حِينَ تُستَخدَمُ الجوائزُ الدوليّةُ لصناعةِ الأساطير المُزَوَّرة

البروفِسور بيار الخوري*

عندما يُعلِنُ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال زيارته هذا الأسبوع البيت الأبيض بأنَّه رَشَّحَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنَيلِ “جائزة نوبل للسلام لأنه يَستحقُّها”، لا يبدو هذا الإعلانُ بريئًا أو رمزيًا فحسب، بل يَعكسُ مسعًى متعمَّدًا للتأسيسِ لسرديةٍ سياسيةٍ في الشرق الأوسط، حيث تُستَخدَمُ مفاهيمُ السلامِ والشرعيّةِ كأدواتٍ لتبريرِ تحوُّلاتٍ إقليمية جوهرية، شاركَ نتنياهو نفسه في صناعتها.

في هذا الإطار، يبدو نتنياهو كَمَن يُعيدُ كتابةَ تاريخِ المرحلة، واضعًا نفسه في مَوقِعِ الفاعلِ المركزي، لا مُجرَّد المستفيد. فعبر ربط ترامب بجائزة نوبل، يُلمّحُ إلى أنَّ إنجازاتَ الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها ما حصل في لبنان وسوريا وغزّة واليمن وايران، لم تَكُن لتتحقّق بدون مبادرته الشخصية، و”جرأته” على تجاوُزِ ما كانَ يُعتَبَرُ خطوطًا حمراء في التعاطي مع الملفِّ الفلسطيني، ومحور إيران وحلفائه.

هذا النوعُ من الخطابِ يَنسَجِمُ مع ما يُعرَفُ في علمِ النفسِ السياسي بـ”النرجسيّة الأخلاقية للقادة”، حيث يُبَرَّرُ السلوكُ القمعي أو التصادُمي بوصفِهِ وسيلةً ضرورية لتحقيق نتائج استراتيجية عُليا. وبدلَ أن ينفي التُهَمَ المُوَجَّهة إليه في المحافل الحقوقية والدولية، وخصوصًا من المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرة اعتقال بحقّه، يسعى نتنياهو إلى إعادةِ تأطيرها ضمنَ سرديةٍ مفادها: “نعم، لقد استخدمتُ القوة، لكن ذلك أفضى إلى سلامٍ إقليمي وتحوّلٍ تاريخي”، وبالتالي يُصبحُ “الإجرامُ” المُفتَرَض، في نظره، ثمنًا مشروعًا للنجاح.

من منظور السياسة الواقعية (Realpolitik)، يتبنّى نتنياهو سرديةً يُستبدَلُ فيها مَبدأُ العدالة بنتائج ملموسة: الاختراقُ الديبلوماسي مع دول الخليج وسوريا (وربما لبنان)، تَراجُعُ مركزية القضية الفلسطينية في المحافل العربية، ضمورُ محور إيران وحلفائها. لكن هذا التَوَجُّهُ يُهمِّشُ عَمدًا المعايير الأساسية التي تقومُ عليها الشرعية الدولية، من احترامِ حقوقِ الشعوب إلى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني.

ما يَطرَحُهُ نتنياهو في العمق هو تلاعبٌ بمفهومِ “السلام” نفسه. فبدلَ أن يكونَ سلامًا مَبنِيًّا على تسويةٍ شاملة، حقوقية وتاريخية ومنطق رابح- رابح، يُصبحُ سلامًا فوقيًا، استراتيجيًا، يتجاهَلُ جذورَ النزاع ويُبنى على توازُناتٍ ردعية جديدة. في هذا السياق، يكونُ مَنحُ ترامب نوبل للسلام، من وجهةِ نظر نتنياهو، خطوةً رمزيةً لتكريسِ هذه المُقاربة، وتلميعِ مشروعِ تطبيعِ علاقاتٍ لم تُنهِ الصراع، بل نقلته إلى طبقةٍ جديدةٍ من التعقيد.

خلفَ هذه البراغماتية، هناكَ محاولةٌ واضحة لإعادة تعريف “الشرعية” على أُسُسٍ جديدة: مَن يَنجَحُ هو الحق، لا مَن يلتزمُ بالمبادئ. وتُستبدَلُ قواعد المحاسبة الدولية بقواعد “الإنجاز السياسي”، حتى لو جاء هذا الإنجازُ على حسابِ القوانين والأعراف، بل وعلى حساب الحقيقة التاريخية نفسها.

ما يُقدّمهُ نتنياهو من خلال هذا الإعلان ليس تقييمًا لشخص ترامب، بل مُرافعة سياسية عن مشروعه هو، يطلبُ فيها من العالم إعادة النظر في “معايير الحُكم” على القادة. إنّه لا يسعى إلى تبرئة اسمه فحسب، بل إلى حجزِ موقعه في كتابة التاريخ الحديث للمنطقة، ليس كطرفٍ في نزاعٍ مُزمِن، بل كمُهندسٍ لتوازُناتٍ إقليمية جديدة، ولو جاءَ ذلك على أنقاضِ حقوقٍ مسلوبة، ودماءٍ مُراقة… وواقعٍ لم تُحلّ جذوره بعد.

  • البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى