أزمةُ اللُغة والهُوِيَّة في أوكرانيا

منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي، وبالتالي عن روسيا، عانت أوكرانيا من أزمة لغّة وهُويّة الأمر الذي دفع برئيسها ليونيد كوتشما، الذي حكم البلاد من 1994 إلى 2005، إلى نشرِ كتابٍ فريدٍ من نوعه بعنوان “أوكرانيا ليست روسيا”!!، وهو ما يدلّ على حجم أزمة مسألة اللغة والهوية الأوكرانية آنذاك، والتي تطلبت سنوات من الجهد وعملياتٍ مُخَطَّطة لاعتماد لغة رسمية أوكرانية وبناء هوية مُنفَصلة عن الهوية الروسية. 

الرئيس الأوكراني السابق ليونيد كوتشما: “أوكرانيا ليست روسيا”.

السفير يوسف صَدَقة*

عاشت اوكرانيا منذ استقلالها في العام 1991، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أزمةَ لغةٍ وهُوِيَّة. وكانت اعتمدت اللغة الأوكرانيَّة لغةً رسميَّةً في العام 1989، فيما تمَّ تكريسُ تلك اللغة في قانونٍ دستوري صدر في العام 1996، بعدما كانت الروسيُّة هي اللُغةُ الرسميَّةُ السائدةُ في زمن الاتحاد السوفياتي، مع احتفاظ الأرياف الاوكرانيَّة باللُغة الاوكرانيَّة.

والأوكرانيَّة والروسيَّة لغّتان سلافيَّتان مُتقاربتان بنسبة تفوقُ الستِّين في المئة. وقد تعرَّضت الأوكرانيَّةُ، زمنَ القياصرة، فزمنَ الاتحاد السوفياتي، للخَطَر، ومُنِعَ المُثقَّفون من الكتابة بها. لكنَّ إعادتَها غدت، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مَطلبًا وطنيًّا يؤكِّد على التشبُّث بالهُوِيَّة الوطنيَّة الأوكرانيَّة.

بعد الاستقلال، تغيّرت تسميات المدن من الروسية الى الأوكرانية،  ف”كياف” (KIEV) أصبحت “كييف” (KYÏV) (باللاتينية) و”لفوف” (LVOV) صارت “لفيف” (LVIV) وتحوّلت “خاركوف” (KHARKOV) إلى “خاركيف” (KHARKIV) … وكانت اللغة الاوكرانية بدأت منذ ثلاثينات القرن الماضي تُدخِلُ الكلمات الروسية في إطار العمل على “ترويس” اللغة الاوكرانية (RUSSIFICATION).

الأوكرانيون واللغة القديمة

يتحدّر الشعبُ الأوكراني من قومياتٍ عدة يُمثّل الأوكرانيون 75,5% من السكان، والقومية الروسية 17,2% ونسبة 7% تنتمي إلى قومياتٍ عدّة أُخرى، البلاروس 0,6%، المولداف 0,5%، تتر القرم 0,5%، الهنغار 0,3%، يهود 1,4% . وهناك قومياتٌ أُخرى لا يتعدّى عدد سكانها أكثر من 30,000 نسمة (اليونانيون، الألمان، الأرمن، الجورجيون…).

وأفادت الإحصاءات الحكوميَّة لعام 2020 أن 75% من الأوكرانيين يعتبرون الأوكرانيَّةَ لغتهم الأم، فيما يعتبر 85% من الأوكرانيين من ذوي الأصل الروسي أن الروسيَّةَ هي لغتهم الأم. والاوكرانيَّةُ لغةٌ سلافيَّةٌ قريبة من الروسيَّة والبيلاروسيَّة، وكانت اللُغات الثلاث تمثِّلُ لغةً واحدةً حتى القرن العاشر. وبدأ الافتراق على نحوٍ رسميٍّ بينَها في القرن الرابع عشر. وتبيَّن ان ثمَّةَ تقاربًا بين الأوكرانيَّة والروسيَّة في القواعد وفي اللفظ وفي المُفردات (LEXICAL). وعلى صعيد المقارنة، هناك تقارب بين الروسيَّة والأوكرانيَّة كما أسلَفت بنسبة 60%، وهي نسبةٌ تفوقُ التشابه بين الفرنسيَّة والإيطاليَّة.

وعلى سبيل المثال، يَفهَمُ الروسيُّ بصعوبة اللغةَ الأوكرانيَّة. أمّا الأوكرانيون من أصلٍ روسي فيفهمون الأوكرانيَّة. وعندما توجَّه الرئيس الاوكراني “بيتر باراشينكو” (Peter Parachenko) في المحادثات مع الرئيس الروسي بوتين في موسكو باللغة الأوكرانيَّة، طلب الرئيس الروسي مترجمًا للقاء، لأنه تعذَّر عليه فهم بعض التعابير الاوكرانيَّة.

تعدّد اللهجات في اللغة الأوكرانية

تتوافر لهجاتٌ عدة في اللغة الأوكرانيَّة يصعبُ على الأجنبي الذي يُتقِنُ الأوكرانيَّة التفريقُ بينها، ومنها اللهجات في المناطق الشمال والوسط والشرق التي تسمَّى ” أوكسيدنتال بوليسيان” (Occidental Polissien)، واللهجات في الجنوب والغرب التي تسمَّى “فولينيان” (Volynien) – “ترانسكاباثيان” (Transcarpathien) – “بويكو” (Boyko) – “بودريليان” (Podrillien).

وتستَخدَمُ اللغة الأوكرانيَّة الرسميَّة في الصحف ووسائل الإعلام، كما في المدارس والجامعات وكتابة الآداب. وهي لغة المدن والنخبة المثقَّفة، وتستعمل لكتابتها الألفباء المعروفة بالـ”سيريليك” (Cyrillique). وقد ظهرت في السنوات الاربعين الأخيرة لهجة جديدة، هي لهجةُ الـ”صوجيك” (Soujyk)، وهي مزيجٌ من اللغتين الأوكرانيَّة والروسيَّة. وقد أشار معهد العلوم الاجتماعيَّة في كييف في دراسةٍ صدرت في العام 2003، أن نسبة 11 الى 18 في المئة من الشعب الأوكراني يتكلّم تلك اللهجة، ولا سيَّما في القرى والريف، وهي لهجة هَجينة.

وعلى صعيدِ سكان مدينة كييف فإنهم يتحدّثون اللغتين الأوكرانيَّة والروسيَّة على قدم المساواة. وقد أشارت الإحصائيَّات الرسميَّة أن 52% من الأوكرانيين يتكلمون الروسيَّة او لهجة “الصوجيك” في البيت. أما على صعيد المناطق فإن أبناء غرب أوكرانيا أي مدن تيرنوبيل، لفيف، إيفانو-فرانكيفسك وغيرها، يتكلَّمون بنسبة 94% الأوكرانيَّة، فيما، على صعيد المناطق الشرقيَّة المُحاذية لروسيا وجنوب أوكرانيا، أي “خيرسون” “ميكولاييف”، “أوديسا”، خيركيف”، “دونتيسك”، “زاباروجيا”، فإن النسبة تنقلب لتصبح 94% من السكان يتكلمون الروسيَّة!

التلازُم المأزوم بين الأوكرانيَّة والروسيَّة

ما زالت الأوكرانيَّة، منذ استقلال البلاد في العام 1991، في مسارٍ تصادميٍّ مع الروسيَّة، على الرغم من تكريس اللغة الأوكرانيَّة لغةً رسميَّةً في الدستور الأوكراني في العام 1996 كما أسلَفت. ومع أن الحكومات الأوكرانيَّة المُتعاقبة جهدت لفرض اللغة الأوكرانيَّة في البلاد، إلّا أنها لم تتمكّن، لظروفٍ تاريخيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة، من محو الترابط بين اللغّتَين والشعب الواحد في الشرق والجنوب، وهو يتكلَّم الروسية، فيما، في الغرب والشمال والوسط، يتكلَّم معظم المواطنين بالأوكرانيَّة. مع العلم أنَّه في فترة حكم الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيش، سُمِحَ لبعض المحافظات (OBLAST) باستعمال اللغة الروسيَّة. ويمكنُ القولُ، في المُحَصِّلَة، أن 40% من الشعب الاوكراني ثُنائيُّ اللُغة (روسي-أوكراني).

وعلى صعيد الرؤساء الأوكرانيين الذين توالوا على السلطة منذ الاستقلال، فإن ثلاثةً منهم كانوا ينتمون إلى المؤسسة السوفياتية، وكانوا يتكلمون الأوكرانيَّة بصعوبة، وهم: ليونيد كرافتشوك 1991-1994، ليونيد كوتشما 1994-2005، وفيكتور يانوكوفيتش 2010-2014.

اما الرؤساء الذين أتقنوا ويُتقنون الأوكرانيَّةَ فهم: فيكتور أندريوفيتش يوشينكو 2005-2020، بيتر باروتشينكو 2014-2019، فولوديمير زيلينسكي 2019-

وفي تقديرنا أنه على السلطة الأوكرانيَّة أن تعتمدَ اللغتَين الأوكرانيَّة والروسيَّة كلغتَين رسميَّتَين، أسوةً بسويسرا وبلجيكا وغيرها من الدول، لنزع فتيل النزاع اللغوي والثقافي بين الجَماعات.

الأوكرانيَّة والروسيَّة: تجربة شخصيَّة

تبيَّنَ لي من خلال إقامتي الطويلة في أوكرانيا أن الغالبيَّة العظمى من الأجانب المُقيمين فيها، ولا سيَّما العرب واللبنانيُّون، وبنسبة 98%، يتكلَّمون اللغة الروسيَّة. أمَّا الذين يفهمون الأوكرانية منهم فهم المقيمون في غرب أوكرانيا، وعلى الأخص في مدينة “لفيف” وضواحيها.

وبالمقابل فإن عددًا كبيرًا من العرب واللبنانيِّين يفهمون الأوكرانيَّة، وخصوصًا اللغة المُتداوَلة في وسائل الإعلام. وقد زرتُ غرب أوكرانيا مرَّاتٍ عدة، وبخاصَّةٍ مدينة لفيف، وعندما كنت أتكلم بالروسيَّة للتواصل، كنت أُلاقي مواقف سلبيَّة والامتعاض من أسئلتي، مع أن الغالبية العظمى من سكان الغرب يفهمون الروسيَّة، لكنَّ اللغة الاوكرانيَّة بالنسبة إليهم تُمثِّل التمسّك بالهُوِيَّة الوطنيَّة. وقد تكون ردَّة فعل على النظام الستاليني الذي أعدم وشرَّد الآلاف من المواطنين غربيَّ البلاد خلال الحرب العالميَّة الثانية، ما كاد يُزيلُ طائفة الرُّوم الملكيِّين الكاثوليك من الوجود، وبحيث تحوَّلت تلك الطائفة المسيحيَّة إلى العيش في الكهوف والأماكن السريَّة، أسوةً بالمسيحيِّين الأوائل أيَّامَ الحكم الروماني.

كما عرفتُ ازدواجيَّة اللغة خلال تعاطيَّ مع الخادمة والبستانيِّ في دار إقامتي، حيث كنت أسكن في قرية “غورا” (GORA) بضاحية العاصمة كييف، قرب مطار بوريسبول الدولي. فكنتُ أتواصل مع الخادمة بسهولة باللغة الروسيَّة، والطريف في الأمر أنَّه، عندما كنتُ أتكلَّم مع البستاني بالروسيَّة، كان يجيبني بلهجة الصوجيك التي هي مزيج من الأوكرانيَّة والروسيَّة كما سبقَ وذكرت، وكانت الخادمة تُتَرجِم لي في غالب الأحيان من الصوجيك إلى الروسيَّة لأتمكن من التواصل معه، إذ كان يفهمُ الروسيَّة ولا يُتقن التحدث بها.

أما في منطقة “زاكارباتيا” (ZAKARPATIA)، وهي منطقة كانت خاضعة لهنغاريا في زمنٍ سابق،  وقد احتلَّها ستالين خلال الحرب العالميَّة الثانية وضمَّها الى الاتحاد السوفياتي، فإن أهلها يتكلَّمون الأوكرانية مع لهجة تتداخل فيها الكلمات الهنغاريَّة، علمًا أن الجيل القديم فيها ما زال يحتفظ باللغة الهنغاريَّة، فيما يتبع عددٌ كبيرٌ من السكان المُعتقَدَ الكاثوليكيّ (اللاتين).

طرائف اللُغة والهُوِيَّة عند السياسيِّين

يتداول الأوكرانيون قصصًا طريفةً عمَّا يجري في مجلس النواب الاوكراني ( VERKHOVNE RADA)، إذ يلجأ بعض النواب إلى خُطَبٍ عصماء في البرلمان باللغة الأوكرانيَّة، وعند الاستراحة، يتحدّثون … باللغة الروسية.

ولدى انتخاب  الرئيس الاوكراني فيكتور يانوكوفيتش، وهو من مدينة دونتيسك شرقيَّ أوكرانيا، ويُتقن الروسيَّة ولديه إلمامٌ بالأوكرانيَّة، وضع حزب الأقاليم بتصرُّفه أساتذة لمدة 6 أشهر لكي يتعلَّم الأوكرانيَّة جيدًا وليتمكّن من التحدّث والخطابة بها في وسائل الإعلام.

يبقى أن الهجوم الروسي على اوكرانيا منذ 27 شباط (فبراير) الماضي قد عزَّز الوطنيَّة الأوكرانيَّة وزاد من تعلُّق الشعب الأوكرانيِّ بلغته الأمّ. فقد تناغم حبُّ الوطن مع الانتماء اللغوي، وأصبحت اللغة الأوكرانيَّة الملاذَ ازاء الهيمنة الروسيَّة، لا سيَّما أن الشعب الأوكراني السلافي لم يتوقَّع حدوث الصراع الأخوي مع الجارة السلافيَّة، روسيا.

وإن الشعب الاوكراني الصامد إنَّما يدفعُ ثمن حروب الآخرين على أرضه، وهو ضحيَّة لعبة الأمم، كما كان ضحيَّة النظام الستاليني، نظام القتل والمُعتقلات في “غولاغ” (GOULAG) سيبيريا، ومجاعة العام 1932 (HOLDOMOR) التي قام بها النظام السوفياتي الستاليني عَينُه، والتي أودَت بحياة أكثر من 8 ملايين أوكراني.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني مُتقاعد، كان سفيرًا للبنان لدى أوكرانيا بين العامين 2006–2013.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى