جبران اليوم في إِيطاليا: نُصْبٌ على قمَّة (3 من 4)

هنري زغيب*
في 21 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وفي مدينة أَغْريجِنْتو (صقلية-إيطاليا)، وفي “وادي المعابد” وسْطَ واحةٍ أَثَريةٍ (أَدخَلَتْها منظمةُ اليونسكو في كانون الأَول/ديسمبر 1997 إِلى “لائحة المواقع الأَثرية في العالم”)، أَقامت “أَكاديميا الدراسات المتوسطية” احتفالًا داخل “حديقة الأَبرار” (تفاصيله في الحلقة الأُولى من هذا المقال)، جرى فيه زرعُ أَنصاب تذكارية لثمانية أَعلام عالَميين، بينهم جبران، رفع الستارةَ عنه الباحثُ الإِيطالي الجبراني المدقِّق فرنشِسكو ميديتشي. وكان، في ندوة سبقت احتفال الأَنصاب، أَلقى كلمةً أَقتطفتُ منها جزءًا في الحلقة الماضية، وهنا جزء ثانٍ.
تشكَّلَت في نيويورك (حزيران/يونيو 1916) “لجنةُ غَوث سورية وجبل لبنان” لِجمع المساعدات من الولايات المتحدة. وتَعيَّنَ جبران أَمين السر فيها (تفصيلُها في الحلقة الثانية من هذا المقال). وإِذ اتَّفق جبران وزملاؤُه في اللجنة أَنَّ الباب العالي هو الذي يُسَبِّب المآسي المتفاقمة في جبل لبنان وسورية، بادر جبران إِلى الاتصال مباشرةً بوزارة الخارجية الأَميركية.
مراسلة جبران
في 17 حزيران/يونيو 1916 رفَعَ جبران مناشدةً عاجلة إِلى روبرت لانسِنْغ (1864-1928) وزير الخارجية الأَميركية (بين 1915 و1920)، جاء فيها: “السيد الوزير، الشعبُ في سورية وجبل لبنان يموت من الجوع والأَمراض وسوء التغذية. ما يعانيه من عذابٍ يهدِّد باضمحلاله، ولا من يساعده ولا من يُصغي إِلى استغاثاته. يا السيد الوزير: بِاسْم السوريّين في بلادكم، والآلافُ بينهم مواطنون أَميركيون، نناشدُكَ التدخُّلَ إِنقاذًا نكبةَ أَرضنا ومجاعةَ شعبنا. ونثق بأَنك لن تقصِّرَ عن تدخُّل وزارتك للحصول من الحكومة التركية على إِذْنها بإِرسالنا موادَّ غذائيةً إِلى سورية وجبل لبنان. وإِننا، تَعاوُنًا مع اللجنة الأَميركية، أَسَّسنا لجنةَ غوثٍ خاصةً بنا، آملين أَوَّلًا، وفي أَقرب وقتٍ ممكن، أَن نتمكَّن من جمع مبلغ ٍكافٍ لإِرسال سفينةٍ محمَّلةٍ بالمواد الغذائية، وتاليًا أَن تُبْحر هذه السفينة، من نيويورك أَو من القاهرة، قبل موسم الأَمطار”.
ما قصده جبران بـ”اللجنة الأَميركية” هي الْكانت سنة 1915 تشكَّلَتْ بِاسْم “اللجنة الأَميركية لغَوث الأَرمن والسوريين”، بدفعٍ من هنري مورغِنْتو (1856-1946) السفير الأَميركي لدى السلطنة العثمانية (بين 1913 و1916)، ودعم وُودْرُو ويلسون (1856-1924) الرئيس الأَميركي (بين 1913 و1921) لتشجيع المواطنين الأَميركيين على إِرسال التبرعات والمساعدات.

ولم يكتفِ جبران برفع رسالته هذه فقط بل أَرفقَها بثلاثة تقاريرَ مفصَّلةٍ عن المآسي الحاصلة. وهنا مقاطع من هذه التقارير:
التقرير الأَول:
“يموتون على سكة القطار وفي الحقول”
مما جاء في التقرير الأَول: “ما زال شعب سورية وجبل لبنان تحت الحصار منذ دخلت تركيا الحرب. لَغَّمَ الأَتراكُ الشاطئَ السوري، وحاصره الحلفاء، فلا إِمكانَ بعدُ لاتصاله بالعالم الخارجي. انعزالٌ تامٌ يؤَدي حتمًا إِلى موت الشعب. رجاله من مذاهب وأديان مختلفة اقتيدوا قسرًا إِلى الخدمة العسكرية منفيين إِلى القوقاز أَو بلاد ما بين النهرين. في الربيع الماضي اجتاح الجرادُ البلاد كلَّها فقَضَمَها مدمِّرًا المحاصيل والمزروعات. لم يعُدْ في كل سوريا وجبل لبنان أَيُّ وسيلةِ نقل. جميع الأَحصنة والبغال صادرَها الأَتراك. خطُّ السكةِ الحديديةِ الوحيدُ الذي يَعبُر الجبال بين بيروت ودمشق، نادرًا ما يعمل بسبب فقدان الفحم والخشب. وتبدو الحكومة التركية غيرَ مهتمَّةٍ لهذا الوضع، أَو أَنها مقصِّرةٌ في توزيعٍ عادلٍ الموادَ القليلةَ الباقية في البلاد. النساء والأَطفال يموتون على سكة القطار وفي الحقول، بعدما فشلوا في تخفيف جوعهم بأَكْل بقيَّة أَعشابٍ لم يعودوا يجدونها”.
التقرير الثاني:
“صبايا للبيع على مفارق الطرقات”
جاء في التقرير الثاني: “ارتفعَت أَعدادُ الموتى بسرعةٍ دفعَت الحاكم العثماني منيف باشا إِلى إِصدار قرارٍ يسمح للسكان بدفن موتاهم من دون إِذن شرعي. وهذا هو التدبير الوحيد الذي اتَّخَذه. وحين وُجِّه إِليه نداءُ استغاثة أَجاب: “هل حدث في جبل لبنان أَن أَكلَت أُمٌّ ولدها كي تبقى حية؟ كلَّا؟ إِذًا ليس في البلاد جوع ولا مجاعة”. وفيما كيلو الدقيق الواصلُ إِلى جبل لبنان يباع بـ25 قرشًا، يُباع في ولاية بيروت بخمسة قروش. والأَكثرُ مأْساويةً بعد: ليس هذا الدقيق سوى خليط من الشوفان والعَلَف ونِشارة الخشب. كلُّ مَن في بيروت أَو دمشق يُضبَطُ ناقلًا خبزًا إِلى جبل لبنان، يُعتقَل ويُجْلَد. والصبايا الأَرمنيات يَعرِضُهُنَّ الأَتراك للبيع في شوارع بيروت لقاءَ 10 قروش أَو 20 قرشًا للصبية الواحدة. وارتفع أَخيرًا نداءُ استغاثةٍ من البطريرك الماروني جاء فيه: “أَرسلوا طعامًا لا ذهبًا. لَو كان الذهب يُفيدُ لكُنَّا من زمانٍ بِعنا أَواني الذهب والفضة في كنائسنا لإِطعام المحتاجين”.

التقرير الثالث:
“رعبُ المشانق في الساحات العامة”
جاء في التقرير الثالث: “أَقْدَمَ عضوُ اللجنة الثلاثية أَنور باشا على قطع إِمداد المواد الغذائية عن جبل لبنان، إِلَّا نوعًا من الدقيق يوزَّع كلَّ 25 يومًا على الجائعين بمعدَّل 4 كلغ للشخص الواحد. هنا موت الشعب أَو مجاعتُه. وحين استغاثَ مندوبون عنهم لدى منيف باشا طلبًا مساعدته، كان الجواب: يوم ينتشر آكلو لحوم البشر، نصدِّق أَنَّ في جبل لبنان مجاعة. نُفِيَ رجالُ دينٍ كثيرون. وأُرغمَ أَفرادُ عائلات كاملة على الهجرة الداخلية بدافع الجوع أَو بصَلَف الحكومة التركية. في قُرًى عدَّةٍ مات من الجوع ثلثُ المواطنين أَو أَكثر. ليس مسموحًا لأَهل جبل لبنان أَن يشتروا من بَيروت حاجاتهم الأَساسية. مُنِعوا من الحقِّ بالصَيد. المشانقُ الْمازالت معلَّقَة في ساحات معظم المدن تَزيد السكانَ رعبًا على رعب. وقبلَ أَيَّامٍ عُلِّقَ 11 شخصًا في بيروت، و8 في جبل لبنان، و7 في دمشق، و9 في حيفا”.
جواب الخارجية الأَميركية
لم يتأَخَّر جواب الخارجية. بعد ثلاثة أَيَّامٍ فقط من رسالة جبران، وَصَلَتْهُ من آلبي آدِي (1842-1924)، المعاون الثاني لوزير الخارجية الأَميركية، رسالةٌ بِاسمه في 20 حزيران/يونيو 1916، جاء فيها: “سيِّدي: يُشَرِّف وزارةَ الخارجية إِعلامُكم بأَنها أَرسلت إِلى القائم بالأَعمال الأَميركي في القسطنطينية برقيةً تطلب منه التحقيقَ بالأَمر، وإِفادتَنا بالوضع في سورية، وإِعلامَ الحكومة التركية بأَنَّ في الولايات المتحدة شعورًا قويًّا بالعطْف حيال أَهالي سورية المنكوبين. وفي الولايات المتحدة كثيرون يرغبون في غوث المنكوبين هناك. وطلَبْنا من القائم بالأَعمال التأَكُّدَ إِن كانت الحكومة التركية ستسمح للَجنةٍ محايدةٍ بإِرسال موادِّ الإِعانة لتوزيعها على سكان سورية”.
الحلقة الرابعة (الأَخيرة): تهديد جبران بالقتْل.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.