من الحَربِ إلى التفاهُم: سوريا وإسرائيل على أعتابِ مُفاجأةٍ تاريخية

في وقت يشتعلُ الصراع في غزة وتتصاعد التوترات الديبلوماسية بين إسرائيل وعدد من دول العالم، برز تطورٌ غير مُتَوقَّع قد يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط. فالتقارير تشير إلى أن سوريا –وربما لبنان أيضًا– على وشك التوصل إلى اتفاق أمني تاريخي مع إسرائيل، في خطوة إن تحققت، ستكون أكثر تأثيرًا من “اتفاقات أبراهام” التي وُقِّعت قبل سنوات.

الرئيس أحمد الشرع: الإتفاق خلال أيام!!!

فريدا غيتس*

في خضمِّ الحرب المُدمّرة التي تشنُّها إسرائيل ضد حركة “حماس” في غزة، وفي ظلِّ خلافها الديبلوماسي مع العديدِ من الدول في الأمم المتحدة هذا الأسبوع، كان آخر ما يُمكِنُ أن يتوقّعه المرء هو أن تقفَ دولةٌ عربية أخرى، وربما دولتان، على أعتابِ اتفاقٍ تاريخي مع إسرائيل. لكن هذا بالضبط ما يحدث الآن.

تُفيدُ التقارير بأنَّ سوريا وإسرائيل على وشكِ الانتهاء من وضعِ اللمسات الأخيرة على اتفاقٍ أمني ثنائي. ورُغمَ أنَّ الاتفاقَ لم يُبرم بعد ولا يزال في طور التفاوض، ولن يكونَ تطبيعًا كاملًا للعلاقات الديبلوماسية على غرار “اتفاقات أبراهام” التي وقّعتها إسرائيل مع كلٍّ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، وغيرهما في العام 2020، فإنَّ هذا الاتفاق المحدود والأضيق نطاقًا المطروح للنقاش يُعدّ أكثر أهمية من تلك الاتفاقات. ذلك لأنَّ “اتفاقات أبراهام” كانت مع دولٍ لم تكن في حالة حرب مع إسرائيل ولا تشتركُ معها في حدودٍ مباشرة.

أما في حالة سوريا، فهي ما تزال رسميًا في حالة حرب مع إسرائيل، والحدودُ المشتركة بينهما ما تزال عسكرية ومتوترة إلى درجة الانفجار. ومن هنا، فإنَّ أيَّ خفضٍ للتصعيد سيكون بالفعل احتمالًا مُرَحَّبًا به، ومن شأنه –رُغمَ الصراع المشتعل في غزة– أن يُمثّلَ خطوةً نحو شرق أوسط أكثر استقرارًا.

بالإضافة إلى ذلك، قد يشملُ الاتفاقُ في نهاية المطاف لبنان، الذي كان تحت سيطرة “حزب الله” لعقودٍ طويلة، إلى أن تمكّنت إسرائيل العام الماضي من سحق الجناح العسكري للجماعة الشيعية المرتبطة بإيران. إنَّ إضعاف “حزب الله” أعادَ تشكيل المشهد السياسي في لبنان، وفتح الباب أمام احتمال اتفاقٍ بين الدولتين الجارتين.

لكنَّ التركيزَ الآن مُنصَبٌّ على سوريا، التي كانت تاريخيًا لاعبًا رئيسًا في الشرق الأوسط.

ساهم مقاتلو “حزب الله”، إلى جانب القوات الروسية، في البداية في إنقاذ الرئيس السوري السابق بشار الأسد خلال الحرب الأهلية السورية التي استمرّت 13 عامًا، والتي اندلعت في العام 2011 كجُزءٍ من انتفاضات “الربيع العربي” المُطالِبة بالديموقراطية. ولكن مع تدهور وضع “حزب الله” بعد الضربات الإسرائيلية في العام الفائت، ضعف وضع الأسد وتراجع نفوذه، تاركًا جيشه شبه عاجز أمام المتمرّدين المسلحين، ومعظمهم من الجهاديين.

لم تكن قوات الحكومة قادرة على مجاراة المتمرّدين السوريين، الذين أطاحوا النظام في هجومٍ خاطف أواخر العام الماضي. وقد تعهّد قائدهم، الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، بإنشاء سوريا شاملة. وفي ظلِّ نشاطٍ ديبلوماسي محموم، يقول مسؤولون سوريون إنَّ هذا التعهُّد يشملُ حتى اليهود السوريين المنفيين.

خلال زيارته إلى نيويورك هذا الأسبوع لحضور جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التقى الشرع ببعضٍ من أبناء الجالية اليهودية السورية، بالإضافة إلى مئاتٍ آخرين من السوريين المقيمين في الولايات المتحدة. وقد ترك اللقاء انطباعًا إيجابيًا للغاية لدى الحضور، واصفين اللقاء بأنه كان “لقاءً مؤثّرًا ومُلهِمًا”.

وفي تطوُّرٍ آخر ملحوظ، قام أخيرًا رئيس تحرير صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” بزيارةٍ إلى دمشق مع وفدٍ من اليهود الأميركيين. وكان هو الشخص الإسرائيلي الوحيد في الوفد، لكنه أكّدَ أنه لم يواجه أيَّ عدائية. وفي لقاءاته مع وزارة الخارجية السورية، التقى بمسؤولين، من بينهم مسؤولٌ يتولى شؤون الجالية اليهودية، بما في ذلك قضايا مصادرة الأملاك. كانت سوريا في الماضي تضمُّ جالية يهودية كبيرة تعود جذورها إلى العصور التوراتية القديمة، لكنها تلاشت تقريبًا بعد موجاتٍ من عمليات التهجير والطرد والاضطهاد المُمنهَج. ويناقش بعض المنفيين وأبناؤهم اليوم فكرة العودة إلى سوريا للمساهمة في إعادة إعمار وطنهم التاريخي، وهي فكرةٌ كانت تبدو مُستبعَدة حتى وقتٍ قريب.

لقد خاضت إسرائيل وسوريا حروبًا عدة. آخر مواجهة شاملة اندلعت في تشرين الأول (أكتوبر) 1973، عندما شنّت سوريا ومصر هجومًا مباغتًا على إسرائيل من الشمال والجنوب على التوالي. يُعرَفُ هذا الصراع في إسرائيل باسم “حرب يوم الغفران”، وقد انتهى بوقف إطلاق نار واتفاقٍ لفكِّ الاشتباك – لا بهدنةٍ رسمية ولا بمعاهدة سلام. لاحقًا، أبرمت مصر سلامًا مع إسرائيل، ووقّعت اتفاقيات كامب ديفيد برعايةٍ أميركية في العام 1978، وطبّعت العلاقات في العام 1980. أما سوريا فما تزال من الناحية الرسمية في حالةِ حرب مع إسرائيل.

لقد استمرَّ هذا الجمود في الوضع قائمًا طوال أكثر من خمسة عقود من الحكم القمعي الذي مارسته عائلة الأسد في دمشق. وحتى بعد سقوط النظام في العام الماضي، بدا أيُّ أملٍ في السلام بعيدَ المنال.

بعد فرار الأسد إلى روسيا في كانون الأول (ديسمبر)، شنّت إسرائيل سلسلةَ غاراتٍ جوية استهدفت مخزونات الأسلحة الكيماوية السورية وغيرها من الأسلحة الثقيلة التي يمكن استخدامها ضدّها. وكان القلق الرئيس لدى تل أبيب يتمثّلُ في إمكانية تحوّل المقاتلين الجهاديين المتشددين، الذين ساهموا في إسقاط نظام الأسد، إلى استهدافِ إسرائيل.

كما احتلت القوات البرية الإسرائيلية جُزءًا من المنطقة العازلة الخاضعة لرقابة الأمم المتحدة في سوريا، حيث أنشأت قواعد عسكرية وقامت بتهجير السكان بالقوة من المنطقة، وفقًا لتقرير صادر عن “هيومن رايتس ووتش”. وتزعمُ إسرائيل أنَّ عملياتها في جنوب سوريا تهدف إلى حماية مواطنيها وتتماشى مع القانون الدولي.

وعندما أقدمت عناصر من قوات الحكومة السورية الجديدة وميليشيات أخرى على إعدام أفرادٍ من الطائفة الدرزية خارج إطار القضاء في تموز (يوليو)، طلبت الطائفة الدرزية في إسرائيل –التي تربطها علاقات قوية بالحكومة الإسرائيلية– التدخُّل. فتدخلت إسرائيل بالفعل، وقصفت وزارة الدفاع وأهدافًا حكومية أخرى في دمشق. ومنذ ذلك الحين، واصلت قوات الدولة العبرية شنَّ غارات جوية داخل الأراضي السورية.

لكن خلف الكواليس، كانت الأمور تتحرّكُ وتتطوّرُ بسرعة. ففي أيار (مايو)، كشف أحمد الشرع أنَّ هناك محادثاتٍ غير مباشرة بين البلدين. وفي 30 حزيران (يونيو)، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أنَّ إسرائيل مهتمة بإقامة علاقات ديبلوماسية رسمية مع كلٍّ من سوريا ولبنان.

وفي الأسبوع الماضي، أفاد مراسل موقع “أكسيوس” (Axios)، باراك رافيد، بأنَّ إسرائيل قدّمت لسوريا اقتراحًا رسميًا لاتفاقية أمنية شاملة، تشمل منطقة منزوعة السلاح بين جنوب غرب دمشق والحدود الإسرائيلية، مع العلم أنَّ هذه المطالب تُعتَبَرُ متطرّفة من جانب إسرائيل.

أما القضايا الشائكة والمعقّدة، لا سيما وضع مرتفعات الجولان التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967، فلا تزال خارج نطاق النقاش. يعتبر الإسرائيليون الجولان، الذي يوفر لهم رؤية واضحة للأراضي الإسرائيلية، منطقة استراتيجية لا غنى عنها. وقد ضمت إسرائيل الجُزء الذي تحتله من الجولان في العام 1981، لكن الولايات المتحدة وحدها، من بين كل دول العالم، هي التي تعترف به كجُزء من إسرائيل.

أما السوريون، فيؤكدون أنَّ الجولان أرضهم ويطالبون باستعادته. أما الإسرائيليون، فيرفضون هذا الأمر. ولذلك، لم يتم التطرق إلى هذا الموضوع حتى الآن.

بدلًا من التطرُّق إلى القضايا المُستَعصية، يحاول البلدان الآن وضع صيغة للتعايش السلمي. فقد قال أحمد الشرع الأسبوع الماضي إنَّ اتفاقًا أمنيًا يمكن أن يصبح واقعًا “خلال أيام”. وذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، نقلًا عن مسؤولٍ أميركي رفيع، أنَّ الاتفاق “جاهزٌ بنسبة 99 في المئة”. ولم يتبقَّ سوى تحديد توقيت الإعلان وتسوية بعض “الاعتبارات الداخلية” في سوريا، بحسب التقرير. وسيكشفُ ردُّ فعل الشارع السوري على خبر الاتفاق مع إسرائيل الكثير عن المزاج العام في المنطقة.

ويؤكدُ الشرع إنه غير مستعد بعد لمناقشة التطبيع الكامل. ويُطالبُ إسرائيل بإعادة جميع الأراضي التي احتلتها منذ كانون الأول (ديسمبر)، واحترام سيادة سوريا وسلامة أجوائها. كما يرغب في منعِ أيِّ تصعيدٍ قد يخرجُ عن السيطرة. من جانبه، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم الأحد الفائت أنَّ المفاوضين أحرزوا تقدّمًا مع كلٍّ من سوريا ولبنان. وأضاف أنَّ العملية العسكرية الإسرائيلية الناجحة ضد “حزب الله” فتحت الباب أمام إمكانية “السلام مع جيراننا في الشمال”، حتى لو كان ذلك مجرد “رؤية للمستقبل”.

لقد بات ما كان يُعرف بـ “الصراع العربي-الإسرائيلي” يقتصر شيئًا فشيئًا على كونه “الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي” – وهو صراعٌ يزداد دموية وتعقيدًا. لكن حتى مع استمرار القتال في غزة، تلوحُ في الأفق فرصةً غير بعيدة أن تجد إسرائيل نفسها في سلام مع جميع الدول المحيطة بها للمرة الأولى منذ تأسيسها في العام 1948.

  • فريدا غيتس هي صحافية وكاتبة بارزة في الشؤون الدولية، يُمكن متابعتها عبر منصة “إكس” على: @fridaghitis

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى