من عدوِّ الأمس إلى شَريكِ اليوم: كيفَ أعادت موسكو رَسمَ خَريطَةِ تَحالُفاتها في سوريا الجديدة

في مشهدٍ لم يكُن مُمكنًا تخيُّله قبل أعوامٍ قليلة، يستقبل الكرملين زعيمًا سوريًا كان يومًا هدفًا لطائراته. سقوط نظام بشار الأسد وظهورُ أحمد الشرع في الواجهة فتحا فصلًا جديدًا في العلاقات الروسية–السورية، فصلٌ تحكمه البراغماتية والمصالح لا الشعارات والتحالفات القديمة.

الرئيس السابق بشار الأسد: مسألة استرجاعه ستبقى في الظل تنتظر لحظة أكثر ملاءمة لطرحها.

رُسلان سليمانوف*

شكّلَ وصولُ الزعيم السوري الجديد أحمد الشرع إلى موسكو في 15 تشرين الأول (أكتوبر) حدثًا لافتًا أعادَ رَسمَ ملامح العلاقة بين روسيا وسوريا. فالشرعُ، الذي كان في يومٍ من الأيام مقاتلًا في صفوف تنظيم “القاعدة” ومُطارَدًا من قبل الجيش الروسي لسنواتٍ طويلة، أصبحَ اليوم ضيفًا مُرَحَّبًا به في الكرملين — مشهدٌ لم يَكُن أحدٌ ليتخيَّله قبل أعوامٍ قليلة. هذا التقارُبُ المفاجئ بين الطرفَين لم يأتِ من فراغ، بل تُحرِّكهُ مصالحٌ مُتبادَلة وحساباتٌ دقيقة لدى الجانبين.

بالنسبة إلى القيادة السورية الجديدة، يُمثّلُ الانفتاحُ على موسكو وسيلةً ضرورية لترسيخ شرعيتها السياسية في الداخل، ولمُعالجة التحديات الاقتصادية والأمنية المُتفاقِمة التي يُمكنُ لروسيا أن تُسهِمَ في تخفيفها. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيرى في لقائه مع الشرع فرصةً لإعادة تأكيد نفوذ بلاده في الشرق الأوسط، ولتعويض الخسارة الرمزية التي مُني بها بسقوط نظام الأسد، الحليف الذي دعمه الكرملين لعقدٍ كامل من الزمن. ورُغمَ لجوء الأسد وفراره إلى العاصمة الروسية، فإنَّ وجوده هناك لم يتحوَّل حتى الآن إلى عامل توتُّر بين موسكو ودمشق الجديدة.

قبل نحو عشرة أعوام، حين أطلقت روسيا عملياتها العسكرية في سوريا دعمًا للنظام السابق، كان أحدُ أهدافها الرئيسة القضاء على مسلّحي “جبهة النصرة” — التنظيم الذي شكّل امتدادًا لتنظيم “القاعدة” وتعاوَن في بداياته مع تنظيم “داعش” بقيادة أحمد الشرع نفسه. واليوم، يبدو أنَّ الرجلَ الذي كان عدوًا بالأمس أصبح شريكًا مُحتَمَلًا، في مشهدٍ يُجسّدُ براغماتية السياسة الروسية وتحوّلات المشهد السوري المُعقَّد.

أُدرِجَت “جبهة النصرة” على قائمة مجلس الأمن الدولي للتنظيمات الإرهابية بإصرارٍ روسي واضح، في خطوةٍ كانت تَعكُسُ تصميمَ موسكو على تصنيف الجماعة ضمن أعدائها الإيديولوجيين والعسكريين. ولم يُجدِ نفعًا لاحقًا أن غيّرت الجبهة اسمها إلى “هيئة تحرير الشام” أو أعلنت قطع علاقاتها العلنية بتنظيم “القاعدة” — إذ ظلّت بالنسبة إلى الكرملين التنظيم نفسه بثوبٍ جديد. وحتى اليوم، لا تزال “الهيئة” محظورة في روسيا، وتواصل الأجهزة الأمنية هناك ملاحقة واعتقال كل مَن يُشتَبه في ارتباطه بها أو تعاطفه مع أفكارها.

غيرَ أنَّ المشهد السوري تبدّلَ بصورةٍ درامية أواخر العام الماضي. فبعد السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد والاستيلاء السريع على السلطة من قبل المتمرِّدين المسلحين، وجدت موسكو نفسها أمامَ واقعٍ سياسي جديد لا يُمكِنُ تجاهله. لم يكن أمامها سوى التكيُّف — فبادرت، في خطوةٍ براغماتية، إلى فتحِ قنوات تواصل مع القيادة السورية الجديدة، التي بدورها حاولت استمالة الروس عبر تصريحاتٍ ودّية، مؤكّدةً أنها تمنحُ موسكو “فرصةً لإعادة النظر في علاقاتها مع الشعب السوري”.

ومع بداية هذا العام، بدأت ملامح هذا الانفتاح تتبلور على الأرض. ففي أواخر كانون الثاني (يناير)، زارَ وفدٌ روسي رسمي دمشق برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، في أول زيارة من نوعها منذ الإطاحة بالأسد. وبعدها بأسبوعين فقط، أجرى الرئيس فلاديمير بوتين اتصالًا هاتفيًا مع أحمد الشرع، الذي كان أعلن نفسه رئيسًا لسوريا الجديدة. كان واضحًا أنَّ الطرفين يتّجهان نحو مرحلةٍ من التعاون المُتبادَل، تهدفُ إلى رسمِ ملامح علاقة جديدة تُبنى على المصالح الواقعية لا على التحالفات القديمة.

أما بالنسبة إلى الشرع، الذي كان قبل عامٍ فقط مُطارَدًا من الروس ومطلوبًا للولايات المتحدة —التي رصدت مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمَن يُدلي بمعلوماتٍ عن مكانه— فإنّ أيَّ اتصالٍ دولي أو زيارة خارجية يحملُ قيمةً رمزية كبيرة. فهي ليست مجرّد خطوة ديبلوماسية، بل فرصة لتثبيت شرعيته كرئيسٍ فعلي على الساحة الدولية، وإيصال رسالة مفادها أنَّ الرجلَ الذي كان يُطارَد في الجبال باتَ اليوم يُستَقبَلُ في العواصم.

في هذه الأثناء، يبدو أنَّ لقاء الرئيس الروسي مع الزعيم السوري الجديد يتجاوز كونه حدثًا بروتوكوليًا، ليغدو لحظةً رمزية تحملُ دلالاتٍ سياسية عميقة. فبالنسبة إلى بوتين، الذي واجهَ انتقادات داخلية وخارجية بسبب ما عُدّ “فشلًا” في الحفاظ على نظام بشار الأسد، تُمثّلُ المصافحة مع الشرع فرصةً لاستعادة بعض الهيبة، ولإظهار أنَّ موسكو —بخلاف طهران— لم تخرج من الساحة السورية خالية الوفاض. بل على العكس، تُحاولُ روسيا أن تُثبِتَ أنَّ حضورها في الشرق الأوسط لا يزال متينًا، حتى وإن خفّضت من وجودها العسكري المباشر على الأراضي السورية.

أما في دمشق، فالمشهدُ مختلف تمامًا. فالأمنُ باتَ الهاجسَ الأول للحكومة الجديدة، التي وجدت نفسها أمام تحدياتٍ معقَّدة في الداخل. فالمقاتلون الذين كانوا بالأمس رموزًا للمقاومة أصبحوا اليوم عبئًا على الدولة الناشئة؛ إذ عجزوا عن فرضِ النظام والاستقرار، وبدلًا من ذلك تورّطوا في صراعاتٍ دامية مع مكوّناتٍ محلية. ففي آذار (مارس) الماضي، اندلعت اشتباكاتٌ عنيفة مع الطائفة العلوية في غرب البلاد، أودت بحياة أكثر من 1500 مدني، تلتها مواجهاتٌ أخرى في مناطق الدروز جنوبًا خلال شهرَي نيسان (أبريل) وتموز (يوليو)، لتُظهر هشاشة الوضع الأمني وعمق الانقسامات الاجتماعية.

ولمواجهة هذه الفوضى، أعربت القيادة السورية الجديدة عن استعدادها للسماح بعودة الدوريات العسكرية الروسية إلى بعض المناطق الحساسة، في محاولةٍ لفرض الاستقرار واستعادة السيطرة. وتشير تقارير متقاطعة إلى أنَّ الشرعَ طلبَ من بوتين رسميًا إعادة نشر القوات الروسية في جنوب سوريا، حيث لا يزال خطر الانفجار الأمني قائمًا.

لكنَّ الدورَ الروسي في سوريا لا يقتصر على الجانب الأمني فحسب. فوجودُ القوات الروسية في الجنوب يمنحُ دمشق ورقةَ ضغطٍ سياسية ثمينة — إذ يُمثّلُ توازنًا ضروريًا أمام النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، ويُرغم تل أبيب على قدرٍ أكبر من الحذر في تنفيذ غاراتها الجوية داخل الأراضي السورية. وفي الوقت ذاته، ترى دمشق في هذا الوجود عنصرًا موازنًا لتنامي النفوذ التركي شمال البلاد، حيث تُواصل أنقرة تعزيز قواعدها العسكرية والتلميح إلى نيّاتها توسيع نطاق عملياتها. وهكذا، تجد روسيا نفسها من جديد لاعبًا لا غنى عنه في المعادلة السورية، وإنْ كان بوجهٍ جديد وسيناريو مختلف.

من ناحيةٍ أُخرى، تُعَدّ قضية الجماعات الكردية المسلحة أحد أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا أمام القيادة السورية الجديدة. فهذه الفصائل لا تزالُ تُمسِكُ بزمام السيطرة على ما يقارب 30% من مساحة البلاد في الشمال والشمال الشرقي، وترفُضُ حتى الآن الانخراط في بُنية الجيش الوطني أو الخضوع الكامل لسلطة دمشق. هذا الوضعُ يُقلق الحكومة الجديدة، التي تُدركُ أنَّ استمرارَ الانقسام الميداني يُهدّدُ استقرارَ البلاد ويُعرقلُ أيَّ مشروعٍ لإعادة توحيدها سياسيًا وأمنيًا.

في هذا السياق، تبرزُ موسكو كوسيطٍ مُحتَمَل يملكُ من الخبرة والعلاقات ما يؤهّله للعب هذا الدور. فروسيا، التي حافظت على روابط متينة مع الأكراد منذ عهد بشار الأسد، لطالما حاولت إقناعهم بقبولِ حلولٍ وسط، بما في ذلك الاندماج التدريجي ضمن مؤسسات الدولة السورية. كما إنَّ للعلاقات الروسية–الكردية بُعدًا رسميًا متجذّرًا؛ إذ افتتحت “كردستان سوريا” مكتبًا تمثيليًا في موسكو منذ العام 2016، في إشارةٍ واضحة إلى عمق التواصُل بين الجانبين.

الزعيم السوري الجديد أحمد الشرع يبدو أكثر ميلًا إلى الحلول السياسية من المواجهات العسكرية، إذ يرى أنَّ التفاوضَ مع الأكراد أفضل بكثير من الانجرار إلى صراعٍ دموي جديد، خصوصًا في وقتٍ تُكثّفُ أنقرة دعواتها لشنِّ عملية عسكرية تستهدف مناطق سيطرتهم. ويبدو أنَّ الأكراد أنفسهم ينظرون بإيجابية إلى فكرة الوساطة الروسية، بحاصة بعد إعلان الإدارة الأميركية عن نيّتها تقليص وجودها العسكري في شرق سوريا عقب عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض — الأمر الذي يجعلهم يبحثون عن مظلةٍ جديدة تحمي مصالحهم وتضمن بقاءهم على الساحة.

وفي خضمِّ هذه التحوّلات، تظلُّ روسيا حريصة على تثبيت وجودها الاستراتيجي في البلاد. فهي تحتفظُ بقاعدتين عسكريتين رئيسيتين: القاعدة البحرية في طرطوس على الساحل، وقاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، اللتين أُبرم عقد استئجارهما منذ العام 2017 ويمتد حتى العام 2066. هاتان القاعدتان لا تُشكّلان فقط دعامة الوجود الروسي في سوريا، بل تحوَّلتا أيضًا إلى مراكز لوجستية أساسية لدعم عمليات موسكو العسكرية في القارة الأفريقية. ومن جانبه، أكّد الرئيس الشرع التزامَ حكومته بجميع الاتفاقيات السابقة المُوَقَّعة بين موسكو ودمشق، في خطوةٍ تُطمئن الكرملين وتُشير إلى أنَّ التحالف بين البلدين ماضٍ في طريقه، وإنْ تبدّلت الوجوه.

تُقدِّرُ الحكومة السورية الجديدة أنَّ إعادة بناء البلاد بعد ثلاثة عشر عامًا من الحرب الأهلية ستتطلّب نحو 900 مليار دولار — مبلغٌ هائل يعكسُ حجمَ الدمار الذي لحق بالبنى التحتية والاقتصاد الوطني. ومع أنَّ روسيا ليست في موقعٍ يسمح لها بضخّ استثمارات بمليارات الدولارات في مشاريع إعادة الإعمار، فإنها أعربت عن استعدادها للمشاركة في مجالاتٍ محددة، مثل إعادة تأهيل قطاع الطاقة وتقديم المساعدات الإنسانية. ووفقًا لما تسرّب بعد المحادثات بين بوتين والشرع، وافقت موسكو على دراسة إمكانية تزويد سوريا بالقمح والأدوية والمواد الغذائية، إلى جانب المساهمة في تشغيل حقول النفط السورية وإصلاحها.

كما اتفق الجانبان على عقد اجتماع للجنة الحكومية المشتركة بين موسكو ودمشق لبحث سُبُل تطوير التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين. وفي خطوةٍ رمزية لكنها ذات دلالة سياسية، من المتوقع أن تتولى شركة “غوزناك” الروسية —التي كانت تولّت طباعة العملة السورية في عهد الأسد— إصدار أوراق نقدية جديدة تحلُّ محل تلك التي لا تزال تحمل صورة الرئيس المخلوع.

أما مصير بشار الأسد، الذي يعيش حاليًا في موسكو بعد منحه اللجوء السياسي، فيبقى ملفًا مؤجَّلًا لا مفرّ من طرحه يومًا ما على طاولة البحث بين الحكومتين. فالرجلُ مطلوبٌ في بلاده بتُهَمٍ تتعلّق باستخدام العنف ضد المدنيين، إلّا أنَّ السلطات السورية الجديدة لم تتقدّم حتى الآن بطلبٍ رسمي لتسليمه. من جانبها، تحرصُ الحكومة الروسية على إبقاء الأسد بعيدًا من الأضواء، فلا يظهر في العلن ولا يُدلي بتصريحات، في محاولة لتجنّب أيِّ إحراجٍ ديبلوماسي أو سياسي.

حتى الآن، لم يتحوّل وجود الأسد في موسكو إلى عقبةٍ حقيقية أمام تنامي العلاقات بين روسيا وسوريا الجديدة — ويبدو أنه لن يفعل في المستقبل القريب. فالأولويات في دمشق واضحة ومُلِحّة: تثبيت السلطة واستعادة النظام وإعادة الحياة إلى دولة أنهكتها الحرب. وطالما أن موسكو مستعدة لتقديم الدعم في هذه المسارات، فإنَّ القضايا الحساسة —مثل مصير الديكتاتور السابق— ستبقى في الظل، تنتظر لحظةً أكثر مُلاءَمة لطرحها.

  • رُسلان سليمانوف هو زميل باحث غير مقيم في معهد التنمية والديبلوماسية بجامعة”آدا” ( ADA) في باكو، أذربيجان.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى