لماذا يُراهِنُ خامنئي على ترامب؟
حذّر المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي علنًا المُتَشدّدين المُناهضين للتفاوض مع واشنطن وطالبهم بوقف انتقاداتهم – مراقبة أقوالهم، وتجنُّب الأفعال غير المسؤولة، وانتظار نتائج المحادثات مع الأميركيين. وحذّرَ في خطابٍ ألقاه في 25 نيسان (أبريل) الفائت قائلًا: “الاحتجاجات العبثية، أو نفاد الصبر، أو التحليلات الخاطئة قد تكون لها عواقب وخيمة”.

أليكس فاتانكا*
منذ منتصف نيسان (أبريل) الفائت، تسارَعَت وتيرةُ الديبلوماسية بين طهران وواشنطن. فبعدَ جمودٍ دامَ سبعَ سنوات، أقدم المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، على تراجُعٍ مُذهل، إن لم يكن مُفاجئًا تمامًا: إذ أعطى الضوءَ الأخضر لاتفاقٍ نوويٍّ جديد إذا قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخطوطَ الحمراء الأساسية لطهران. وبينما لم تُسفر الجولة الأخيرة من المحادثات بين البلدين، التي عُقدت قبل أيام في عُمان، عن أيِّ اختراقٍ واضح، يبدو أنَّ كلا الجانبين عازمٌ على مواصلة التفاوض.
في العام 2019، عندما أرسل ترامب رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى طهران لبدء محادثاتٍ مع المرشد الأعلى الإيراني، تعهّدَ خامنئي بعدم التفاوض أبدًا مع الرئيس الأميركي، الذي وصفه بـ”ذلك الرجل”. لم يَعُد التحدّي المُطلَق خيارًا. فنظرًا لضغوطِ العقوبات والاضطرابات الاقتصادية وتهديد الحرب، اختارَ خامنئي الديبلوماسية. ويرتكزُ الزخمُ الأخير في المحادثات على فرضيةٍ هشّة، وإن كانت واضحة وجليّة: يريدُ ترامب منع إيران من امتلاك القدرة على امتلاك أسلحة نووية، بينما تُصرّ طهران على أنها لا تنوي بناء مثل هذه القدرة. ومع ذلك، تبدو طهران أكثر توحُّدًّا وإلحاحًا من واشنطن، حيث تُشكك إدارة ترامب نفسها حتى في جوهر الديبلوماسية. ذلك لأن القيادة الإيرانية ترى أنَّ المخاطر وجودية. يجب على خامنئي أن يسلكَ طريقًا سياسيًا دقيقًا: دفع المحادثات، التي تحظى بدعمٍ شعبي واسع، مع إدارةِ فصيلٍ مُتشدّد صغير ولكنه صريحٌ يهدد التماسُك الداخلي للنظام.
بالنسبة إلى المعسكر المُتشدّد المناهض لأميركا، تُشبه محادثات خامنئي مع ترامب التفاوض مع يزيد بن معاوية، الشرير الأكبر في تاريخ الشيعة الذي قتل الإمام الحسين في القرن السابع. ومع ذلك، تُشكّلُ هذه الأصوات هامشًا ضئيلًا مقارنةً بالغالبية العظمى من الإيرانيين -من المواطنين العاديين إلى فصائل النظام البراغماتية وطبقة رجال الأعمال المُنهَكة- الذين يُرحّبون بالديبلوماسية مع واشنطن.
ومع ذلك، فحتى مع آمال عامة الناس الكبيرة في أن تُنعِشَ المحادثات أحوالهم، يبقى موقف خامنئي واضحًا. فالديبلوماسية، من وجهة نظره، تعني منع الحرب، وليس إصلاح الاقتصاد الإيراني المُنهك. وقد حذّر مرارًا وتكرارًا من أنَّ الاتفاق النووي الجديد لن يضمن تخفيفًا شاملًا للعقوبات.
ويزعم بعض المطّلعين على بواطن النظام الآن أنه على الرُغم من تصريحاته العلنية، لم يكن خامنئي معارضًا جذريًا للديبلوماسية. حتى أنَّ أحد النواب الإيرانيين المتشدّدين يزعَمُ أنَّ طهران تواصلت بهدوء مع فريق ترامب لمدة عامين كجُزءٍ من استراتيجيةٍ للاستعداد لأيِّ سيناريو، بما في ذلك النتائج المحتملة للانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024.
يبدو أنَّ الحسابات الباردة نفسها تُشكّلُ تفكير الحرس الثوري الإسلامي، الذي يُسيطرُ على البنية التحتية العسكرية والنووية الرئيسة لإيران. قد يدفعُ اتفاقٌ مع ترامب قيادة الحرس الثوري في نهاية المطاف إلى إعادةِ تقييم تكاليف العداء المُطوّل مع الولايات المتحدة والنظر في تعميق الوفاق. لكن هذه النوايا لا تزال غير مُعلَنة. في الوقت الحالي، يُشارك الحرس الثوري الإسلامي خامنئي هدفًا أساسيًا: تجنّب الحرب. فهو يُريد احتواء التصعيد، وكسب الوقت، والحفاظ على النفوذ الاستراتيجي. لا يُمثّل قبول المفاوضات، بالنسبة إلى الحرس الثوري الإسلامي، تحوّلًا جوهريًا في نظرته للعالم.
لتبديد أيّ شكوك حول وحدة النظام، أوضح مكتب خامنئي أنَّ الحرس الثوري الإيراني يدعمُ المحادثات التي يقودها وزير الخارجية عباس عراقجي، لكنه يبقى “على أهبّة الاستعداد” و”حاضرًا للتدخُّل” في حال تعثّرت الديبلوماسية. في هذه الرواية، تُعتبَرُ الديبلوماسية والردع العسكري وَجهَين لعملةٍ واحدة، حيث يقف الحرس الثوري الإيراني حارسًا لخطوط إيران الحمراء، والضامن لأيِّ اتفاقٍ يتم وفقًا لشروط طهران الصارمة.
في غضون ذلك، رَحّبت الفصائل البراغماتية والتكنوقراطية في إيران -التي تُعدّ من نواحٍ عديدة العمود الفقري لآلية الدولة- علنًا بتأييد خامنئي والحرس الثوري الإيراني للمحادثات النووية مع إدارة ترامب. بالنسبة إلى عراقجي والرئيس مسعود بزشكيان -أحدث حاملي لواء المعسكر المؤيّد للانخراط- تُمثّل هذه اللحظة نقطةَ تحوُّلٍ محسوبة في علاقة طهران بواشنطن.
يُعلي هذان المسؤولان من شأن خامنئي عمدًا باعتباره الراعي النهائي للمفاوضات. وبذلك، فإنهما يلقيان عبءَ المشاركة السياسي على عاتقه، جابرَين المنتقدين المتشدّدين على إما الانصياع أو المخاطرة بتحدّي خامنئي والحرس الثوري الإيراني علنًا. في الواقع، تُصبح معارضة المحادثات مرادفةً لتحدي القيادة المركزية للنظام. وحالة سعيد جليلي مُعبّرة. فقد دافع جليلي، المُعارض القديم لتقديم التنازلات لواشنطن، علنًا عن المحادثات الأخيرة.
لم يُخفِ بزشكيان تفضيله للمحادثات المباشرة مع واشنطن، لكنه تعهّد باحترام إصرار خامنئي على الحفاظ على وَهمِ المفاوضات غير المباشرة. تُتيحُ هذه الخدعة لخامنئي حفظَ ماءِ وجهه والحفاظ على مسافةٍ سطحيةٍ من الأميركيين، مع أنه ليس سرًّا أنَّ عراقجي يعقدُ اجتماعاتٍ وجهًا لوجه مع مبعوث ترامب إلى إيران، ستيف ويتكوف، كلما التقى وفدان إيراني وأميركي.
في حين أن بزشكيان قد لا يكون مهتمًّا بمظهر التواصُل مع ترامب، فإنَّ ما يهمّه أكثر -ولملايين الإيرانيين- هو التوصُّل إلى اتفاقٍ يرفعُ العقوبات الأميركية. في غضون ذلك، يتعزّزُ الدفعُ نحو الديبلوماسية المباشرة، ولكن عبر وكلاء. وكما قالَ أحد المعلّقين الإيرانيين البارزين المؤيّدين للتواصُل أخيرًا: “لا وجودَ للمفاوضات غير المباشرة؛ نحن بحاجة إلى محادثاتٍ مباشرة، لا إلى مساومة”.
من الصعب تجاهُل مدى الإلحاح في هذا التصريح. فموقف إيران اليوم أضعف بكثير مما كان عليه في المرة الأخيرة التي توصلت فيها طهران وواشنطن إلى اتفاقٍ نووي. الاقتصاد الإيراني مشلول؛ ومعدلات التضخّم والبطالة في ارتفاع مُتسارع؛ ولا يزال قطاع الطاقة يُعاني من أزمةٍ عميقة، على الرُغم من امتلاك إيران لبعض أكبر احتياطيات النفط والغاز في العالم، وذلك بسبب نقص الأموال اللازمة للاستثمار.
في غضون ذلك، تعرّضت شبكة وكلاء و”أذرع” طهران الإقليمية لضربةٍ موجعة. فقد تضاءل نفوذُ “حماس” و”حزب الله”، وحتى الحوثيين، وسقط نظام الأسد في سوريا. وإذا ما نظرنا إلى الوضع من منظورٍ أوسع، يتّضح التهديد أكثر: فخطر الضربات العسكرية الإسرائيلية-الأميركية واردٌ بقوة، بينما لا تزال روسيا والصين، حليفتا إيران المُقرّبتان، مُتردّدتَين في مُساعدة طهران في حال نشوب حرب.
ومما يزيد الضغط، أنَّ استطلاعات الرأي تُظهِرُ أنَّ الغالبية العظمى من الإيرانيين -أكثر من 80%- تُؤيد المفاوضات مع الولايات المتحدة، حتى أنَّ الإشارات الإيجابية الطفيفة التي يبديها فريق التفاوض بعد كل جولة قد عزّزت قيمة الريال الإيراني المُنهّك. وكما قال أحد المفاوضين النوويين الإيرانيين السابقين، “لقد أدّت ساعتان من المحادثات الإيجابية بين إيران والولايات المتحدة إلى تعزيز قيمة العملة الوطنية الإيرانية بنحو 20% ــ وهي النتيجة التي لم يكن البنك المركزي ليتمكّن من تحقيقها حتى من خلال ضخِّ مئات الملايين من الدولارات في السوق”.
في الواقع، من الواضح أنَّ بعضَ النشوة المُحيطة بالمحادثات سابقة لأوانها. يتوقّعُ بعض الاقتصاديين المؤيدين للديبلوماسية أن تُحَلَّ مشاكل إيران الاقتصادية في غضون ثلاث إلى أربع سنوات، مع إعادة فتح الأسواق العالمية وانحسار الاختناقات المالية بمجرد توقيع اتفاق نووي جديد. علمًا أن العقوبات الأميركية كلّفت إيران مئات المليارات من الدولارات على مدى العقدين الماضيين، مما شلّ قطاعاتها المصرفية والنقل والتصدير. على أقل تقدير، يمكن للاتفاق أن يُفرِجَ عن مليارات الدولارات من الأصول المجمّدة في قطر والعراق وتركيا وإيطاليا. لكن بالنسبة إلى خامنئي، فإنَّ هذا التفاؤل سلاحٌ ذو حدين: فهو يُخاطر بتضخيم توقّعات الجمهور في وقتٍ تُمثِّلُ العقوبات جُزءًا واحدًا فقط من الضيق الأعمق الذي يُصيب الاقتصاد الإيراني.
ليس على خامنئي إدارة توقعات وروايات معسكر المؤيدين للديبلوماسية فحسب، بل يجب عليه أيضًا تشكيل موقف النقاد المتشددين الذين يعارضون أيَّ اتفاقٍ مع الأميركيين بعناية. هذا الفصيلُ صغيرٌ ولكنه صاخبٌ وغالبًا ما يكون متهوِّرًا في الأقوال والأفعال. احتجَّ بعضُ الشخصيات المرتبطة بهذا المعسكر بالفعل على أنَّ طهران، بدلًا من التفاوض مع ترامب، ينبغي أن تسعى إلى معاقبته على أمره باغتيال قاسم سليماني في العام 2020.
حذّر خامنئي علنًا المتشددّين المناهضين للتفاوض وطالبهم بوقف انتقاداتهم – مراقبة أقوالهم، وتجنُّب الأفعال غير المسؤولة، وانتظار نتائج المحادثات مع الأميركيين. وحذّرَ في خطابٍ ألقاه في 25 نيسان (أبريل) الفائت قائلًا: “الاحتجاجات العبثية، أو نفاد الصبر، أو التحليلات الخاطئة قد تكون لها عواقب وخيمة”. كانت رسالته موجَّهة إلى فصيلٍ مُتشدّد صغير ولكنه صريحٌ وغاضبٌ مما يعتبره تنازلات مفرطة في الداخل والخارج: تعليق الحجاب الإلزامي، وإلغاء ضربة مخططة على إسرائيل ردًّا على هجوم إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) 2024 على إيران، والآن، التعامل مع البيت الأبيض بقيادة ترامب.
في الواقع، اتخذ عراقجي، مبعوث خامنئي المختار للتفاوض مع إدارة ترامب، خطوةً غير عادية بالتدخُّل في السياسة الأميركية في محاولةٍ للتقرُّب من ترامب. لم يتحدّث عراقجي عن ترامب كزعيمٍ حكيمٍ مُناهضٍ للحرب فحسب، بل ذهبَ إلى حدِّ نشرِ تغريداتٍ مُناهضة للرئيس الأميركي السابق جو بايدن مُصَمَّمة خصيصًا لجذب ازدراء الرئيس الجديد لسلفه. حتى الآن، لم يجرؤ المتشدّدون في طهران على تحدّي مبادرات عراقجي تجاه ترامب – وهي إيماءات لو صدرت عن سلفه الشهير، محمد جواد ظريف، لكانت قد أوقعته في ورطةٍ كبيرة.
إيران في العام 2025 في مكانٍ مختلف تمامًا عمّا كانت عليه في العام 2015. يعلم المتشدّدون المناهضون للولايات المتحدة أنه يجب عليهم التزام الصمت، على الأقل في الوقت الحالي، وانتظار نتيجة المحادثات. لا تُوجَدُ أيُّ علامةٍ على أنهم ينوون تحدّي خامنئي طالما استمرّت المفاوضات. في الوقت الحالي، يُقدّرون أنه على الرُغم من إحباطاتهم، فإنَّ النظام السياسي -الذي اعتمد عليهم منذ العام 1979 – سيتردّد في التخلّي عنهم.
لكنهم يدركون أيضًا أنَّ لديهم أرضيةً محدودةً للوقوف عليها. وكما أقرّ عضوٌ سابقٌ في معسكرهم، كان من المفترض أن تصبح إيران القوة الاقتصادية والعسكرية المهيمنة في المنطقة بحلول العام 2025. وأضاف: “بدلًا من ذلك، الظروف كارثية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي”. سيواصل المعسكر المؤيد للديبلوماسية تصوير المتشددين على أنهم ديناصورات إيديولوجية، إما منفصلون تمامًا عن الواقع أو يستفيدون من العقوبات.
وكما قال الرئيس السابق حسن روحاني، فإنَّ التفاوض ليس استسلامًا، ويجب على النظام إعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية على التنافسات الفئوية في المحادثات مع ترامب. لكن روحاني، كغيره، يعلم أنَّ القوة الحقيقية تكمن في خامنئي والحرس الثوري الإيراني. قد يأملون أن تُثمر المحادثات، لكن لديهم أيضًا خطوطًا حمراء ثابتة في تعاملهم مع الديبلوماسية مع البيت الأبيض في عهد ترامب. في الداخل، من غير المرجح أن تُشكّل نشوة المعسكر المؤيد للديبلوماسية ولا ردة فعل المتشددين الراديكالية مسار المحادثات – على الأقل ليس إذا كان لخامنئي والحرس الثوري الإيراني رأيٌ في الأمر.
- أليكس فاتانكا هو المدير المؤسّس لبرنامج إيران في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. وهو متخصّص في شؤون الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، مع التركيز بشكل خاصّ على إيران..أحدث كتبه هو “معركة آيات الله في إيران: الولايات المتحدة، السياسة الخارجية، والتنافس السياسي منذ العام 1979”. يمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @AlexVatanka
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.