تُركيا وروسيا تُمسِكان بمفاتيح مُستَقبَل ليبيا

من المرجح أن تواصل تركيا وروسيا حرصهما على تحقيق التوازن الدقيق بينهما، خصوصًا في ليبيا، وتجنّب المخاطرة بالمواجهة المباشرة.

الرئيس رجب طيب أردوغان و رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة: توقيع إتفاقية للتعاون في مجال الطاقة.

جوناثان فينتون-هارفي*

هَدّدت الاشتباكاتُ الأخيرة بين الميليشيات الموالية للحكومة في طرابلس مُجَدَّدًا بإشعالِ الصراع الليبي الهشّ والمتجمّد. ولكن، إلى جانب حالة عدم الاستقرار التي تصدّرَت عناوين الصحف، يتكشَّفُ صراعٌ أكثر هدوءًا على النفوذ والسلطة؛ صراعٌ تَبرُزُ فيه تركيا وروسيا كأهمِّ فاعلَين، حيث تستغل كلٌّ من أنقرة وموسكو حالةَ الجمود في البلاد لترسيخ نفوذها.

من منظورٍ محلّي، اتَّضَحَ خطرُ اشتعال هذا الصراع المتجمّد مجدَّدًا في أيار (مايو)، عندما اندلعت اشتباكاتٌ بين الميليشيات المتنافسة المتحالفة مع حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، ما أسفرَ عن مقتل ثمانية أشخاص على الأقل. اندلعَ القتالُ عندما انقلبت ميليشيا تُعرف باسم “اللواء 444 قتال” على الدبيبة، الذي يَعتَمِدُ على تحالُفٍ من الجماعاتِ المسلَّحة للبقاء في السلطة. تمكّنت قوات الأمن الموالية لحكومة الوحدة الوطنية من قمع التمرُّد، ولكن في خضمِّ القتال، اغتيل عبد الغني الككلي، قائد “اللواء 444 قتال”.

أعلن الدبيبة “وقف إطلاق النار” بعد يومَين من بدء القتال، لكن اندلعت احتجاجاتٌ مُناهِضة لحكومة الوحدة الوطنية في العاصمة، مُسَجِّلةً واحدة من أكبر المظاهرات منذ سقوط معمر القذافي في العام 2011، الأمر الذي سلّط الضوء أكثر على هشاشة الوضع الراهن في ليبيا. في الواقع، شاعت تكهُّنات بأنَّ القوات الموالية للجنرال خليفة حفتر ومجلس النواب، اللذين يُشكّلان حكومةً مُنافسة مقرّها طبرق شرقي ليبيا، قد تتدخل أيضًا، مما قد يزيد من زعزعة استقرار العاصمة.

مع ذلك، فإنَّ خطوطَ الصدع السياسية والعسكرية التي تُقَسِّمُ ليبيا تُشَكّلها بشكلٍ متزايد كلٌّ من تركيا وروسيا، اللتين استقرّتا في ما يصفه المحللون بأنه “تنافسٌ مدروس” أو “تعاونٌ عدائي”، كما رأينا سابقًا في مسارح أخرى حيث تتصادَم مصالحهما وتتداخل في وقت واحد، مثل سوريا وجنوب القوقاز.

دعمت القوّتان أطرافًا مُتعارضة خلال الحرب الأهلية الليبية، حيث دعمت تركيا حكومة الوفاق الوطني في طرابلس حتى حلّت محلها حكومة الوحدة الوطنية في آذار (مارس) 2021، بينما دعمت روسيا ما يُسمى بالجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، والذي قاتل دعمًا لحكومة طبرق. مع ذلك، توصّلت أنقرة وموسكو في النهاية إلى اتفاقٍ ضمني بعدم تصعيد الصراع، على الرُغم من تعميق تعاونهما الاقتصادي والعسكري مع معسكريهما.

نفوذُ تركيا

غيّرَ التدخُّلُ العسكري التركي في العام 2020 موازين القوى في الحرب الأهلية الليبية بشكلٍ حاسم، إذ صدّ هجومًا على طرابلس شنّه حفتر في نيسان (أبريل) 2019، ومَهّدَ الطريق لوقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة، والذي أنهى القتال بين حكومتي طرابلس وطبرق في وقت لاحق من ذلك العام. ومنذ ذلك الحين، ظلت تركيا الراعي الرئيس لحكومة الوفاق الوطني، حيث زوّدتها بالمعدات العسكرية، مثل المركبات المدرعة والطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الجوي والمدفعية تركية الصنع.

واصل البرلمان التركي تجديد التفويض العسكري لقواته في ليبيا، حيث أشار الرئيس رجب طيب أردوغان إلى المخاطر التي تُهدّدُ المصالح التركية في حال تعرّضت حكومة الوفاق الوطني لهجومٍ متجدّد. وكان هذا الدعم القوي، بلا شك، العامل الحاسم الذي سمح للدبيبة وحكومة الوفاق الوطني بالاحتفاظ بالسيطرة وسط الاضطرابات الأخيرة في طرابلس.

في حين أنَّ التدخُّلَ العسكري التركي قد ضمن لأنقرة مقعدًا على الطاولة السياسية في ليبيا، فقد أبرمت أيضًا صفقاتٍ لاستكشاف النفط والغاز مع الإدارات المتعاقبة في طرابلس، بدءًا بمذكرة تفاهم موقَّعة مع حكومة الوفاق الوطني في العام 2019، والتي صادقت عليها لاحقًا حكومة دبيبة في تشرين الأول (أكتوبر) 2022.

ورُغمَ أنَّ محكمة استئناف طرابلس قضت برفض الاتفاقية في شباط (فبراير) 2024، إلّا أنَّ حكومةَ الوحدة الوطنية أبطلت قرار المحكمة في النهاية. وهذا يُبرِزُ كيف أنَّ تواصُلَ أنقرة مع أصحاب النفوذ في طرابلس قد عزّزَ مصالحها البحرية ومصالح الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، حتى في الوقت الذي أثارت مطالبات تركيا الإقليمية البحرية توترات مع اليونان ومصر، اللتين قالتا إنها تنتهك سيادتهما.

علاوةً على ذلك، أظهر قرار تركيا بالانحياز إلى دبيبة في خلافه مع وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، الذي كان حليفًا رئيسًا لتركيا، استعداد أنقرة لإعادة تقييم موقفها بسرعة للحفاظ على نفوذها. في الواقع، إلى جانب تأمين طرابلس، وضعت أنقرة نصب عينيها تحسين موقعها في شرق ليبيا. فبعد عاصفة “دانيال” وانهيار سدود درنة في أيلول (سبتمبر) 2023 -التي وُصفت بأنها “أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الليبية”- قدّمت تركيا مساعدات إنسانية سريعة، وفتحت قنوات اتصال مع السلطات في الشرق.

وفي نيسان (أبريل) أيضًا، استضافت تركيا صدام حفتر -نجل خليفة حفتر- لعقدِ اجتماعاتٍ مع وزير الدفاع التركي ومسؤولين عسكريين آخرين في أنقرة، حيث ناقشوا توريد المعدات والتدريب لقوات الجيش الوطني الليبي. شكّل هذا تحوُّلًا ملحوظًا، بالنظر إلى أنه قبل بضع سنوات فقط، ندّدَ خليفة حفتر بالتدخل التركي في غرب ليبيا ووصفه بأنه “احتلال”. ومع ذلك، ومع بلوغ خليفة حفتر 81 عامًا، يبدو أن أنقرة تُحوِّطُ رهاناتها من خلال تعزيز العلاقات مع صدام، الذي نصّب نفسه خليفةً لوالده.

من الواضح أن تركيا تُكمل قوتها العسكرية في الغرب بقوة ناعمة وروابط دفاعية في الشرق، مما يعني أنَّ أيَّ حلٍّ سياسي مستقبلي للانقسامات الليبية سيتطلّب بالتأكيد مشاركة تركية.

طموحات روسيا

كانت لمشاركة روسيا في ليبيا أهمية بالغة، لكنها كانت في السابق أكثر هدوءًا. حافظت موسكو في البداية على وجودٍ عسكري متواضع في شكل مرتزقة فاغنر ومقاتلين سوريين متحالفين مع الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر. منذ وقف إطلاق النار في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، عمّقت روسيا وجودها، مع ترسيخ نفوذ كبير في جنوب وشرق ليبيا.

أصبحت موسكو أكثر انفتاحًا في علاقاتها مع حفتر، لا سيما بعد سقوط نظام الديكتاتور السابق بشار الأسد في سوريا. في أيار (مايو)، سافر كلٌّ من خليفة وصدام حفتر إلى موسكو لحضور احتفالات روسيا بيوم النصر في الحرب العالمية الثانية، حيث التقيا بكبار المسؤولين وناقشا توسيع التعاون العسكري، وهو ما أعرب عنه حفتر الأب بامتنانه.

يأتي تعميق العلاقة في وقتٍ تسعى موسكو إلى إعادة تأكيد حضورها المتوسّطي بعد فقدانها نفوذها في سوريا، والذي كان يضمن لها قاعدة بحرية شرق البحر الأبيض المتوسط ​​في طرطوس. في شباط (فبراير)، أظهرت صور الأقمار الاصطناعية تطوير روسيا لقاعدة معطن السارّة الجوية في جنوب ليبيا، حيث شحنت إليها أنظمة الدفاع الجوي “أس-300″ (S-300) و”أس-400” (S-400). كما انتقل حوالي 1000 عسكري روسي إلى ليبيا من سوريا. تُكمِلُ هذه القوات الإضافية مرتزقة فاغنر السابقين -الذين تمَّ دمجهم رسميًا في الجيش الروسي باسم فيلق أفريقيا بعد وفاة يفغيني بريغوزين في العام 2023- والذين تمَّ دمجهم أصلًا في الجيش الوطني الليبي. علاوة على ذلك، أفادت التقارير أنَّ روسيا تسعى إلى إنشاء قاعدة بحرية في ليبيا، مع ذكر طبرق نفسها كموقع محتمل.

من المرجح أن يُسهّل النفوذ الروسي المتزايد لدى الجيش الوطني الليبي الموافقة على بناء قاعدة بحرية. تعتمد قوات حفتر على روسيا في شبكاتها اللوجستية، بل وتحتاج، بحسب التقارير، إلى موافقة روسية لاستخدام بعض المنشآت العسكرية، مما يُشير إلى مدى النفوذ الذي رسّخته موسكو عليه.

ومع ذلك، فبدلًا من أن تكون حليفًا غير مشروط، يُمكن القول إنَّ روسيا تنظر إلى حفتر كوسيلةٍ لتحقيق غاية، وأداةٍ للحفاظ على نفوذها في ليبيا وتوسيع نطاق نفوذها إلى أفريقيا. ومع ذلك، فإنَّ حقيقةَ أنَّ حفتر وابنه قد تواصلا مع أنقرة تُظهر أيضًا أنَّ العائلة مستعدة لاستغلال القوى المتنافسة للحصول على الاعتراف. وبالتالي، يمكن اعتبار علاقات روسيا وحفتر “زواج مصلحة”.

في الواقع، وعلى غرار تركيا، تطلّعت روسيا أيضًا إلى المعسكر المنافس لتأمين رهاناتها. وقد اكتسب تواصل موسكو مع طرابلس زخمًا على مدار العامين الماضيين، حيث سافر وفد إلى طرابلس للقاء مسؤولي حكومة الوحدة الوطنية -بمن فيهم الدبيبة- في نيسان (أبريل) الفائت. وبالإضافة إلى السماح لموسكو باستخدام غرب ليبيا كنقطة انطلاق لفَرضِ نفوذها في عمق أفريقيا، فإنَّ هذا التوازن يعزز مصالح روسيا في مجال الطاقة، حيث تجري الشركات الروسية الآن محادثات مع المجلس الرئاسي الذي يتخذ من طرابلس مقرًا له، والذي يتحالف مع حكومة الوحدة الوطنية، بشأن صفقات استكشاف.

يُشكّل الدور الروسي الراسخ ورقة مساومة جيوسياسية، تُجبر القوى الأوروبية على التعاون مع موسكو، وتُعزز رؤية الرئيس فلاديمير بوتين المُعلنة لنظام عالمي متعدد الأقطاب. كما إن هناك خطرًا مُحتملًا من تسليح روسيا لقطاع الطاقة الليبي؛ فقد سبق لحفتر أن حاصرَ منشآتٍ نفطية للضغط على طرابلس، وهو تكتيك قد تستغله موسكو لتعطيل إمدادات الطاقة الأوروبية أو التلاعب بها.

حتى في غياب التخريب النشط، من شبه المؤكد أنَّ وجود قاعدة بحرية روسية مُستقبلية في ليبيا سيُثير القلق في العواصم الأوروبية. ومع ذلك، من المُرجح أن يُعزز كل هذا في صراع مُجمَّد، صراعٌ يُعززه بشكل متزايد التنافس بين روسيا وتركيا.

أوروبا على الهامش

مع ذلك، تميلُ كفّةِ الميزان بشكلٍ متزايد لصالح أنقرة. ويتجلّى ذلك في كيفية تغيير الدول الأوروبية، التي ظلت مُتفاعلة مع الأحداث في ليبيا، لنهجها تجاه تركيا، لا سيما في ضوء دعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب المُتذبذب لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأوكرانيا.

في حين أنَّ فرنسا كانت دائمًا من أشد منتقدي النفوذ التركي في شرق البحر الأبيض المتوسط، إلّا أنها خفّفت من انتقاداتها لتحرُّكات أنقرة في السياسة الخارجية في السنوات الأخيرة. علاوةً على ذلك، في عهد رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، عززت إيطاليا علاقاتها مع تركيا، معتبرةً أنقرة لا غنى عنها لتحقيق أهدافها في ليبيا المتمثلة في وقف الهجرة وضمان عقود الطاقة. وقد تجلى ذلك جليًا في اجتماع ميلوني مع أردوغان في 30 نيسان (أبريل)، والذي شهد أيضًا تعزيز الجانبين للعلاقات الدفاعية.

في غضون ذلك، انسحبت واشنطن إلى حدٍّ كبير من الصراع الليبي، باستثناء التلميحات الأخيرة المثيرة للجدل بنقل المهاجرين إلى أميركا وحتى النازحين الفلسطينيين من غزة إلى ليبيا. وقد أُدين كلا المقترحين بسرعة، ويعود ذلك جُزئيًا إلى انعدام الأمن في البلاد وارتفاع خطر الاتجار بالبشر.

مع تراجع التدخل الغربي، فإنَّ أيَّ جهودٍ تدعمها الأمم المتحدة لتوحيد الإدارات المتنافسة تحت حكومة واحدة، أو الدفع نحو إصلاحات داخلية، أو إجراء انتخابات، ستتطلّب بالتأكيد موافقة تركيا. وسيثبت إقناع موسكو بتقليص دعمها لحفتر والتخلّي عن موطئ قدمها الاستراتيجي في البحر الأبيض المتوسط ​​وأفريقيا صعوبة أكبر بكثير.

قد يكون أحد الحلول العملية لهذا الجمود هو تعميق التنسيق الغربي مع تركيا بشأن ليبيا، بهدف التوصل إلى حلٍّ سياسي. ومع ذلك، مع تباين رغبة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في التعامل مع أنقرة، إلى جانب استمرار انفصال واشنطن، من المرجح أن تحافظ تركيا على “تعاونها العدائي” مع موسكو.

من المتوقع أن تواصل تركيا وروسيا حرصهما على تحقيق التوازن الدقيق بينهما، خصوصًا في ليبيا، وتجنُّب المخاطرة بالمواجهة المباشرة. ففي نهاية المطاف، أكد اجتماع 26 أيار (مايو) في موسكو بين الرئيس بوتين ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان على اهتمامهما المشترك بالحفاظ على التواصل، لا سيما بشأن أوكرانيا واستقرار البحر الأسود، وتجنب تدهور العلاقات بشكلٍ أعمق.

أما بالنسبة إلى ليبيا، فإنَّ استمرار الجمود السياسي يُنذرُ بترسيخ الانقسامات في البلاد بدلًا من حلّها. وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ اشتباكات أيار (مايو)، مثل توترات العام الماضي في طرابلس التي هزّت أسواق النفط وهدّدت النظام المصرفي الليبي، قد تكون في نهاية المطاف بمثابةِ مقدّمة لحالةِ عدمِ استقرارٍ أسوَإٍ مُقبلة.

  • جوناثان فينتون هارفي هو محلل سياسي وصحافي بريطاني ركز عمله بشكل كبير على شؤون مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى القضايا الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بالشرق الأوسط الأوسع ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى