الاحتلالُ المائي: كيفَ تُديرُ إسرائيل حَربَها الصامِتة

وعى الصهاينة منذ بداية القرن الماضي أهمّية المياه للدولة التي خططوا لإقامتها على الأرض العربية. ففي العام 1919 قال حاييم وايزمان (أصبح في ما بعد أول رئيس لدولة إسرائيل) أمام مؤتمر السلام الذي عُقد في باريس: “يجب أن تكون لفلسطين منافذها الطبيعية على البحار والسيطرة على أنهرها ومنابع هذه الأنهر … لهذا ، فإنه لا يجب الاكتفاء فقط بتأمين مصادر المياه التي ترفد الدولة، ولكن أيضًا تأمين هذه المصادر من منابعها”.

بنيامين نتنياهو: “ربع الثروات المائية لإسرائيل مصدرها الجولان، ويمكن أن نعيش بدون نفط، ولكن لا يمكن أن نحرم انفسنا من المياه”.

الدكتور هيكل الراعي*

يُجمِعُ الخبراءُ والباحثون في الشؤون الإسرائيلية على الرَبطِ بين مُعادلتَين حكمتا سلوكَ حكّام الدولة الصهيونية منذ نشأتها، وكانتا في أساسِ هذه النشأة. هاتان المُعادلتان هما الأرض والمياه. فالحاجة إلى الأرض تأتي في صلبِ العقيدةِ الصهيونية القائمة على جَمعِ يهود الشتات تنفيذًا للحُلم التوراتي، وكذلك  الحاجة إلى المياه التي تبرزُ وتكبرُ كلّما اجتمعَ شملُ اليهود. ونظرًا لأنَّ الدولةَ الصهيونية لم تكتمل، ولم تُرسَم لها حدودٌ واضحة بعد، فإنَّ الحاجتَين، إلى الأرض والمياه، تبقيان قائمتَين وتُشكّلان الهاجسَ الأساسي لكلِّ المسؤولين الاسرائيليين على اختلاف نزعاتهم.

جغرافيًا، تُقسَمُ فلسطين إلى ثلاثة أقسام طُوليّة: السهلُ الساحلي الذي يمتدُّ على طولِ الساحل الفلسطيني بعُمقٍ يتراوحُ بين 15 و20 كلم، ومعدل ارتفاعٍ عن سطح البحر يصل إلى 50 مترًا. ويُمثّلُ هذا السهلُ الجُزءَ الرئيس من الحدودِ السياسية للكيان الصهيوني.

أمّا القسمُ الأوسط من فلسطين حيث تقع غالبيةُ أراضي الضفة الغربية، فيمتازُ بسلسلةٍ من الجبال التي يصلُ ارتفاعها إلى 800 متر عن سطح البحر.

ويُؤلّفُ غورُ الأردن، المُحاذي لنهر الأردن من الجهة الغربية، الجُزءَ الشرقي لفلسطين، حيث يمتازُ بالانخفاضِ الشديد الذي يصل إلى نحو 300 متر تحت سطح البحر.

تتأثّرُ الأجزاءُ الشرقية والجنوبية من فلسطين بالمناخ الصحراوي، وخصوصًا بالنسبة إلى قلّة الأمطار وزيادة الجفاف. فالأمطارُ التي تهطل بين شهرَي تشرين الأول (أكتوبر) ونيسان (أبريل) تقلّ تدريجًا كُلَّما اتجهنا نحو الجنوب (610 ملم سنويًا في حيفا في الشمال و370 ملم في الجنوب في غزة)، كما تقلّ أيضًا كلّما اتجهنا شرقًا (540 ملم في يافا و150 ملم في أريحا).

الموارد المائية في إسرائيل

منذُ قيام الكيان الصهيوني، اهتمَت الحكومات المتعاقبة بموضوع المياه وأعطته أولوية لا تقلّ عن أولوية تأسيس الجيش وبناء المؤسسة العسكرية. وكان الهدفُ زيادة كمية المياه، وذلك من طريقِ زيادةِ استغلال المياه الجوفية، والاستفادة من مياه الأنهر الصغيرة، ومشروع مياه وادي الأردن وكذلك استصلاح مياه الفيضانات وتكرير مياه البحر.

وتشيرُ الدراسات حول الموارد المائية الإسرائيلية إلى أنَّ كميات المياه المتوافرة في إسرائيل بحسب حدود 1948 لا تتعدّى 745 مليون متر مكعب في السنة، في حين تأخذ من الفلسطينيين ما يزيد على هذه الكمية أي حوالي 910 ملايين متر مكعّب في السنة. وقد لجأت إسرائيل إلى سلسلةٍ من الخطوات لتأمين المزيد من المياه أبرزها:

إعادة تغذية الخزّان الجوفي وشحنه بالمياه، من طريق تجميع مياه المجاري الشتوية والمياه الفائضة عن حاجاتِ الاستهلاك وحصرها خلف سدود وحواجز، لدفعها مُجَدَّدًا نحو طبقات الأرض القابلة للتخزين.

استحداثُ أمطار، من طريقِ زَرعِ غيومٍ اصطناعية باستعمالِ مزيجٍ من كلورات الفضّة والبنزين، وبذر ناتج احتراق هذين العنصرين بواسطة طائرات خاصة، مباشرة فوق الغيوم السفلية، حيث يتم تبريدها، فتتحوَّل إلى مطرٍ صناعي.

إعادةُ استعمالِ المياه المُبتذلة، من خلال إخضاعها لعمليةِ تَصفية مكثّفة بعد إضافة كمية من البكتيريا القاتلة للمواد العضوية. وتتكرر هذه العملية في معظم المدن الساحلية وفي كل المستوطنات والمجمّعات السكنية.

الحاجات إلى المياه

يُقسمُ استهلاكُ المياه في إسرائيل إلى ثلاثة أقسام: المنزلي، والزراعي، والصناعي. بالنسبة إلى الحاجات المنزلية فقد بلغ عددُ سكان إسرائيل في أواخر سنة 1948 نحو 872,700 نسمة، منهم 82.1% يهود و 17.9% عرب. وبسبب الهجرات اليهودية الكثيفة والمتتالية من كل أرجاء العالم إلى الكيان الصهيوني، تطوّرَ عدد السكان بشكلٍ سريع بحيثُ وصلَ في العام 2023 الى 9,8 ملايين نسمة بينهم 73.6% من اليهود و 21.1% من العرب و 5.3% آخرون. وعلى رُغم تشجيع الدولة الصهيونية للاستيطان الزراعي في فلسطين، فقد بقي الاستيطانُ الصهيوني ذا طابعٍ حضري مديني. وتختلف التقديرات حول استهلاك المياه في إسرائيل للحاجات المنزلية لتصل إلى حوالي 1200 مليون متر مكعَّب في السنة.

عمليًا، لا يُمكنُ توقُّع الحاجات المستقبلية، لأنَّ نسبةَ الزيادة السكانية غير مستقرّة وتتأثر في الدرجة الأولى بعامل الهجرة. ويتحدّثُ المسؤولون الإسرائيليون باستمرار عن سعيهم إلى رَفعِ عددِ سكّانِ إسرائيل عبر دعوة اليهود المنتشرين في كل أرجاء العالم للهجرة إلى إسرائيل.

أمّا بالنسبة إلى الحاجات الزراعية والصناعية فقبل قيام إسرائيل، كان من أوّلِ وأهم أنشطة الحركة الصهيونية إقامة المستعمرات الزراعية. وفي الأعوام الأولى من عمر الدولة، بعد قيامها، انصبّ اهتمام الحكومة الأوَّل على الزراعة التي نجحت نجاحًا ملموسًا، سواء من حيث استصلاح الأراضي، أو مضاعفة القدرة الإنتاجية، أو ابتكار وسائل جديدة للري والتسميد.

وللزراعة في إسرائيـل تخطيـطٌ مركزي يُحيـطُ  بأدقّ التفاصيل، ويتم  ذلك عبر مؤسّستَين: وزارة الزراعة، التي تُشرفُ على الإنتاج الزراعي والتسويق؛ ودائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية، التي تُشرِفُ على بناءِ المستعمرات الزراعية الجديدة لتستقبل المهاجرين الجُدد وتؤمّن لهم العمل المُلائم من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. وقد استأثرَ قطاعُ الزراعة بنسبةٍ كبيرة من الاستهلاك العام للمياه في الدولة العبرية بحيث يصل إلى حوالي 1400 مليون متر مكعب سنويًا. والسببُ الرئيس وراء السعي الحثيث للصهيونية إلى تصوير إسرائيل كدولةٍ زراعية مُتَفَوِّقة بأيِّ ثمن يكمن في الاعتقاد الصهيوني القائم على ضرورة ربط اليهودي بـ”أرض إسرائيل” والمُباهاة بقدرة الدولة العبرية على “تخضير الصحراء”.

أمّا بالنسبة إلى كمية المياه المستهلكة في الصناعة فيُقدِّرها بعض الباحثين بحوالي 400 مليون متر مكعب سنويًا، ويُعادُ استخدامُ جُزءٍ من هذه المياه في عمليات الإنتاج، منها حوالي 70 مليون متر مكعب تُستَخدَم لتبريد المفاعلات النووية.

المأزق المائي

بعيدًا من التقديرات المُتناقضة، يُمكِنُ إجراء مقارنة تقريبية بين الموارد المتوافرة والحاجات الفعلية لتلمُّس الأخطار التي تحملها المشاريع المائية الصهيونية.

تتراوح كمية المياه المُتَوَفِّرة لإسرائيل بين 1655 و1950 مليون متر مكعب في السنة (45%من هذه المياه تحصل عليها من الأراضي التي تمّ اغتصابها قبل العام 1948). ويُمكنُ اعتمادُ رقمٍ وسطي بحدود 1800 مليون متر مكعب (دون الأخذ بعين الاعتبار سنوات الجفاف). يُضافُ إلى هذه الكمية حوالي 600 مليون متر مكعب سنويًا تُنتَجُ من تحلية مياه البحر.

يقدّر استهلاك المياه في إسرائيل بحوالي 3,000 مليون متر مكعب في السنة.

من هنا يبرز المأزق المائي الذي تعانيه إسرائيل.

وعى الصهاينة منذ بداية القرن الماضي أهمّية المياه للدولة التي خططوا لإقامتها على الأرض العربية. ففي العام 1919 قال حاييم وايزمان (أصبح في ما بعد أول رئيس لدولة إسرائيل) أمام مؤتمر السلام الذي عُقد في باريس: “يجب أن تكون لفلسطين منافذها الطبيعية على البحار والسيطرة على أنهرها ومنابع هذه الأنهر … لهذا ، فإنه لا يجب الاكتفاء فقط بتأمين مصادر المياه التي ترفد الدولة، ولكن أيضًا تأمين هذه المصادر من منابعها”. وقد حاول الصهاينة استيطان سوريا ولبنان لهذا الغرض، ولا تزال أطماعهم قائمة.

لقد كان الحصولُ على المياه العربية في صلبِ اهتمام الصهاينة الأوائل لأهمّيتها في إقامة المستوطنات. وإذا كانوا اختلفوا استراتيجيًا حول حدود دولة إسرائيل الموعودة، فإنهم اتفقوا على وضعِ الخطط “التي تؤمّنُ لهم حدودًا تشملُ نهرَي الأردن والليطاني وثلوج حرمون واليرموك وروافده … وبَدَؤوا يُفكّرون بتوليد الطاقة الهيدروكهربائية من طريقِ إقامةِ مساقط وشلالات لمياه الليطاني واليرموك”.

فإسرائيل ركّزت اهتمامها على المياه كعاملٍ أساسي محدَّد لإقامة وطن يجمع شمل اليهود في دولة كبرى، تمتد حدودها “من الفرات إلى النيل”، واعتُبِرَ هذا “الشعار المائي” الدافع والمحرّك الأول للسياسة العدوانية الإسرائيلية. وفي أوج معركة السويس في العام 1956، قال دليفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل: “إنَّ اليهود يخوضون ضد العرب معركةَ مياه، وعلى نتيجتها يتوقّف مصير دولتنا” !!!

كيف واجهت إسرائيل مشاكلها المائية؟

وعى قادةُ الكيان الصهيوني أهمية المياه، والأزمة المستقبلية في هذا المجال، فحاولوا مواجهة الهدر في استهلاك المياه ووضع ضوابط لهذا الاستهلاك، معتبرين أنَّ التعدّي على المياه هو جريمة يعاقب عليها القانون. ومن بين الوسائل التي اعتمدت لترشيد استهلاك المياه:

تطوير أساليب الري وتحسينها عبر اعتماد طريقة “الري بالتنقيط”، بحيث تعتبر الدولة العبرية الأولى في هذا المجال.

إنتاج بذور وشتول مؤهلة ذات قدرة عالية على تحمّل العطش (إنتاج الحبوب العلفية والنباتات الزيتية والنصوب الحرجية).

إدخال نظام الكومبيوتر إلى مشروعات الري الكبرى حيث يتحكّم في مقننات المياه بناء على قياس درجات الرطوبة وحاجات الزراعات الحقيقية للمياه.

استخدام ستائر وشاشات واقية من الحر في بعض الزراعات، ذات الأوراق العريضة، للحدّ ما أمكن من عمليات التبخُّر خلال موسم الحرّ الشديد.

تطبيق برنامج صارم على استخدام المياه في المنازل وفي إطار الخدمات البلدية.

غيرَ أنَّ الوقائع أثبتت، أنَّ مردودَ هذه التدابير، يبقى محدودًا وعالي الكلفة.

وفي ظل رفض إسرائيل إعادة النظر في أولوياتها الاقتصادية بحيث تكفّ عن الاعتماد على الزراعة المروية التي تتطلب استهلاكًا كثيفًا للمياه، لأنَّ ذلك يتعارض مع السياسة القائمة على الاكتفاء الذاتي وعلى مقولة “جعل الصحراء تزهر”؛ لجأ الكيان الصهيوني إلى سياسة سرقة واغتصاب المياه المتوفرة في المناطق المتاخمة له، ولو كان ذلك أدّى في بعض الحقبات إلى نزاعات عسكرية وحروب.

سرقة مياه الضفة الغربية

قبل العام 1976، وقبل سيطرتها العسكرية على الضفة الغربية، دأبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على نهب الثروة المائية لهذه المنطقة التي كانت تحت إشراف السلطات الأردنية، وذلك من خلال حفر آبار ملتوية (أو أفقية) تبدأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948 وتصل إلى عمق أراضي الضفة الغربية.

ويشير بعض الباحثين إلى أنَّ مياه الضفة الغربية كانت “الدافع الحقيقي” لنشوب حرب حزيران (يونيو) 1967، وإلى أنَّ مستقبل الوجود الإسرائيلي في هذه المنطقة مرهونٌ “بمدى سيطرتها على مصادر المياه”، لأن مياه الضفة تشكّل أكثر من خُمس مياه الكيان الإسرائيلي.

فبعد بدء حرب حزيران (يونيو) 1967، وقبل انتهاء العمليات العسكرية، أصدرت سلطات الاحتلال أول أمر عسكري بشأن مياه الضفة واستغلالها في 7/6/1967، وتلا ذلك أوامر وقرارات عديدة ألغت تراخيص المياه السابقة للفلسطينيين، ومنعتهم من حفر الآبار إلّا بعد مراجعة الحاكم العسكري. وقد شرّعت الحكومة الإسرائيلية لنفسها من خلال هذه الأوامر والقرارات ما قامت وتقوم به من إجراءاتٍ تعسُّفية لتحقيق هدفَين أساسيين:

الأول: تزويد المستوطنات الإسرائيلية بالمياه وتشجيع المستوطنين على البقاء والاستيطان والبناء و الزراعة (81.4% من مياه الضفة تستهلكها المستوطنات).

الثاني: حرمان العرب من حقّهم وتعطيشهم ودفعهم للهجرة إلى خارج الضفة. لذلك قامت سلطات الاحتلال بالحدّ من استخدام المواطنين العرب لمياه الآبار الأرتوازية، ومنعتهم من حفر الآبار، ووضعت عدّادات على الآبار القديمة لا تسمح للعرب من خلالها بضخِّ أكثر من كمّياتٍ مُحدَّدة في السنة. كذلك منعت سلطات الاحتلال المواطنين العرب من إقامةِ أيِّ مشروعٍ مائي مهما كان نوعه إلّا بعد موافقةٍ يحصلون عليها بصعوبة من الحاكم العسكري الإسرائيلي. وفي العام 1983 صدر قراران يُلزمان كلّ فلسطيني بطلبِ تصريحٍ من الحاكم العسكري إذا رغب في زراعة شجرة واحدة، وشمل هذا القرار زراعة الخضروات.

وكان من نتيجة هذه الإجراءات تدمير الظروف المعيشية للمواطن الفلسطيني حيث جفَّت الكثير من الآبار العربية، وزادت نسبة الملوحة في عدد كبير منها، مما اضطرَّ العديد من القرى العربية إلى اللجوء إلى المستوطنات الإسرائيلية للحصول على المياه.

مياه الجولان

تقع هضبة الجولان في الزاوية الجنوبية الغربية لسوريا، وهي تمتد على مسافة 74 كلم من جبل الشيخ حتى الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا على شكلِ شريطٍ ضيّق لا يتجاوز أقصى عرض له 27 كلم. وتبلغ مساحة الهضبة الإجمالية 1860 كيلومترًا مربعًا (1%من مساحة سوريا) احتلتها إسرائيل في العام1967، ولكن سوريا استعادت نحو 684 كيلومترًا مربعًا بعد تحريرها في حرب 1973، وظلت مساحة 1176 كيلومترًا مربعًا تحت الاحتلال الإسرائيلي. وتزخرُ تضاريس الهضبة بعددٍ وافرٍ من الجبال والمرتفعات الوَعرة، ويتزايد ارتفاعها كلما اتجهنا شرقًا وشمالًا، ويصلُ أقصى ارتفاع لها إلى نحو 2814 مترًا فوق سطح البحر في حين أنَّ أقصى انخفاضٍ لها عند شواطئ بحيرة طبريا يصل إلى نحو 210 أمتار تحت سطح البحر.

ويُطلُّ على هضبة الجولان جبل الشيخ (حرمون)، وسُمّي “الشيخ” لأنَّ الثلوجَ تغطي قمّته على مدار العام، وكأنه يرتدي عمامة بيضاء، وهو يحتوي على أكبر مخزون للمياه في المشرق العربي (تُعَدُّ أمطار هضبة الجولان من أغزر أمطار سوريا، إذ أنها تقدّر بـ1.38 مليار متر مكعب سنويًا).

وقد أدرك الصهاينة أهمية الجولان بالنسبة إلى مشروعهم الاستيطاني منذ بداية القرن الماضي، حيث جاء في مذكرة الحركة الصهيونية العالمية التي قُدّمت إلى مؤتمر السلام في باريس في العام 1919: “إنَّ جبل الشيخ هو أبو المياه الحقيقي بالنسبة إلى فلسطين ولا يمكن فصله عنها بدون إنزال ضربة جذرية بحياتها”. وفي كتاب “الصهيونية والسياسة العالمية” الذي صدر في العام 1921 وردت الفقرة التالية :”إنَّ مستقبل فلسطين بأكمله هو بأيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع الأردن، وهو ما يعني السيطرة على الجولان”.

إنطلاقًا مما سبق يمكن القول أنَّ احتلالَ إسرائيل لهضبة الجولان كان مناسبةً لتحقيق مشاريعها الاستيطانية والمائية المختلفة داخل الهضبة وفي محيطها. وقد قامت لجانٌ مُتخصّصة بإجراءِ مسحٍ شامل للثروة المائية في الهضبة، ووضعت الدراسات للاستفادة منها. كما لجأت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى إغراءِ المستوطنين للتمركز في الهضبة وإقامة المستوطنات، قبل أن يصدرَ قرارٌ بضمِّ  الهضبة نهائيًا إلى الكيان الصهيوني.

وهناكَ إجماعٌ بين الباحثين في شؤون المياه على أنَّ الدولة العبرية تؤمّنُ ما بين 30 و40% من المياه التي تستهلكها من هضبة الجولان ومن جبل الشيخ، قبل التوغُّل الأخير، (تُعتَبَرُ بحيرة طبريا، أو بحر الجليل، الخزان السطحي الطبيعي الرئيسي). وقد ساهمت وفرةُ المياه في إقامة المشاريع الزراعية والصناعية والسياحية. وتُقدّرُ وزارة المال الإسرائيلية المردود الزراعي والصناعي والسياحي للمستوطنات التي أُقيمت في هضبة الجولان بحوالي ملياري دولار. من هنا، يمكنُ فَهمُ أهداف التوغُّل الإسرائيلي في الأراضي السورية، بعد سقوط النظام، للسيطرة على المرتفعات الحاكمة، وعلى رأسها قمة جبل الشيخ التي تطل على سوريا وفلسطين والأردن ولبنان، وعلى منابع المياه العذبة في الجنوب، في سياق مساعي إسرائيل المستمرّة للقبض على تلك المنابع في منطقة تعاني حالة عجز مائي.

وقد سيطرت إسرائيل بالفعل، خلال الأشهر الماضية، على كلٍّ من سدِّ المنطرة، أحد السدود الصغيرة التي تُستخدَمُ لتجميع مياه الأمطار لريّ الأراضي الزراعية في ريف القنيطرة وتغطي نحو 2% من احتياجات المنطقة؛ عين الزيوان، وهو ينبوعٌ جوفي دائم الجريان يغطي قرابة 1.5% من مياه الجولان الزراعية؛ منابع نهر الرقاد الذي يُعتبر الرافد الرئيس لنهر اليرموك، وينبع من مرتفعات الجولان ويمر عبر مناطق عازلة، ويغطي نحو 8% من موارد الجنوب المائية؛ ومجرى نهر اليرموك، أطول أنهار حوران، والذي ينبع من ريف درعا الغربي قرب جباتا ويصب في نهر الأردن، وتغطي مياهه نحو 20% من مصادر الجنوب. كما سيطرت إسرائيل على سد الوحدة، أهم خزان مائي مشترك بين سوريا والأردن، تبلغ سعته 110 ملايين متر مكعّب، وتعتمد عليه محافظات درعا والرمثا وإربد، ويغطي قرابة 10% من احتياجات الجنوب السوري والشمال الأردني، بالإضافة إلى السيطرة النارية على سد الجبيلية في مدينة نوى، وهو سد محلي يستقبل مياه السيول الآتية من مرتفعات نوى، ويغطي نحو 3% من الري المحلي في غرب درعا.

في تصريحٍ إلى جريدة “لوفيغارو” الفرنسية بتاريخ 18 كانون الثاني (يناير) 1997 قال رئيس الوزراء الإسرائيلي يومها بنیامین نتنياهو: “إن هضبة الجولان لیست قطعًا موضوع تفاوض”. وأضاف: “يجب الاحتفاظ بالجولان لأسبابٍ استراتيجية واقتصادية”، مُوَضِّحًا ” أنَّ ربع الثروات المائية لإسرائيل مصدرها الجولان، ويمكن أن نعيش بدون نفط، ولكن لا يمكن أن نحرم انفسنا من المياه”. ويبدو واضحًا من تصريحات كل المسؤولين الأسرائيليين أنَّ الموقفَ من الجولان المحتل ينطلقُ من حاجة الدولة العبرية إلى المياه، فهي مسألةُ حياةٍ أو موت بالنسبة إليها. والمعيارُ الذي تستندُ إليه إسرائيل في كلِّ سياساتها لا يقومُ على الحقوق، أو القانون، أو الشرعية الدولية، بل على الاحتلالِ والظلم والقهر والقوة. ومن هذا المنطلق تعملُ على فرضِ سياساتها في كلِّ المجالات مُستغلّةً ومُستفيدةً من الثغرات العديدة والكبيرة، ومن حالة التضعضع والعجز والشرذمة في الوضع العربي.

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث أكاديمي وأستاذ جامعي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى