غزّة بينَ الحَربِ والبُؤس الدائم: حينَ يَتَحَوَّلُ الجمودُ إلى استراتيجيّة

بعد أكثر من عامَين على الحرب، يبدو أنَّ غزة لم تخرج من دائرة النار، بل دخلت مرحلةً جديدة من الصمت المُنهِك؛ صراعٌ لم يَعُد يُدار بالأسلحة فقط، بل بسياساتٍ تُعيدُ إنتاجَ المأساة باسم “الإعمار” و”الاستقرار”.

جاريد كوشنير: “لن تُوجَّه أموال إعادة الإعمار إلى المناطق التي لا تزال تحت سيطرة “حماس””.

ناثان براون*

يُدرِكُ الغزّيون اليوم أنَّ أقصى ما يُمكِنُ أن يطمحوا إليه هو النجاة والبقاء على قيد الحياة في أيِّ مأوى مؤقّت يجدونه، بينما تتآكل كلُّ الجهود الأخرى لحلِّ الصراع أو تحسين ظروفهم. ففي الوقت الذي تُكثّفُ الديبلوماسية الدولية اجتماعاتها وتصيغُ قراراتٍ جديدة، يستقرّ واقعٌ ميداني لا يُطاق بالنسبة إلى سكان القطاع، لكنه يبدو مقبولًا بل ومُريحًا بالنسبة إلى الجهات الفاعلة الرئيسة الأخرى. الأخطر من ذلك أنَّ هناكَ مَن يسعى إلى تثبيت هذا الوضع القائم —حالة الانتظار الطويلة والموت البطيء— ليس بوصفها اضطرارًا، بل كخيارٍ عمليّ “قابل للاستمرار” إلى أجلٍ غير مُحدَّد.

منذ اندلاعِ الحرب على غزة قبل أكثر من عامين، انشغل الديبلوماسيون والمحلّلون بتصوُّرِ سيناريوهاتٍ لـ”اليوم التالي”، مُتجاوِزين في كثيرٍ من الأحيان حجم المأساة على الأرض. هذا التوجُّهُ “البنّاء” قادَ إلى عمى سياسي مُتدرِّج، تجاه ما كان يحدثُ فعلًا، وما كان مُتَوَقَّعًا أن يحدث، بل وما أعلنت الحكومة الإسرائيلية بوضوح أنها تسعى إليه. ومع مرور الوقت، تحوّلت الخطط المُعلَنة لما بعد الحرب إلى غطاءٍ خطابي يخفي وراءه واقعًا أكثر قسوة: ليست هناك أيُّ ضمانةٍ لوجود “يومٍ تالٍ” أصلًا. واليوم، يبدو أنَّ الجمودَ أصبح سياسةً فعلية، تُدارُ تحت مظلّةٍ ديبلوماسية نشطة في ظاهرها، لكنها في جوهرها تُكرّسُ الوضعَ القائم، كما يتجلّى في خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ذات العشرين بندًا التي أعادت تحريكَ المشهد من دون أن تُغيّرَ شيئًا في مساره.

لكنَّ الحقيقةَ القاسية التي تُفرِغُ هذه الخطة من معناها هي أنَّ أحدًا لم يوافق عليها فعليًا. فثلاثُ نقاطٍ فقط —وقف إطلاق النار، وإعادة الانتشار الإسرائيلي، وتبادل الرهائن والجثث بين الجانبين— تبدو أنها قيد التنفيذ الجدّي. أما بقيّةُ البنود، فمجرّدُ أهدافٍ فضفاضة بلا آلياتٍ واضحة للتطبيق، وذلك لسببٍ جوهري: العناصر الأساسية التي تُفتَرَض لضمانِ قبول أيِّ طرفٍ تُقابَلُ بالرفضِ الصريح من الطرفِ الآخر. بعضُ الأطراف العربية طالبَ بأن تتضمّنَ الخطة ترتيبات خاصة بالسلطة الفلسطينية أو إشارة صريحة إلى الدولة الفلسطينية، لكنَّ إسرائيل ترفضُ كلا الأمرين رفضًا قاطعًا.

يبقى السؤال: لماذا التظاهر بالموافقة أصلًا؟

الجواب أنَّ هناك مَن يشعر بالارتياح النسبي لانحسار القتال في أغلب المناطق، ولإطلاقِ سراح أعداد من الأسرى، بينما يفضّل آخرون التمسّك بوَهم التقدّم السياسي لأنَّ رفضهم الكامل لخطة ترامب سيُثير غضب واشنطن. بل حتى الرئيس ترامب نفسه تراجع عن البند الفضفاض في خطته الذي تحدث عن إمكانية تهيئة الظروف لـ”مسارٍ موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة”، مبرّرًا تردّده لاحقًا بقوله: “كثيرون يؤيدون حل الدولة الواحدة، والبعض يؤيد حل الدولتين، سنرى… لم أُعلّق بعد.”

بهذا الموقف المائع، تلاشت حتى الوعود الغامضة التي كانت الخطة تستندُ إليها.

هل يمكن إذن المضي قدمًا؟

الخياراتُ المطروحة حاليًا محدودة وعديمة الجدوى. الخيارُ الأول هو الاستمرار في مشاريع الإغاثة وإعادة الإعمار والإدارة المدنية التي تُخفي الانقسامات الجوهرية وتُوهِمُ بامتثالٍ شكلي لخطة ترامب، لكنها لا تُنتجُ أثرًا حقيقيًا في المدى البعيد. فحتى لو تشكّلت قوة دولية “للاستقرار”، فمن المُستَبعد أن تنجحَ في تحقيق الأمن أو نزع السلاح أو فرضِ انسحابٍ فعلي.

أما الخيارُ الآخر، فيتمثّل في تشكيلِ هيئةٍ من الخبراء بإشرافٍ دولي لإدارة أجزاءٍ من غزة، لكن فُرَص نجاحها ضئيلة. ففكرة قبول سكان القطاع أو القوى المحلية لتشكيلةٍ كهذه، حتى لو ضمّت عربًا أو مسلمين، أو بناء نظام حُكمٍ جديد يُعادي “حماس”، تبدو في أحسن الأحوال غير واقعية وغير واعدة.

المسارُ الأول يُحقّقُ تقدُّمًا على الورق فقط، أما المسار الثاني فلا يُحقّق شيئًا سوى في الخيال السياسي. فبعضُ المعلّقين يحاولون إقناعَ أنفسهم بإمكانية نجاح الخطة عبر الافتراض —أو التمنّي— بأنَّ الأطرافَ الفاعلة ستتصرّفُ على نحوٍ يُناقضُ مصالحها المُعلنة. لكنَّ الحقيقة أنَّ هذه الأطراف أعلنت بوضوح، مرة بعد أخرى، أنها لن تفعل ذلك.

نظريًا، قد يتحقّقُ تقدُّمٌ حقيقي لو قبلت إسرائيل بدورٍ فعّال للسلطة الفلسطينية في غزة، أو التزمت بحلِّ الدولتين، لكنها لن تفعل. كما قد يتحقّقُ تقدُّمٌ لو وافقت الدول العربية على التحرُّك تحت إشرافٍ أميركي لاستكمالِ ما فشلت فيه إسرائيل من تدمير حركة “حماس”، لكنها أيضًا لن تفعل.

فأينَ تقفُ غزة اليوم؟

الواقع أنَّ القطاعَ باتَ مُنقَسِمًا فعليًا إلى منطقتين. على جانب ما يُعرف بـ”الخطِّ الأصفر”، تسيطر القوات الإسرائيلية التي تمنع أيَّ نشاطٍ ل”حماس”، وتسمح بإدخال الإمدادات وأعمال الإعمار الجُزئية، لكنها لا تُبدي أيَّ نيّةٍ لإقامة إدارةٍ مدنية أو حُكمٍ فعّال. يُسمح لبعض العشائر أو المجموعات المحلية المتعاونة بالتحرُّك، لكنها تعمل كشبكات نفوذ وميليشيات لا كسلطات حُكم.

أما في الجانب الآخر، حيث يعيش معظم سكان غزة، فقد عادت “حماس” إلى الظهور، تُمارسُ حضورَها الميداني بقسوةٍ أحيانًا، لكنها لم تتمكّن من إنشاءِ إدارةٍ فاعلة لتسيير الخدمات الأساسية. إعادةُ الإعمار الشامل ليست مطروحة أساسًا، والتعليمُ بالكاد بدأ يعودُ بشكلٍ محدود؛ فغالبية المدارس مُدمَّرة أو مُتضرّرة، وما تبقّى منها يُستخدَمُ كملاجئ مؤقتة، لتتحوَّل العملية التعليمية إلى محاولاتٍ مُرتَجلة عبر الإنترنت في غياب المواد التعليمية الممنوعة من الدخول.

في ظلِّ هذا الواقع، تبدو إعادة الإعمار شبه مستحيلة، بل إنَّ توفيرَ الاحتياجات الأساسية نفسه غير مضمون. فإسرائيل تسمحُ بين الحين والآخر بجهودِ إغاثة محدودة في المناطق الخارجة عن سيطرتها، لكنها تستبعدُ المنظمات الأكثر خبرة. والمفارقة أنَّ خطة ترامب، التي نادرًا ما اتسمت بالتفصيل، نصّت بوضوح على أنَّ المساعدات الإنسانية يجب أن تمرّ “من دون تدخُّلٍ من الطرفين، عبر الأمم المتحدة ووكالاتها والهلال الأحمر والمؤسسات الدولية غير المرتبطة بأيٍّ منهما”.

لكن هذا النص بقي حبرًا على ورق. فإسرائيل لا تكتفي بمنع معظم هذه الجهات من العمل، بل تواصل اتهام وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) باتهاماتٍ حادة وغير مدعومة، مُساويةً بينها وبين “حماس” — في خطابٍ دعائي فاقد للمصداقية. أما باقي المنظمات غير الحكومية، فمع أنها لم تُستهدَف بتلك التُهَم، إلّا أنَّ أيًّا منها لا يُسمَحُ له بالعمل بحرية حقيقية داخل القطاع.

نصل هنا إلى أخطر تطوُّر: دلائل واضحة أنّ الوضع الراهن في غزة لم يعد مجرّد نتيجةً مؤسفة لجمودٍ ديبلوماسي، بل بات مقترحًا  يقنعُ به البعض كحلٍّ عمليّ. إسرائيل، القادرة على إضعافِ “حماس” لكن غير القادرة على القضاء عليها وإزالتها نهائيًا، تُروّج بأن يُحَوَّلَ هذا الجمود إلى استراتيجيةٍ رسمية. في هذه الرؤية الصريحة، تصبحُ غزة الواقعة خلف “الخط الأصفر” خاضعة لاحتلال إسرائيلي يُنظّمُ إعادة الإعمار وتوفير السلع الأساسية، ويعرضُ على سكانها “بناء مجتمع أفضل”، بينما تبقى المناطق خارج هذا الخط ساحات لحضور “حماس” ومعاناة السكان في فقرٍ ودمارٍ دائمَين.

لماذا يُحكَمُ على مئات الآلاف بالعيش في خيامٍ والاعتماد على إمداداتٍ إنسانية مُتقطِّعة؟ كثيرون من مؤيّدي هذا الخيار يتعمّدون تجاهُل حجم الخراب وواقع السكان الذين صار همّهم اليومي البقاء على قيد الحياة. لكنَّ تجاهُلَ البؤس لا يُغيّرُ أمرًا أساسيًا: المسار المقترح يقوم على ترتيبٍ، يرضى فيه الطرف القوي، بأن يبقى الفلسطينيون يعانون تحت الأنقاض حيثما تستمرّ مظاهر “حماس”.

تفترضُ هذه الخطة أن يكسو اليأس حشود غزة فتتلاشى “حماس” من تلقاء نفسها؛ وأن تُبيّن غزة المزدهرة خلف “الخط الأصفر” لساكني الخارج ثمن حكم الحركة، فيميلون بالتالي إلى خيارٍ آخر. هذه هي المقاربة ذاتها التي يروّج البعض بأنها نجحت في استيعاب تيارات متطرفة في أماكن أخرى قبل عقود. وحتى الذين يعترفون بخطورة احتمال أن يتحوّلَ “الخط الأصفر” إلى حدودٍ دائمة لغزة، صاروا يقبلون هذه الفكرة، رُغمَ أنها تقوم على معادلة أخلاقية وسياسية تقضي بمعاقبة المدنيين كوسطاء في صراعٍ لا يتحمّلون مسؤوليته وحدهم.

الحجج المطروحة هنا تبدو واهية وغير مترابطة بما يكفي لتُصنَّف كسياسة واضحة المعالم، لكنها بدأت تكتسب ملامح أولية مع تصريحات جاريد كوشنر الأخيرة حين قال: “لن تُوجَّه أموال إعادة الإعمار إلى المناطق التي لا تزال تحت سيطرة “حماس””.

وفي الاتجاه نفسه، عبّر نائب الرئيس الأميركي ج. د. فانس عن نسخةٍ أكثر تفصيلًا من الفكرة ذاتها، مُوَضِّحًا أنَّ “غزة تنقسم اليوم إلى منطقتين: منطقة أولى يعيش فيها ما بين مئة إلى مئتي ألف من السكان، وهي خالية إلى حدٍّ كبير من “حماس” وإن لم تكن آمنة تمامًا، وأخرى تُسمّى “المنطقة الحمراء”، حيث ما زالت “حماس” موجودة وتُشكّل خطرًا حقيقيًا. نعتقد أنه يمكننا البدء سريعًا في إعادة إعمار المناطق الخالية من “حماس”، واستيعاب مئات الآلاف من الغزيين فيها، ليحصلوا على وظائف وفرص حياة أفضل وربما بعض الأمن أيضًا”.

لكن السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يطرحه المحللون اليوم لا يتعلّق بما إذا كانت خريطة الطريق نحو حل الدولتين قد وُضِعت أخيرًا، بل بما إذا كان الدمار المستمر منذ عامين سيُكرَّس كجُزءٍ دائم من النظام الإقليمي الجديد. فالحرب التي وُصفت يومًا بأنها “حرب بلا نهاية” قد تكون بصدد التحوُّل إلى بؤسٍ دائمٍ ومستقرّ، يُعاد إنتاجه جيلًا بعد جيل، تحت غطاء إعادة إعمارٍ انتقائية تُشير إلى المعاناة بدل أن تُنهيها.

  • ناثان براون هو أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، وهو باحثٌ بارزٌ ومؤلفٌ لتسعة كتبٍ عن السياسة والحوكمة في العالم العربي، بالإضافة إلى تحرير خمسة كتب. وتُركّز أبحاثه على الإسلام والسياسة، ومصر، وفلسطين، والقانون والدستور العربي.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى