجة للغاز. على سبيل المقارنة، روسيا، التي تعاني من سوء الإدارة المزمن في صناعة الغاز، إنخفضت حصتها من إنتاج الغاز العالمي 2.7 في المئة، وهو أكبر إنخفاض في العالم.

الواقع أن الطلب على الطاقة يتبع التغيّرات في العرض. لا يزال النفط الوقود الرائد في العالم، وقد مثّل ثلث الإستهلاك العالمي للطاقة في العام 2012، لكنه فقد حصته في السوق الآن لمدة 14 سنة متتالية، وحصته في السوق الحالية هي في أدنى مستوى منذ أن بدأ حفظ السجلات الرسمية في العام 1965. زاد إستهلاك النفط العالمي بنسبة أقل من 1٪ في العام 2012، وكان أضعف معدل نمو عالمي بين الوقود الأحفوري للعام الثالث على التوالي. وإنخفض إستهلاك دول المنظمة الإقتصادية التعاون والتنمية للسنة السادسة على التوالي، بنسبة 1.3 في المئة. وتشكل دول هذه المنظمة الآن ما يزيد قليلاً على نصف الإستهلاك العالمي للنفط، وهو أدنى حصة لها على الاطلاق. من جهة أخرى نما إستهلاك الفحم بنسبة 2.5 في المئة في العام 2012، مما يجعله الوقود الأحفوري الأسرع نمواً. وتستهلك الصين أكثر من نصف إستهلاك العالم من الفحم، مع توفير هذا الوقود 70 في المئة من إجمالي إستهلاك الطاقة فيها. على النقيض من ذلك، سجلت الولايات المتحدة أكبر زيادة في العالم في إستهلاك الغاز الطبيعي.

الغاز المسال في قطر: أخذ مكاناً مهماً في السوق الهيدروكربونية الدولية
الغاز المسال في قطر: أخذ مكاناً مهماً في السوق الهيدروكربونية الدولية

بالإضافة إلى التحول من النفط إلى الغاز والفحم، ومن الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجدّدة، فإن الطلب المتزايد يعكس أيضا كفاءة إستخدام الطاقة. نما الإستهلاك العالمي للطاقة الأولية 1.8٪ فقط في العام 2012، أقل بكثير من متوسط العشر سنين البالغ 2.6 في المئة وأقل بكثير من المعدل العالمي لنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في تلك السنة البالغ 3 في المئة. وإنخفض الإستهلاك في دول المنظمة الإقتصادية للتعاون والتنمية في العام 2012 بنسبة 1.2 في المئة وفي أميركا بنسبة 2.8 في المئة، ويُعتبر هذا الأخير أكبر إنخفاض في العالم. بينما نما الإستهلاك في الدول غير الأعضاء في المنظمة الإقتصادية بنسبة 4.2 في المئة، وحتى هذا كان أقل من المتوسط ​​لمدة 10 سنين البالغ 5.3 في المئة. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية إستمرار تباطؤ إستهلاك الوقود، بغض النظر عن مستويات النمو الإقتصادي. لقد إرتفع إستهلاك الوقود السنوي من 9،000 إلى 13،000 مليون طن من النفط من 1990 إلى 2011. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية إرتفاع هذا الإستهلاك إلى أكثر من 14،000 مليون طن في العام 2020 إذا ظلت السياسات المعتمدة حالياً ولم تتغير، أو، إذا تم تطبيق سياسات أكثر صرامة، إلى أقل بقليل من 14،000 مليون طن. وبعبارة أخرى، إن معدل النمو السنوي لإستهلاك الوقود سوف ينخفض من حوالي 5 في المئة في 20 سنة قبل العام 2011 إلى أقل من 1 في المئة في العقد المقبل. ومنطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، على الرغم من وجود صناعي قليل نسبياً فيها، والتي على مستوى العالم تُعتبر أكبر مستهلك للطاقة في أي قطاع للإستخدام النهائي، هي المنطقة الناشئة الأقل كفاءة بالنسبة إلى الطاقة. وفي كثافة إستخدامها للطاقة، والتي هي معيار لقياس كفاءة إستخدام الطاقة في إقتصاد البلاد حيث يتم إحتساب وحدات من الطاقة لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي، هي في المرتبة 28، مقابل: 24 لأفريقيا، 22 لآسيا، 18 لأميركا الشمالية، و12 لأوروبا. وليس من المستغرب، أن حصة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الإستهلاك العالمي للطاقة قد زادت في أسرع معدل في العالم بين 1973 و2012، مرتفعة من 0،7 إلى 4،8 في المئة من المجموع. لذا من أجل تلبية إحتياجاتها المحلية من الطاقة فإن المنطقة تحتاج من الآن وحتى العام 2030 إلى تخصيص 3 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للإستثمار في البنية التحتية للطاقة، مقارنة بالمعدل العالمي البالغ 1 في المئة.

الآثار المترتبة عن هذه الإتجاهات في العرض والطلب على الطاقة بالنسبة إلى الأسعار هي أن تلك الأنواع من الوقود الأحفوري من المرجح أن تركد، وربما حتى تنخفض، من حيث القيمة الحقيقية في المستقبل المنظور. في العام 2013 كان متوسط ​​سعر سلةمن أنواع نفط أوبك” 106 دولارات، أي أقل قليلاً من متوسط ​​السنوات الثلاث السابقة البالغ 108 دولارات. وأدّت زيادة الإنتاج من دول خارج أوبك، بقيادة الولايات المتحدة، وكندا، والبرازيل، إلى وضع ضغوط إضافية على الطلب على نفط أوبك، مع عواقب وخيمة بالنسبة إلى البلدان التي تنتسب إلى تلك المنظمة. إن المتوسط المرجح لسعر التعادل المالي (break-even) للدول الأعضاء في أوبكيبلغ 105 دولارات للبرميل الواحد، مما يدل على أنها سوف تناضل من أجل التوازن في موازناتها في السنوات المقبلة. في حين كانت الولايات المتحدة في السابق أكبر مستورد للنفط في العالم، فإن الطلب الأميركي على النفط من الشرق الاوسط سوف ينخفض بشكل حاد على مدى العقدين المقبلين، من 1.9 مليون برميل يومياً في العام 2011 إلى 100،000، أو أقل من 3 في المئة من إجمالي واردات أميركا من النفط ، بحلول العام 2035. بينما من المتوقع أن يعوّض إستهلاك الدول غير الأعضاء في المنظمة الإقتصادية للتعاون والتنمية عن تراجع الطلب الأميركي على النفط في الشرق الأوسط، فإن زيادة كفاءة إستخدام الطاقة في الإقتصادات الناشئة سوف يقلّل بشكل مطرد من نسب كثافة الطاقة لديها، وبالتالي سيضعف معدل الزيادة على الطلب حتى في آسيا والمناطق الصناعية الأخرى. العاملان اللذان يمكنهما أن يعملان ضد ركود الأسعار: أولاً إنقطاع الإمدادات، التي تحدث بتواتر متزايد الآن في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي قد يعجل في علاوات أعلى على المخاطر؛ وثانياً عدم كفاية الإستثمار في الطاقات الإنتاجية، مع كون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مرة أخرى المنطقة الأكثر عرضة لهذه المشكلة.

ثورة الطاقة العالمية: المال والأعمال

كما أن أنواع ومصادر الطاقة العالمية تشهد تغيراً عميقاً وسريعاً، فكذلك كان الحال مع أعمال الطاقة التي تحوّلت منذ بداية إنتقال السلطة من شركات النفط العالمية الكبرى إلى شركات النفط الوطنية في أوائل سبعينات القرن الفائت. لجيل أو أقل، بعد إعتداءالشركات الوطنية على هيمنة الشركات الدولية على الصناعة الهيدروكربونية العالمية، فإن الدول المنتجة للنفط والغاز، تقودها دول في منطقة الشرق الأوسط، واصلت التعاقد مع شركات النفط العالمية. ولكن فيما طوّرت تلك البلدان قدرات شركات النفط الوطنية وزاد نفوذها بسبب الإرتفاع السريع في الطلب على الوقود الأحفوري، شرعت في التحوّل من إتفاقات تقاسم الإنتاج مع شركات النفط العالمية إلى عقود الخدمة معها. في السنوات الأخيرة تم اتباع هذا التحوّل بتغيير آخر من التعاقد المباشر مع شركات الخدمات المتخصصة وليس مع شركات النفط العالمية المتكاملة. كما أن النموذج الفوردي” (نسبة إلى شركة فورد) للتكامل العمودي لإنتاج السيارات المحدود الخيارات أعطى وسيلة للإستعانة بمصادر خارجية وتصنيع أكثر تخصصاً، شهدت صناعة النفط ولادة شركات أصغر حجماً وأكثر فطنة ومتخصصة ومبتكرة من الناحية التكنولوجية، تستطيع القيام بالدور المطلوب القائم بين شركات النفط العالمية وشركات النفط الوطنية، مقدمة خدماتها بواسطة عقد لكليهما. وهكذا أصبحت شريكة بديلة لشركات النفط الوطنية، التي كانت تفضل بشكل متزايد التعامل معها بدلاً من شركات النفط العالمية. في الواقع، لم تعد الآن الربحية فقط ولكن مجرد وجود شركات نفط عالمية متكاملة عمودياً قد يكون موضع شك. تبدو شركات النفط العالمية أكثر وأكثر مثل الديناصورات التجارية لصناعة الطاقة، فهي من جهة غير قادرة على نحو متزايد حجز إحتياطات جديدة لأنها لا تستطيع توقيع إتفاقات تقاسم إنتاج كافية. ومن جهة ثانية تخسر أيضاً الناحية التكنولوجية للشركات الأكثر تخصصاً، لذا لم تعد لديها إحتياطات خاصة تعتمد عليها كمنافساتها الشركات الوطنية، وليس لديها ما يكفي من الأرباح التي تعتمد عليها لمواجهة التحديات المالية المتزايدة لتنمية الآبار / المنبع. إن أرباح شركة النفط إيكسونالدولية الرائدة في العالم، على سبيل المثال، عانت على مدى السنوات القليلة الماضية نتيجة لإستثمارات ضخمة ولكن قلة مكاسب وأرباح في الإنتاج، الأمر الذي أجبر الشركة الآن على الحد من الإنفاق في المستقبل. شركة بريتيش بتروليوم” (BP)، التي سعت في ظل القيادة السابقة للتحرك أبعد من النفط، تخلت في نهاية المطاف عن الأمل في أن تصبح تكتل طاقة متكاملاً الذي من شأنه أن يشمل مصادر الطاقة المتجددة إلى جانب تركيزه على المواد الهيدروكربونية التقليدية. نتيجة لذلك إستمرت بريتيش بتروليومفي بيع الأصول على أمل أنها سوف تستقر خسائرها وبطريقة ما تتمكن من إستخراج المزيد من الأرباح من إنخفاض العمليات.

الواقع إن أهمية التحوّل العالمي، من شركات النفط العالمية إلى شركات النفط الوطنية، بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والآن بالنسبة إلى صناعة النفط والغاز العالمية، المدفوعة أكثر بكثير بالتنوع والتخصص والتكنولوجيا، القادرة على إنتاج الوقود الأحفوري في مناطق غير معروفة أو غير واعدة من قبل، تكمن في تطبيع هذه الصناعة الفريدة السابقة والمربحة بشكل فريد. جنباً إلى جنب مع التكاليف المتصاعدة بسرعة من أنشطة الآبار/المنبع، فذلك يعني أن الإحتياطات وحدها لم تعد كافية لإغراء تحفيز التنمية. إن شركات النفط العالمية، التي كانت سابقاً مركزاً تجارياً واحداً يوفّر التخطيط ورؤوس الأموال والتكنولوجيا، وحتى الأسواق، هي متعثرة الآن. والنتيجة هي أنها عادة ما تكون غير راغبة أو غير قادرة على أن تكون شريكة وحيدة للدول المنتجة، حتى لو كانت تلك البلدان تريد لها هذا الدور. من جهتها تعاني شركات النفط الوطنية من ضعف مماثل، يتفاقم في كثير من الحالات من سحبالأرباح من قبل حكوماتها لإستخدامات أخرى. وشركات الطاقة الناشئة الحيوية المتخصصة والمتقدمة تكنولوجياً هي صغيرة جداً لتوليد رأس المال الإستثماري الخاص أو لتحمل ضخامة المخاطر التي تتحملها تقليدياً شركات النفط العالمية وشركات النفط الوطنية. نتيجة لهذه التغيرات المترابطة التي حوّلت أعمال الوقود الأحفوري العالمية، لم تعد إحتياطات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الهائلة حافزاً كافياً في حد ذاتها لدفع عجلة التنمية. حساب التكاليف والمخاطر يجري بعناية أكبر بكثير من قبل الشركاء المحتملين. العراق، على سبيل المثال، الذي لديه إحتياطات هائلة هي الثانية في المنطقة فقط لتلك في المملكة العربية السعودية، كان غير قادر على رفع الإنتاج إلى المستويات التي تحققت في عهد صدام حسين، وشهد رحيل ليس فقط شركة إيكسونلكن شركات أصغر حجماً.

إن المشكلة في الحقيقة تتعلق في تأمين التمويل من أجل تنمية الآبار/المنبع المكلفة على نحو متزايد، والتي حسب تقارير وكالة الطاقة الدولية تضاعفت تكلفتها في جميع أنحاء العالم في العقد الفائت. في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع ذلك، فإن الشركة العربية للإستثمارات البتروليةأفادت بأن تكلفة مشاريع الطاقة زادت أكثر من ثلاثة أضعاف خلال الفترة عينها، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أقساط المخاطر والتكاليف المرتبطة بالإفراط الكبيرلمشاريع الطاقة في الشرق الأوسط. بين الآن و2018 تقدّر المؤسسة العربية إجمالي متطلبات رأس المال لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمشروعات الطاقة ب765 مليار دولار، وهو مبلغ يعتقد الخبراء أنه سيكون من الصعب جمعه أو تأمينه. وكانت المصادر التاريخية لرأس المال لمشاريع التنقيب والإنتاج في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا تأتي بشكل مساهمات محلية في أشكال أرباح مدوّرة ومخصصات حكومية، تكمّلها القروض، وبصورة رئيسية من البنوك الدولية وشركات النفط العالمية. هذه المصادر هي الآن تحت الضغط. لقد ركدت أرباح معظم شركات النفط الوطنية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لنحو ثلاث سنوات، ولا تظهر علامات على زيادات كبيرة حقيقية في وجه أسعار مستقرة، إن لم تكن في إنخفاض، لمنتجاتها. غالبية الحكومات في المنطقة، وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي الغنية بالنفط، زادت بشكل كبير المخصصات العامة رداً على الربيع العربي” — مخصصات أصبحت منذ ذلك الحين إستحقاقات دائمة.

بينما تعرف موازنات دول مجلس التعاون الخليجي عموماً توازناً والديون السيادية منخفضة نسبياً، فإن الإيرادات الفائضة لتلبية تكاليف الأنشطة الإنمائية للآبار/المنبع المتصاعدة بسرعة ليست متاحة بسهولة. أما بالنسبة إلى البنوك الدولية، فقد ركّزت منذ العام 2008 على إعادة بناء إحتياطات رأس المال أكثر من التركيز على تقديم قروض جديدة. وتشير البيانات المتاحة إلى أن هذه البنوك أصبحت أكثر وأكثر حذراً بالنسبة إلى منح القروض إلى منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وقطاع الطاقة على وجه الخصوص. لقد شمل الإستثمار في الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العام 2013 نحو 10 في المئة من إجمالي إستثمارات الطاقة العالمية، ولكن جذبت المنطقة 2.2 في المئة فقط من جميع القروض الممنوحة لصناعات الطاقة في جميع أنحاء العالم. وإنخفضت القروض لجميع القطاعات الاقتصادية في المنطقة من جميع المصادر بين 2010 و2012 إلى النصف قبل أن تعرف زيادة طفيفة في العام 2013، وذلك أساساً بسبب قروض جديدة منحتها البنوك الوطنية والإقليمية. وحسب تقارير الشركة العربية للإستثمارات البترولية فإن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت لم تشهد صعوبة في الحصول على قروض جديدة. الحل الواضح للأزمة المالية التي تواجه صناعات الطاقة في المنطقة هو أن تعمد الشركات الوطنية ذات الصلة إلى رفع رأس المال من خلال إصدار أسهم. هذا، مع ذلك، يتطلب المزيد من الشفافية ويعني فقدان ما لا يقل عن بعض السيطرة السيادية، لذلك ليس خياراً لأنه لم يجر تطويره بعد على محمل الجد. النسبة الحالية لرأس المال المشترك في تمويل الإستثمار في الطاقة في المنطقة هو أقل من 1 في المئة، وهناك إحتمالات قليلة بأنها سيتم زيادتها قريباً أو بشكل كبير.

التحوّل المستمر لقطاع الطاقة العالمي، جنباً إلى جنب مع تصاعد حدة التنافسية للوصول إلى التمويل، يضغطان على المنتجين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر من أولئك الموجودين في مناطق أخرى. غالبية الحكومات في المنطقة وشركات النفط الوطنية التابعة لها لم تصحّح مسار تنميتها أو إستراتيجياتها المالية بما فيه الكفاية للتعامل مع هذه التحديات. إن المنطقة ككل تعاني من المخاطر السياسية المرتفعة، التي تفاقم تكاليف ممارسة الأعمال التجارية التي هي فعلياً وحالياً عالية نسبياً بسبب نقص بيئات العمل الناتجة عن قصور الحكم. لعقود عدة وبلدان المنطقة المصدرة للنفط والغاز كانت أساساً في مأمن من المنافسة الإقتصادية العالمية بسبب إغراء النفط والغاز ووفرتهما وسهولة إستخراجهما. فيما تتحول هذه الصناعة لتكون أكثر طبيعية، فإن إغراءها لم يعد يكفي. المسألة الحيوية بالنسبة إلى المنطقة والعالم على حد سواء هنا تكمن الآن في ما إذا كان بإمكان الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تعتمد على عائدات الطاقة لديها أكثر من تلك الدول في أي منطقة أخرى، الإنضباط والتطور والتموضع بما فيه الكفاية وبسرعة وبدقة لمواجهة هذا التحدي. إن مدى الوقت العميق وطوله وتزايد الإعتماد على النفط والغاز، جنباً إلى جنب مع سجلات حافلة بالمقاومة السلطوية لكل تغيير سياسي وإقتصادي، تشير إلى أنها قد تفشل في تلبية التحديات المطروحة عليها من قبل ثورة الطاقة. لذا المستقبل العربي لا يبشّر بالخير.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى