واشنطن والنووي الايراني

الدكتور ناصيف حتّي*

جملةٌ من الأسئلة والتساؤلات تُطرَحُ اليوم بشأنِ المسار المستقبلي لعلاقات المواجهة المُتَعَدِّدة الأوجه والأَشكَال بين واشنطن وطهران، والسيناريوات المُحتَملة وانعكاساتها في ظلِّ التغييرات الحاصلة في المنطقة، وخصوصًا في “المشرق العربي”. حربُ غزة والدخول العربي والدولي على خط التهدئة، والتسوية غير المعروفة طبيعتها بَعد، أضعفا بقوة الدور الإيراني. وهذا ما أصابه أيضًا عبر حرب الإسناد من الجبهة اللبنانية وانعكاساتها السلبية على حلفاء طهران بعد التغيُّر الذي أصابَ ميزان القوى والذي لم يكن بالطبع لمصلحة هؤلاء مقارنةً مع الوضع الذي كان سائدًا من قبل. أما الخسارة الاستراتيجية الكبرى فتمثّلت بخسارة سوريا التي كانت القاعدة الاستراتيجية الأساسية لإيران من حيث ثقلها وموقعها في الجغرافيا السياسية في المشرق العربي. ولا بُدَّ من التذكير أيضًا أنَّ العراق اليوم يتبع سياسة متوازنة وواقعية في علاقاته الخارجية مُقارنةً مع السنوات الماضية .

السياسة الأميركية مع إدارة دونالد ترامب تقومُ على مفهومِ “الضغط الأقصى” على إيران بشكلٍ خاص وعلى حلفائها. يَظهَرُ ذلك جليًّا في العمليات العسكرية الأميركية ضد الحوثيين في اليمن، بهدفِ شلِّ الدور الذي يقومون به لمصلحة إيران في المواجهة غير المباشرة التي أشرنا إليها، من خلال تهديدِ وتعطيلِ الملاحة في البحر الأحمر بما يمثّله هذا الممرّ من أهمّيةٍ استراتيجية اقتصادية لأطرافٍ دولية وإقليمية عديدة. وقد ظهرَ ذلك في السابق مع خروج الولايات  المتحدة من الاتفاق النووي (المعروف ب”خطة العمل الشاملة المشتركة” أو باتفاق ٥ زائد ١) في العام ٢٠١٨ في ظلِّ إدارة ترامب الأولى. تعتبرُ واشنطن أنَّ التطوُّرات التي أشرنا إليها تصبُّ في مصلحتها بدرجاتٍ مختلفة في المواجهة المُتصاعدة مع طهران.

ومن نافل القول أنه رُغمَ الخسائر  التي مُنيت بها إيران، كما أشرنا، لكنها تبقى قوةً إقليمية رئيسة في المنطقة تمتلك أسوةً بالقوى الإقليمية الأُخرى أوراقَ تأثيرٍ فاعلة، ولو ضعفَ بعضها أو خسر بعضُها الآخر. صحيحٌ أنَّ عنوانَ المواجهة الأميركية الإيرانية يتمثّلُ بالملفّ النووي، ولكن هناك ملفّات أخرى في المواجهة القائمة منها طبيعة الدور الإيراني في المنطقة، والسياسات التي يقوم بها ذلك الدور، وأيضًا موضوع الصواريخ البالستية الإيرانية. والمثيرُ للاهتمامِ أنَّ كلًّا من الطرفين لا يريد العودة إلى الاتفاق السابق المُشار إليه. واشنطن ترامب كانت أعلنت عن ذلك وتؤكّدُ عليه كل يوم فيما طهران، التي وصلت في تخصيب اليورانيوم إلى درجةٍ تفوق بقليل الستين في المئة، لا تريدُ العودة إلى الاتفاق الذي يُقيّدُ التخصيب بدرجة لا تتعدّى الأربعة في المئة تقريبًا.

الواقع أنَّ إيران، حسب تقارير عدة متطابقة، اقتربت من الوصول إلى ما يُعرَفُ بالعتبة النووية أو قدرة إنتاج رؤوس نووية، والتي تعني وصول نسبة التخصيب إلى تسعين في المئة، وبالتالي امتلاك القدرة لدخول “النادي النووي”. الأمر الذي يُعتَبرُ بمثابة خطٍّ أحمر لإسرائيل التي تقوم استراتيجيتها النووية على كونها القوة النووية الوحيدة في المنطقة، ولا تسمح بوجود قوة نووية إقليمية أُخرى. وبالطبع هناك دعمٌ أميركي كلّي لهذا الموقف. رسائل  مباشرة وغير مباشرة تتبادلها واشنطن وطهران لبناء جسور الثقة والحوار عبر أطرافٍ إقليمية ودولية. ولكن لم يحدث أيُّ اختراقٍ فعلي حتى الآن يسمحُ بولوجِ باب المفاوضات بشكلٍ مباشر حول السقف النووي عند إيران الذي يُمكن القبول به أميركيًا.

البعضُ يعتبرُ أنَّ هناكَ سباقًا مع الوقت. كل جانب يُريدُ، عبر عددٍ من الأوراق التي يملكها أو يُحاولُ الحصولَ عليها، تحقيقَ موقفٍ أفضل في التفاوض لفرضِ شروطه، ولكن ما زلنا بعيدين من ذلك.

البعضُ الآخر يعتقدُ أنَّ سياسةَ شراءِ الوقت وتصريحاتِ التهدئة والطمأنة وحسن النوايا،على قلّتها، التي تَصدُرُ من هنا وهناك قادرة ربما للتوصُّل، بمساعدة أطرافٍ إقليمية ودولية، إلى تسويةٍ مقبولة يُمكِنُ أن تُشَكِّلَ الأسُسَ لاتفاقٍ جديد.

سيناريو آخر يبقى مطروحًا وقوامه قيام إسرائيل بهجومٍ ضمن خطوطٍ حمر أميركية، وبدعمٍ من واشنطن، يكونُ بمثابةِ ضربةٍ اجتثاثية واستباقية لقيامِ أيِّ قدرةٍ نووية عسكرية إيرانية تسمحُ لإيران بدخول النادي النووي.

كلُّها سيناريوات على “طاولة” الشرق الأوسط الذي هو في طور إعادة التشكّل مع التطوُّرات التي حصلت وأشرنا إليها، ومع التطوّرات المحتملة في تداعياتها المختلفة والتي قد تنتجُ عن النقاط الساخنة وتلك  المُشتعلة في الإقليم .

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى