السُنّة في لبنان: مرحلةٌ جديدة
يشهدُ المجتمع السُنّي في لبنان تحوُّلات جذرية، حيث يتوحّدُ العديد من سياسييه حول دعم المملكة العربية السعودية.

محمد فواز*
في مطلع أيلول (سبتمبر)، شهد منزل النائب فيصل كرامي الصيفي في بلدة بقاعصفرين لقاءً لافتًا بمناسبة تكريم مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان. غير أنّ ما منح هذا اللقاء دلالته العميقة لم يكن فقط الطابع التكريمي أو البروتوكولي، بل ما عكسه من مشهدٍ سياسي جديد في الساحة السُنّية، جمع بين شخصياتٍ كانت حتى الأمس القريب متخاصمة، بل متواجهة في معسكرات متناقضة.
لقد حرص كرامي على أن يضمَّ مجلسه شخصيات تنتمي إلى اتجاهاتٍ مختلفة؛ فمن جهة دعا حسن مراد، وعدنان طرابلسي، وطه ناجي، الذين لطالما صُنّفوا في خانة حلفاء “حزب الله”، ومن جهة أخرى وجّه الدعوة إلى شخصياتٍ من المعسكر المقابل، كفؤاد مخزومي، وأشرف ريفي، وعبد الرحمن البزري، ووضّاح الصادق، ونهاد المشنوق، وغيرهم. وبذلك، بدا اللقاء وكأنه منصّةٌ لإعادة صياغة العلاقات داخل البيت السُنّي، وإعادة رسم خطوط التواصل مع الأطراف الإقليمية الفاعلة.
لم يكن اختيارُ المناسبة اعتباطيًا. فتكريم المفتي دريان مثّل فعلًا رمزيًا يتجاوز البُعدَ الاجتماعي إلى السياسي، في ظلِّ غيابِ مرجعيةٍ سياسية سُنّية جامعة منذ تعليق تيار المستقبل نشاطه. وقد جاء اللقاء امتدادًا لمسارٍ من التحوّلات بدأ منذ الحرب الأخيرة مع إسرائيل في العام الماضي، ثم تعزّز في الاستحقاق البلدي هذا العام، حيث تجمّعت قوى كانت متناثرة في ما مضى، بعضها من حلفاء “حزب الله”، وبعضها الآخر من معارضيه التقليديين، إلى جانب المؤسّسة الدينية. كل ذلك أوحى بأنّ ثمّةَ إعادة تموضعٍ حقيقية يجري تثبيتها داخل البيئة السُنّية.
في كلمته أمام الحاضرين، شدّدَ فيصل كرامي على أنّ الدولة اللبنانية وحدها يجب أن تحتكرَ قرار السلاح، رافضًا منطق “المقاومة” كإطارٍ يتجاوز مؤسّسات الدولة. وأعاد التذكير بموقفه الداعم للمواجهة مع إسرائيل، لكن من موقع الدولة وسيادتها لا من منطلق التنظيمات أو الأحزاب. هذا التحوُّل في خطابه جاء بعد قطيعته مع “حزب الله”، حيث كان حليفًا له حتى وقتٍ قريب، قبل أن يبتعدَ تدريجًا، وصولًا إلى غيابه اللافت عن تشييع الأمين العام السابق للحزب، السيد حسن نصرالله.
أما المفتي دريان، الذي أصبح رمزًا للوحدة السُنّية في غيابِ قيادةٍ سُنِّية مُوَحَّدة، فلم يختلف عن موقف كرامي، فقد أكّدَ دعمه لقرار الحكومة اللبنانية بحصر السلاح بيد الدولة. كما شدد على أهمية تعزيز وحدة لبنان داخليًا، ودعا إلى “نهجٍ مُوَحَّد يُعزّزُ قوة الدولة في مواجهة الأزمات”. وقد اتفق الجميع على هذا الموقف. وأدلى حسن مراد، وهو سياسي آخر كان قريبًا من “حزب الله” ونظام الأسد في سوريا، بتصريحاتٍ مماثلة لتصريحات كرامي ودريان، مؤكدًا دعمه للرئيس جوزاف عون ورئيس الوزراء نوّاف سلام، وأعلن رفضه لأيِّ استفزازٍ مُوَجَّهٍ ضد السعودية.
لم تكن هذه التصريحات عشوائية، بل جاءت في سياق استراتيجيةٍ سعودية لجذب السياسيين السُنّة بعيدًا من “حزب الله” ودمجهم في تحالف مع أنصاره، سواء من السُنّة أو غيرهم. سيؤيد هذا التحالف المواقف السعودية، على الأقل في القضايا الرئيسة، ولن يكون تحالفًا مؤقتًا لمصلحةٍ آنية.
ومع ذلك، يبقى المشهد السُنّي متنوّعًا. فإلى جانب المجموعة التي حضرت لقاء بقاعصفرين، لا يزال هناك ثلاثة مكوّنات بارزة خارج هذا الإطار: أوّلها تيار المستقبل، أو بالأحرى ما تبقى من قياداته بعد تعليق نشاطه، وقد توزّع نوابه السابقون على كتلة الاعتدال البرلمانية. ثانيها الجماعة الإسلامية، التي تُعتبر الامتداد المحلي لحركة الإخوان المسلمين. وثالثها النواب الإصلاحيون من كتلة التغيير، الذين يتخذون مواقف متشددة حيال “حزب الله”.
يتمركز أعضاء تيار المستقبل حاليًا ضمن كتلة الاعتدال البرلمانية، التي تضم النواب وليد البعريني، محمد سليمان، عبد العزيز الصمد، أحمد رستم، سجيع عطية، وأحمد خير. وقد أصدرت أخيرًا بيانًا أكدت فيه أنّ قرار حصر السلاح بيد الدولة هو قرار تاريخي، داعيةً “حزب الله” للتجاوب معه. الموقف نفسه تبناه النائب نبيل بدر من بيروت، وكذلك نواب من كتلة التغيير كإبراهيم منيمنة، الذي ذهب أبعد من ذلك بالمطالبة بتسليم السلاح فورًا ومن دون نقاش. غير أنّ الاختلافات الدقيقة بين هذه الكتل، سواء في الدرجة أو في النبرة، تظل قائمة، وتتمحور حول كيفية مقاربة ملف سلاح الحزب وتوقيت طرحه.
أما الاختلافات بين كتلة الاعتدال، وكتلة التغيير، والكتلة البرلمانية التي تجمعت حول المفتي دريان، فتتمحور حول مسألة أسلحة “حزب الله” وحق الدولة اللبنانية في احتكار السلاح. وتأتي مواقفهم بناءً على حسابات داخلية وإقليمية. وقد أعربت غالبيتهم عن دعمها للحكومة، بمن فيهم من كانوا سابقًا من حلفاء “حزب الله”.
مع ذلك، ظهر بعض الاختلافات بين الجماعات السُنية حول قضية السلاح. فعلى سبيل المثال، التقى نائب الجماعة الإسلامية، عماد الحوت، منفردًا بالرئيس اللبناني جوزاف عون، لتقديم مقترح “استراتيجية دفاع وطنية”. ويُعدّ هذا استمرارًا لموقف الجماعة الثابت منذ العام 2006، الداعي إلى مثل هذه الاستراتيجية. وبينما تظل الجماعة الإسلامية استثناءً بين الجماعات السُنّية في دعايتها لمواصلة امتلاك السلاح للدفاع عن النفس من العدو الإسرائيلي، إلّا أنها توافق ضمنيًا على منع “حزب الله” من استخدام أسلحته داخليًا.
ينبع هذا الموقف من كون الجماعة الإسلامية نفسها من أهداف برنامج نزع السلاح الذي تنتهجه الدولة، بالإضافة إلى إصرارها على مبدَإِ شرعية المقاومة المسلحة، حتى مع اعتراف الجميع بضعف قدراتها العسكرية. وقد تجلى هذا في طبيعة الضربات الإسرائيلية ضد الجماعة خلال الصراع في العام الماضي، حيث استهدفت أفرادها بدلًا من مراكزها أو مخازن أسلحتها أو أنفاقها، وهي عناصر لا تملكها الجماعة.
إضافة إلى ذلك، تفتقر الجماعة اليوم إلى الدعم السياسي الداخلي والخارجي. فمثلًا، ما زال عشرة من أعضاء الجماعة رهن الاعتقال منذ أكثر من شهرين بتهمة حيازة السلاح والذخيرة، رُغم إعلان الجيش اللبناني أنَّ قضيتهم لا ترتبط بالإرهاب. ومع ذلك، أوصلت السلطات رسالة واضحة إلى الجماعة، بحسب ثلاثة من قياداتها تحدثتُ إليهم، مفادها ضرورة توخّي الحذر، وعدم التهاون في كل ما يتعلق بالأسلحة، وأنَّ العواقب ستطال الجماعة بأكملها، وليس فقط جناحها العسكري. ورُغم هذا الضغط، لم تتراجع الجماعة عن موقفها، بل واصلت الدفاع عن استراتيجيتها في الدفاع الوطني.
وبالتالي، فقد تَشَكّلَ المشهدُ السياسي السُنِّي في لبنان بشكلٍ واضح نسبيًا منذ نهاية الحرب قبل عام، وما تبعها من تغيُّرٍ في موازين القوى. فمن جهة، هناك تحالف انبثق من قوائم موحَّدة خلال الانتخابات البلدية هذا العام، وهي القوى نفسها التي اجتمعت في منزل كرامي، والتي تتبنى موقفًا مؤيّدًا للسعودية.
أما من جهة أخرى، فهناك تيار المستقبل، أو بالأحرى أعضاؤه النشطون سياسيًا، الذين تبنوا مواقف أشد تجاه “حزب الله” من تلك التي تبناها التحالف الأول. إضافة إلى ذلك، هناك أعضاء البرلمان من حركة التغيير، الذين يختلفون في آرائهم، ومعظمهم يعارضون “حزب الله” وسلاحه. أما الجماعة الإسلامية، فتظل معزولة، مما يجعلها عرضة لمخاطر قد تهدد وجودها.
لكن هذه الخريطة ليست نهائية. فالانتخابات النيابية المقبلة ستعيد اختبار قدرة هذا التحالف المدعوم سعوديًا على الصمود، في وقت يرفض الناخب السُنّي فرض اللوائح الجاهزة من فوق. فقد برز ذلك بوضوح في الانتخابات البلدية الأخيرة، سواء في طرابلس حيث تساوت نتائج لوائح التحالف العريض مع لوائح المجتمع المدني، أو في بيروت حيث فشلت لوائح الوحدة في حشد التأييد. هذا المزاج الشعبي قد يفتح الباب أمام تيار إصلاحي ناشئ داخل الطائفة، لكنه على الأرجح سيظل متقاطعًا مع الموقف السعودي العام، سواء في معارضة “حزب الله” أو في التأكيد على حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية.
- محمد فواز هو صحافي لبناني.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.