العَواقِبُ الاقتصادية للاستيلاءِ على الدولة: “الأوليغارشيون” يُشَوِّهونَ الأسواقَ ويُفسِدونَ الاقتصاداتَ حَولَ العالم

إذا نجح دونالد ترامب وإيلون ماسك في الاستيلاء على الاقتصاد الأميركي، فلن يُشوِّها الأسواق الأميركية فحسب، بل سيضُرّان باقتصاداتِ العالم أجمع. وبما أنَّ الولايات المتحدة هي أكبرُ اقتصادٍ في العالم ومحوره المالي الرئيس، فإنَّ ما يحدث هناك يتردّدُ صداه في كلِّ مكان.

الشيخة حسينة واجد: استولت على الدولة ودفعت الثمن.

إليزابيث ديفيد باريت*

منذ عودته إلى السلطة، شنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وداعمه ملياردير التكنولوجيا إيلون ماسك، حملةً شرسة على الحكومة. ففي غضون ثلاثة أشهر فقط، قام ماسك بطرد آلاف موظفي الوكالات الحكومية، واستبدال الموظفين المَفصولين بمُوالين، وإلغاء العقود العامة القائمة – بما في ذلك عقود الأعمال المُنجَزة. في غضون ذلك، أقال ترامب المفتّشين العامين بمَن فيهم مدير مكتب الأخلاقيات الحكومي. وقد استولى الرجلان معًا على موارد خصّصها الكونغرس، مُسيئَين استخدام السلطة المالية لإعادة توجيه الأموال نحو أنفسهما وبعيدًا من خصومهما المفترضين. وقد طلبت إدارة ترامب المزيد من أطباق الأقمار الاصطناعية “ستارلينك” التي صنعها ماسك، ووضعت شركات ماسك، التي تُعدّ بالفعل من أكبر عملاء الحكومة، في منافسةٍ على عقودٍ إضافية بمليارات الدولارات. في الوقت نفسه، ألغى ترامب التمويل الحكومي للجامعات وشركات المحاماة التي لا تدعم أجندته.

قد يبدو هذا النوع من الفساد غريبًا على معظم الأميركيين. فلم يسبق في تاريخ الولايات المتحدة الحديث أن تحالفَ رئيسٌ من رجال الأعمال مع أغنى رجل في العالم للسيطرة على الحكومة الفيدرالية. لكن عالميًا، يُعَدُّ هذا جُزءًا من نمطٍ مُقلق. ففي الديموقراطيات المُتعثّرة حول العالم، قامت زُمَرٌ صغيرة من السياسيين ونُخب الأعمال والسياسيين ذوي المصالح التجارية -ما يُطلِق عليه علماء السياسة “البوليغارشيين”- بتشويه الدولة لخدمة مصالحهم. إنَّ هذه التحالفات المُشينة تُغيِّرُ القواعد، وتَطرُدُ البيروقراطيين، وتُسكِتُ المنتقدين، ثم تلتهم موارد البلاد. يستولي السياسيون على البنوك، ويُعيدون صياغة القوانين، ويسيطرون على عقود المشتريات. في غضون ذلك، يُقدم أصدقاؤهم في القطاع الخاص رشاوى وتبرّعات وتغطية إعلامية مُحابية.

هناكَ اسمٌ لهذه العملية: الاستيلاء على الدولة. وقد حدث ذلك في بنغلاديش والمجر وجنوب أفريقيا وسريلانكا وتركيا والعديد من البلدان الأخرى (بما فيها لبنان). قد يصعب تحديد آثارها الاقتصادية بدقة، وغالبًا ما يستغرقُ الأمر سنوات قبل أن تتجلّى بالكامل. لكنها خطيرة. في الاقتصادات المُستَولى عليها، تنقطع العلاقة بين الموهبة والنجاح. يغادر العمال المهرة الذين يفتقرون إلى الصلات السياسية الصحيحة البلاد، وتنهار الشركات الكفؤة. في الوقت نفسه، تنمو الشركات ذات الشبكات الجيدة بدون ابتكار أو تقديم منتجات عالية الجودة (أو، في بعض الأحيان، بدون تقديم أيِّ منتجات على الإطلاق). تتدهور البنية التحتية للبلاد. تَنفُدُ أموالُ البنوك مما يؤدي إلى إقراض الشركات المفضَّلة قروضًا معدومة. والنتيجة هي انخفاض النمو، وقلة الوظائف، وتزايد التفاوت، وارتفاع التضخم.

للأسف، فإنَّ مقاومة الاستيلاء على الدولة وعَكسَ مساره عملية شاقة. فهي تتطلّب من المُبلِغين عن المخالفات (whistleblowers) والصحافيين والناشطين التحدُّث علنًا باستمرار، بدون مكافأة فورية ومع مخاطرة شخصية كبيرة. قد يُؤتي هذا الإصرار ثماره في المدى البعيد: فقد نجحت منظمات المجتمع المدني في بنغلاديش وجنوب أفريقيا وسريلانكا في النهاية في طرد السياسيين الفاسدين. لكن النجاح لا يتحقّق غالبًا إلّا بعد أن يُدمِّرَ “المُستَولون” الاقتصاد باستغلاله بكلِّ ما أوتِيوا من قوة. وعندها، تصبح إعادة الإعمار والبناء بالغة الصعوبة.

فنُّ الاستيلاء والسرقة

في الدول المُستَولى عليها، لا يوجدُ قطاعٌ بمنأى عن التدخّلِ السياسي. لكن البنوك مُعرَّضةٌ للخطر بشكلٍ خاص. فالشركات المالية، في نهاية المطاف، تَمُدُّ الاقتصاد برأس المال وتُسهِّلُ المعاملات، وكلاهما أساسيّ للسرقة. في بنغلاديش، على سبيل المثال، استغلّت رئيسة الوزراء السابقة الشيخة حسينة واجد سيطرتها على البنوك لنهب ما لا يقل عن 17 مليار دولار من البلاد، وفقًا للحكومة المؤقتة في بنغلاديش. وفي ماليزيا، مَوَّلَ رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق مجموعةً متنوعةً من مخططات المحسوبية من خلال توزيع سنداتٍ مدعومة حكوميًا على شركات حليفة من خلال بنك التنمية الحكومي “MDB1”. وبدورها، منحت هذه الشركات تمويلًا لحزب عبد الرزاق. وقد وصل مبلغ 700 مليون دولار إلى حساباته الشخصية. وبدوره، يُجبرُ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان البنوك المملوكة للدولة على زيادة إقراض رؤساء البلديات المحلّيين الذين يدعمونه. ثم يستخدم هؤلاء الرؤساء الأموال للإنفاق على مشاريع تُساعدهم وأردوغان على الفوز في الانتخابات.

يلجأُ السياسيون إلى عددٍ من التدابير للسيطرة على المؤسّسات المالية في البلاد. في تركيا، استخدم أردوغان سلطته التنفيذية لتعيين حلفاء في البنوك المملوكة للدولة. أنشأ نجيب عبد الرازق صندوق التنمية الماليزي (MDB1) من الصفر، ليكون بمثابة إقطاعيته الشخصية. في المجر، استخدم رئيس الوزراء فيكتور أوربان خطةً مُعقّدة تتضمّن شراء وبيع أسهم البنوك بأسعارٍ مُخفّضة لتأمين السيطرة على أكبر شركة مالية خاصة في بلاده. ووفقًا لإحسان منصور، محافظ البنك المركزي في بنغلاديش، قامت الشيخة حسينة بتكليف قوات الاستخبارات العسكرية في البلاد باختطاف وتهديد مديري البنوك وأعضاء مجالس إدارتها لإجبارهم على بيع أسهمهم لأصدقائها من أصحاب النفوذ.

يُمكِنُ أن تكونَ الخسائر الاقتصادية لهذا النوع من الاستحواذ مدمّرة. والأكثر وضوحًا أنه يستنزف مليارات الدولارات من اقتصاد البلاد: على سبيل المثال، استخدم نجيب عبد الرزاق صندوق التنمية الماليزي (MDB1) لنهب 4 مليارات دولار من الدولة الماليزية (أي ما يعادل 1% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد)، وربما تكون الشيخة حسينة قد نهبت ما يصل إلى 30 مليار دولار (أي ما يعادل 7% من الناتج المحلي الإجمالي لبنغلاديش). لكن الاستيلاء على البنوك يُلحِقُ الضررَ بالأسواق بطُرُقٍ أكثر خبثًا أيضًا. لدى البنوك موارد محدودة لتقديمها للشركات، لذا عندما تُقرِضُ بناءً على علاقاتها السياسية، فإنها تُضيّعُ فُرَصَ مَنحِ الائتمان للشركات القوية أو الواعدة. في بعض الأحيان، يَنفُدُ رصيدها من القروض للشركات ذات العلاقات القوية. فيخسر المواطنون العاديون ودائعهم، وتنشأ أزمة مالية. في سريلانكا وتركيا، كانت النتيجة تضخّمًا حادًا، حيث واصلت الحكومة طباعة النقود لتغطية عجز الموازنة. (كما رفضت تركيا رفع أسعار الفائدة، أملًا في تحفيز النمو الاقتصادي المستمر).

بالطبع، لا يقتصر تلاعب الجهات المُستَولية على الدولة على البنوك، بل يُغيّرون أيضًا السياسات والأنظمة والقوانين الاقتصادية الحكومية. في سريلانكا، خفّضت الحكومات بقيادة أفراد من عائلة راجاباكسا، التي هيمنت على البلاد من العام 2005 إلى العام 2022، الرسوم الجمركية على واردات السكر، مما منح شركة تجارية مقربة منها إعفاءً ضريبيًا ضخمًا. وقد نجح الأمر: باعت الشركة مخزونها من السكر المُستَورَد بثمنٍ بخس بأسعار عالية بدون تخفيض، مُحقّقةً أرباحًا طائلة. لكن إيرادات البلاد تضرّرت بشدة، حيث خسرت مبلغًا من المال يعادل 1.3% من عائدات الضرائب في سريلانكا لعام 2021.

في حالاتٍ أخرى، تُعفي الجهات المُستَولية ببساطة الشركات المفضلة من الأنظمة والقوانين. على سبيل المثال، كان الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي وعائلته يمتلكان شركات تستورد سلعًا استهلاكية كالسيارات والإلكترونيات، ولذلك كان ينبغي عليهما دفع رسوم جمركية باهظة. لكن حكومته سمحت للشركات المرتبطة سياسيًا بالتهرُّب من هذه الضرائب من دون عقاب. ونتيجةً لذلك، حققت عائلة بن علي أرباحًا طائلة. في غضون ذلك، اضطرت الشركات التي لا تتمتع بعلاقات إلى الدفع، مما وضعها في وضع غير مؤاتٍ وفاقَمَ عدم المساواة.

هذه الإعفاءات غير قانونية. لكن الجهات المُستَولية على الدولة تحرُصُ على تفكيكِ أيِّ هيئاتٍ قد تُحقّقُ معها أو تتحقّق من جهودها. في جنوب أفريقيا، تعاون الرئيس السابق جاكوب زوما، الذي قاد البلاد من العام 2009 إلى العام 2018، مع أجاي وأتول وراجيش غوبتا -ثلاثة إخوة رجال أعمال- لمحاولة إطاحة مصلحة الإيرادات والضرائب في جنوب أفريقيا. كهيئة، كانت هذه المصلحة تحظى باحترامٍ كبير للتحقيق في التهرّب الضريبي والجرائم المالية، وفي العام 2013، تلقت عائلة غوبتا بلاغًا يفيد بأنها كانت تحت التدقيق. ولكن في العام 2014، عيّن زوما مفوَّضًا مخلصًا قام بتطهير إدارة المصلحة. واستعانَ بمستشارين للتوصية بإعادة هيكلة أدّت إلى تدمير قدرة مصلحة الإيرادات والضرائب على إجراء التحقيقات. وفي الوقت نفسه، وللحد من ردود الفعل السياسية السلبية، استخدم آل غوبتا صحيفتهم ومحطة التلفزيون الخاصة بهم لشنِّ حملة تشويه لتقويض سمعة إدارة مصلحة الإيرادات والضرائب.

بالنسبة إلى زوما وعائلة غوبتا، كانت هذه الجهود ناجحة. تخلّت دائرة الإيرادات الضريبية المتعثّرة عن تحقيقها في شركات عائلة غوبتا. لكن تفكيك المؤسسة أثبت أنه أمرٌ مروّع بالنسبة إلى جنوب أفريقيا. منذ إعادة الهيكلة، لم تحقق دائرة الإيرادات الضريبية أهدافها في تحصيل الإيرادات بشكل كبير، ما أدّى إلى تخفيضات في الإنفاق على البنية التحتية الضرورية للغاية.

سرقةٌ بالطُرُق السريعة

ليست كل عملية تقوم بها الدولة المُستَولى عليها معقّدة. في بعض الأحيان، يسرق الأوليغارشيون من الدولة مباشرةً. على سبيل المثال، عدّل أردوغان قانون المشتريات العامة التركي مرات عدة ليتمكّن شخصيًا من إملاء نتائج العطاءات. ومنذ ذلك الحين، استخدم هذه السلطة لتوجيه أعمال الحكومة إلى خمسة تكتلات، وهي من بين أنجح عشر شركات في العالم في الفوز بالعقود العامة. في المقابل، أمطرت هذه الشركات، التي يمتلك العديد منها وسائل إعلام، الرئيس التركي بتغطية إخبارية إيجابية، وتبرعت للجمعيات الخيرية التي يديرها حزبه، وضغطت على موظفيها للتصويت لأردوغان.

تُقدّمُ جنوب أفريقيا مثالًا آخر على ذلك. في عهد زوما، فاز الإخوان غوبتا بعقودٍ متتالية، واستغلوا علاقاتهم للحصول على عمولات من شركات أخرى. بَدَؤوا بشركة كمبيوتر صغيرة، وسرعان ما امتلكا شركةً بمليارات الدولارات، تعمل في قطاعاتٍ متنوّعة، مثل الألبان والاستشارات الإدارية والفحم. مارسوا نفوذًا هائلًا على حكومة زوما، فاختاروا الشخصيات التي عيّنها في مناصب وزارية رئيسة، وقادة الشركات المملوكة للدولة. بدورهم، ضخّ آل غوبتا الأموال في جيب زوما، وضخّوا دعايةً مؤيدةً له.

الفساد بهذا الشكل يُعيق النمو أكثر. في الاقتصاد السليم، تتنافس الشركات على الجودة والسعر. أما في الاقتصادات التي تُسيطر عليها الشركات، فتنجح ببناء علاقات صحيحة بطريقة سهلة الأمر الذي يُقلل من حافزها للابتكار أو الكفاءة. بعضُ أفضل الشركات تخسر لمجرد افتقارها إلى الشبكات المناسبة. لا يُكلّفُ روّاد الأعمال الطموحون أنفسهم عناء بدء أعمال تجارية. يغادر العديد من العمال المهرة البلاد بحثًا عن أسواق تُكافأ فيها المواهب، وليس القرب من السلطة. في هذه الأثناء، تُبالغ الشركات المُفضلة في الأسعار وتُقلل من الوفاء بالوعود. في المقابل، ينخفض ​​الناتج الاقتصادي. وتتدهور جودة الحياة. وفي بعض الأحيان، يفقد الناس حياتهم. ووفقًا لدراسات متعددة، كان زلزال تركيا في العام 2023 أقل فتكًا لو كانت البنية التحتية للبلاد أفضل. لكنها لم تكن كذلك – لأنَّ أردوغان حمى شركات البناء التي بنتها من المنافسة والرقابة.

يُقدّمُ الاستيلاء على شركة الكهرباء الحكومية في جنوب إفريقيا، “إسكوم”، مثالًا واضحًا آخر على كيفية تسبُّب الفساد في الضرر. كانت “إسكوم” ذات يوم نجمةً في قطاعها؛ تمَّ التصويت لها كشركة الطاقة الرائدة في العالم في جوائز فايننشال تايمز العالمية للطاقة لعام 2001. واجهت مهمة كبيرة في التسعينيات الفائتة والسنوات الأولى من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين: الحفاظ على معاييرها مع تمديد الكهرباء إلى نصف الأسر في جنوب إفريقيا التي لم تكن لديها إمكانية الوصول إليها في ظل نظام الفصل العنصري. لكن نفوذ عائلة غوبتا أدى إلى تفاقم تحديات “إسكوم” بشكلٍ كبير. في عهد زوما، اضطرّت “إسكوم” إلى شراء الفحم من عائلة غوبتا بدلًا من السوق المفتوحة. وبالتالي، كان آل غوبتا أحرارًا في إصدار فواتير بأسعار باهظة وتقديم مُنتَجٍ رديء الجودة. حقق الإخوان غوبتا ثروة، لكن “إسكوم” تكافح الآن لتوفير الطاقة لجنوب إفريقيا، حيث يجب على سكانها أن يتعاملوا مع انقطاع التيار الكهربائي اليومي. ووفقًا لتقديرات وزارة الخزانة في جنوب إفريقيا، فإنَّ الإخفاقات في “إسكوم” وشركة أخرى مملوكة للدولة، وهي شركة تشغيل السكك الحديدية “ترانسنت”، قد أدت إلى تقليص اقتصاد جنوب إفريقيا بنحو 30 في المئة على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية.

في نهاية المطاف، تُسبب هذه المشاكل الاقتصادية مشاكل للمُتَولين على الدولة. ففي النهاية، لا يُمكنهم سرقتها إلّا بقدرٍ محدود من المال. لكن نادرًا ما يُغيّرُ “البوليغاريون” مسارهم مع انهيار الأسواق. بدلًا، يسوقون الاقتصاد نحو الانهيار، ويسرقون منه حتى ينهار. ففي سريلانكا، على سبيل المثال، أدت سرقة عائلة راجاباكسا إلى ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 114% في العام 2022، ما أدّى إلى أزمة في ميزان المدفوعات تسبّبت في نقصٍ مزمن في الوقود والغذاء والدواء. وبلغ التضخم 49%. لكن الرئيس غوتابايا راجاباكسا وشقيقه، الذي شغل منصب رئيس الوزراء، حافظا على الإعفاءات الضريبية للمقرَّبين. وفرضا ضوابط على شراء العملات الأجنبية، لكنهما منحا الأصدقاء استمرار الوصول إلى الدولار. كان بإمكانهما التخلُّف عن السداد وطلب خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، وهو ما كان سيسمح للمواطنين السريلانكيين العاديين شراء السلع الأساسية مرة أخرى. لكنهما بدلًا من ذلك، استمرّا في سداد السندات، التي كانت مملوكة لشركاتهما التابعة. (على أيِّ حال، تخلّفت سريلانكا في النهاية عن سداد ديونها).

لا حلَّ سهلًا

إذا لم يحكموا بأنظمة استبدادية كاملة، فإنّ “البوليغارشيين” مضطرّون إلى التعامل مع معارضة. حتى الديموقراطيات المُعيبة لديها مؤسّساتٌ تسعى إلى محاسبة السلطة التنفيذية. تُبطِلُ المحاكم القرارات غير القانونية، وتكشفُ هيئات التدقيق عن الاحتيال، ويكشفُ الصحافيون عن صفقاتٍ فاسدة. يُخاطر الشجعان بكلِّ شيءٍ للكشف عن سوء السلوك. أحيانًا، ينزلون إلى الشوارع احتجاجًا. لكن القادة المُستبدين يُواصلون الضغط بغضِّ النظر، وعادةً ما ينجحون في التهرُّب من المُساءلة. فالسيطرة على الدولة، في نهاية المطاف، تضمن فعليًا أن يكونَ أقوى الأشخاص في البلاد هم المُستبدّين. فهم يمتلكون أكبر قدر من المال والسيطرة على الجهاز السياسي. (ولبنان أكبر مثال).

لكن أحيانًا، تنجحُ المعارضة. ففي نهاية المطاف، أُطيحَ بحسينة وراجاباكسا وزوما من مناصبهم. لكن في كثيرٍ من الأحيان، لا يُطَردُ المُستَولون على السلطة إلّا بعد أن يمرَّ الاقتصاد بأزمةٍ عميقة. في سريلانكا، استغرق الأمر شهورًا من نقص السلع وارتفاع الأسعار قبل أن يتمكّن المتظاهرون من إطاحة آل راجاباكسا. وفي بنغلاديش، أطاح المتظاهرون حسينة بعد محاولتها تخصيص المزيد من الوظائف الحكومية لحلفائها. ولكن بحلول ذلك الوقت، كان اقتصاد البلاد قد تضرر بشدة. واليوم، يوشك النظام المصرفي على الانهيار، حيث يعجز الناس عن سحب ودائعهم وبالتالي شراء حتى السلع الأساسية.

يصعب على الدول التعافي من هذا الضرر الجسيم. ويكافح القادة الجُدُد لسدِّ الفجوات الاقتصادية الهائلة التي خلّفتها الأصول المسروقة لأنَّ اقتصاداتهم المدمَّرة تفتقر إلى قاعدةٍ ضريبية واضحة. والنظام المالي في حالة يرثى لها، لذا فهم يجدون صعوبة في الاقتراض أيضًا. ويمكنهم ملاحقة البوليغارشيين الذين يسيطرون على معظم هذه الثروة المسروقة. ولكن في كثير من الأحيان، تعيش هذه النخب الآن في الخارج. أما مَن تبقّى فقد خبّأ أصوله في الخارج، مما يُصعّب على الدولة تحصيل ديونها.

إن إعادة بناء مؤسسات الدولة أكثر صعوبة. قد يرغب القادة الجدد في تطهير الجهاز البيروقراطي، لكن عمليات الفصل الجماعي ستبدو أشبه بمعاملة بالمثل، وستؤدي إلى استنزاف المؤسسات من الموظفين اللازمين. نتيجةً لذلك، يتعيّن على القادة اتباع نهج بطيء وثابت لإعادة البناء – وهو ما يعني، لفترة من الوقت، الاستمرار في دفع رواتب المسؤولين الفاسدين. وبالمثل، لتجنُّب المزيد من الدمار، تجدُ الحكومات الجديدة نفسها مضطرّة للاستمرار في دفع رواتب الشركات الفاسدة. تحتاج المجتمعات إلى موارد مُعَيَّنة -الغذاء والماء والكهرباء والدواء- وبعد سنوات من الإستيلاء، يستغرق الأمر وقتًا للعثور على مورّدين غير الشركات القائمة. قبل دخول الشركات الجديدة إلى السوق، يجب إقناعها بأنَّ المناقصات لم تَعُد مزوّرة، وبالتالي فإنَّ الأمر يستحقُّ وقتها للتقدم بعطاءات للحصول على عقود.

إنَّ أفضلَ طريقةٍ لمعالجة مسألة الاستيلاء على الدولة هي تجنّبها منذ البداية. لكن لسوءِ حظِّ الأميركيين، فإنَّ استيلاء ترامب وماسك على السلطة جارٍ على قدمٍ وساق. مرّت سنوات قبل أن يمنح زوما آل غوبتا حق الوصول الكامل إلى إدارته؛ بينما منحه ترامب لماسك في أول يوم له في منصبه. لقد فقدت البيروقراطية الأميركية بالفعل آلاف الموظفين، وآلاف آخرون مُعرّضون للخطر. يقود الآن موالون لترامب هيئات تنظيمية بالغة الأهمية، بما في ذلك لجنة الاتصالات الفيدرالية ولجنة التجارة الفيدرالية. لم تُدمَّر مصلحة الضرائب الداخلية بعد كما حدث مع مصلحة الإيرادات الضريبية في جنوب أفريقيا، لكن ترامب وماسك أوضحا أن هذه الوكالة في مرمى نيرانهما. وكذلك مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي). وقد عَيَّنَ ترامب في مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل أشخاصًا مفضَّلين ومؤيدين له يأمل منهم أن يلاحقوا أعداءه.

إذا نجح ترامب وماسك في الاستيلاء على الاقتصاد الأميركي، فلن يُشوّها الأسواق الأميركية فحسب، بل سيضرّان باقتصادات العالم أجمع. وبما أنَّ الولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في العالم ومحوره المالي الرئيس، فإنَّ ما يحدث هناك يتردد صداه في كل مكان. ولطالما كانت واشنطن القوة الأقوى في العالم في مجال الحوكمة الرشيدة، حيث مارست الضغط على النُخَب الفاسدة في أماكن أخرى وعاقبتها. لكن ترامب قرر تعليق تطبيق قانون ممارسات الفساد الأجنبية والتراجع عن متطلبات شفافية الشركات. بعبارة أخرى، لا تتخلى الولايات المتحدة عن دورها التاريخي كشرطي عالمي للحوكمة الرشيدة فحسب، بل إنها تُغيّرُ مواقفها وتصبح زعيمة عصابة. إنها تتحوّل إلى نموذجٍ يُحتذى به من نوعٍ مختلف تمامًا.

  • إليزابيث ديفيد-باريت هي أستاذة الحوكمة والنزاهة ومديرة مركز دراسات الفساد في جامعة ساسكس البريطانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى