الشرقُ الأوسط: الهزّاتُ الارتِدادِيَّةُ المُقبِلة

على الرُغمِ من أنَّ الإدارات الأميركية المُتعاقبة منذ باراك أوباما كانت تُريدُ الإنسحاب من الشرق الأوسط، فإنَّ إدارة دونالد ترامب ستجدُ صعوبةً في الانسحاب من منطقةٍ لا تزالُ في طورِ إعادةِ التشكيل بسببِ آثارِ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

الحوثيون: هل تستطيع إسرائيل تدميرهم كما فعلت مع “حماس” و”حزب الله”؟

رافائيل كوهين*

أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2023، أجريتُ مُقابلةً مع مسؤولِ استخباراتٍ إسرائيلي كبير مُتقاعِد حولَ هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 والديناميكيات المُتَغيِّرة بسرعة في الشرق الأوسط. قال في حينه أنَّ السابعَ من تشرين الأول (أكتوبر) “كان زلزالًا، وستتعامل المنطقة بأكملها مع هزّاتٍ ارتدادية لبعضِ الوقت”.

وبينما لم يتنبّأ بمكانِ حدوث هذه الهزّات الارتدادية، فقد ثبت أنَّ توقّعاته الشاملة للهزّات العميقة كانت واضحة بشكلٍ ملحوظ. بعدَ أكثر من عامٍ بقليل، تمَّ تدميرُ “حماس” كقوّةٍ مقاتلة، واغتيل كبار قادتها؛ وتعرّض “حزب الله” لإصاباتٍ خطيرة، وقُتِلَ زعيمه الأبرز السيد حسن نصر الله ومعظم قياداته العليا؛ وانهارَ نظام الأسد في سوريا، وهربَ دِكتاتورها بشّار إلى روسيا. والواقع أنَّ المشهدَ الجيوسياسي في الشرق الأوسط قد تحوّلَ نتيجةً لهذه الهزّات الارتدادية.

لكن مع وقفِ إطلاق النار في لبنان، واحتمالاتِ التوصُّل إلى وقفٍ لإطلاق النار في غزة، وانشغالِ الزعماء الجدد في سوريا بتعزيز سلطتهم في البلاد، فإنَّ السؤالَ اليوم هو ما إذا كانت الهزّات الارتدادية التي حدثت بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت قد اقتربت من نهايتها أخيرًا. في نهاية المطاف، تعهّدَ الرئيس الأميركي المُنتَخَب دونالد ترامب “بالتخلُّص من الحروب” بسرعة، حتى قبل تولّيه منصبه، كما أشارَ كبارُ المسؤولين الدفاعيين الجُدد  في واشنطن إلى رغبتهم في إعادة توجيه الولايات المتحدة نحو منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. لكن في الممارسة العملية، قد يكون الانسحاب من الشرق الأوسط أكثر صعوبةً مما يتوقّعونه. ومع تَوَجُّهِ المنطقة إلى العام 2025، فمن المؤكّد أنَّ الهزّات الارتدادية ستستمرّ، مما يُهدّدُ المصالح الأميركية لبعضِ الوقت في المستقبل.

من المرجح أن تكون الهزّة الأولى بدأت بالفعل في اليمن. منذ أكثر من عام، استغلَّ الحوثيون الشحنَ الدولي في البحر الأحمر، على الرُغم من جهودِ التحالُف الذي تقوده الولايات المتحدة لوقف هجماتهم. ولكن على مدى الأسابيع القليلة الماضية، كَثّفَ الحوثيون استهدافهم لإسرائيل، فأطلقوا أكثر من 200 صاروخ و170 غارة بطائراتٍ مُسيَّرة. وفي حين نجحت إسرائيل والولايات المتحدة في صدِّ معظم هذه الهجمات، فإنَّ حركة الحوثي تُنفّذها بوتيرةٍ متزايدة، الأمر الذي يزيد الضغوط على الحكومة الإسرائيلية لشَنِّ ردٍّ أكثر قوة. ومن غير المُستَغرَب أن تضربَ الطائرات الحربية الإسرائيلية الموانئ اليمنية والبنية الأساسية الأخرى في محاولةٍ لردعِ المزيد من هجمات الصواريخ الحوثية. لكن يبدو أنَّ الحوثيين غير خائفين من الانتقام الإسرائيلي، كما إنَّ القادة الإسرائيليين لا يتراجعون. فقد تعهّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أخيرًا بأنَّ “الحوثيين سوف يتعلّمون أيضًا ما تعلّمته “حماس” و”حزب الله” ونظام الأسد وغيرها”.

إنَّ مثلَ هذا الخطاب العدواني سوف يتحوَّلُ بسرعةٍ إلى واقعٍ عسكري. فخلال الحرب الأهلية اليمنية، صمدَ الحوثيون في وَجهِ حملةٍ جوية استمرّت لسنوات بقيادة المملكة العربية السعودية. واليمن تبعدُ أكثر من 1300 ميل عن إسرائيل، مما يجعلُ الحملة الجوية المُستَدامة أكثر تعقيدًا من الناحية اللوجستية بالنسبة إلى الدولة العبرية مُقارنةً بغزّة أو لبنان المجاورَين. والأمرُ الأكثر أهمّية هو أنَّ إسرائيل تعتبر “حزب الله” عدوّها الأساسي منذ العام 2006 على الأقل، وقضت أكثر من عقد في الاستعداد لمحاربته. وقد أثمرَ هذا الاستعداد، كما تشهدُ على ذلك الهجمات الدرامية التي شنتها إسرائيل من طريق التسلّل الدقيق لسلسلة توريد أجهزة الاتصال اللاسلكي وأجهزة النداء التابعة ل”حزب الله”. وعلى النقيض من ذلك، لم تنظر إسرائيل إلى الحوثيين باعتبارهم تهديدًا وشيكًا حتى وقتٍ قريب ــ ومن المفترض الآن أنَّ لديها عددًا أقل من الحيل في جعبتها. وقد لا تكون الحملة ضد الحوثيين سريعة أو مذهلة مثلما تمَّ مع “حزب الله”.

ولكن مجرَّد أنَّ إسرائيل تواجه صعوبات أطول في حملتها لتدمير الحوثيين لا يعني أنها لن تحاول. الواقع أنَّ الضربات المُتجدّدة سوف تُدمّرُ على الفور الكثير مما تبقّى من البنية الأساسية المُدمَّرة في اليمن. وقد ركزت الضربات الجوية الإسرائيلية حتى الآن على الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون في الحديدة والصليف ورأس قنتيب، فضلًا عن مطار صنعاء الدولي، وكل هذا في محاولة لقطع إمدادات الأسلحة الإيرانية إلى الجماعة. كما تعهّدت إسرائيل باستهداف قيادة الحوثيين، وهي الخطوة التي تجنّبتها كلُّ من إسرائيل والولايات المتحدة حتى الآن. وإذا نجحت هذه الجهود، فقد يتمُّ تقليصُ القدرات العسكرية الحوثية في نهاية المطاف، وإن لم يتم القضاء عليها بالكامل. لكن في الأمد القريب، يُدركُ بعضُ المحللين الإسرائيليين أنَّ إسرائيل سوف تحتاج إلى مساعدة الولايات المتحدة في مواجهة الصواريخ والطائرات المُسَيَّرة الحوثية، وسوف يحتاج الشحن الدولي إلى الاعتماد على التحالف البحري الذي تقوده واشنطن لضمان المرور الآمن عبر البحر الأحمر.

في الوقت نفسه، قد يُخلّفُ تَجَدُّدُ العمل العسكري آثارًا متتالية في مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية. في العام 2020، قدرت الأمم المتحدة أنَّ 70% من إجمالي واردات اليمن و80% من إجمالي المساعدات الإنسانية ــبما في ذلك قدر كبير من الغذاءــ تتدفّقُ عبر الموانئ نفسها التي تتدفّقُ منها الأسلحة الإيرانية. وبالنظر إلى أنَّ نحو 21 مليون يمني ــثُلثا إجمالي سكان البلاد ــ يعتمدون على هذه المساعدات، فإنَّ قطعَ تدفّقات الأسلحة الإيرانية قد يعني أيضًا زعزعة استقرار الوضع الإنساني الهشّ أصلًا. وحتى إذا لم تتأثّر إدارةُ ترامب بالمحنة الإنسانية، فإنها ستظلُّ بحاجةٍ إلى النظر في احتمالات امتداد الصراعات في اليمن إلى المملكة العربية السعودية المجاورة، وبالتالي تهديد إمدادات الطاقة العالمية.

إذا كانّ الحوثيون يُمثّلون إحدى الهزّات الارتدادية، فإنَّ إيران تُمثّلُ هزّة أخرى ــ وربما أكثر خطورة. خاضت إسرائيل والجمهورية الإسلامية حربًا خفيّة لفترةٍ طويلة، ولكن بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، اندلعت هذه الحرب في العلن. بالإضافة إلى تسليحِ مجموعةٍ من الجماعات بالوكالة، بما فيها “حماس” و”حزب الله” و”حركة الحوثيين”، شنّت إيران مرّتين هجمات صاروخية وبطائراتٍ مُسَيَّرة على إسرائيل مباشرة، وضربت إسرائيل منشآت عسكرية في إيران في المقابل. والواقع أنَّ المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية ــفي سلسلةٍ من المقابلات من تشرين الثاني (نوفمبر) 2024ــ تُصَوِّرُ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) والحروب التي تلته على أنها حربٌ كبرى واحدة ضد إيران، حيث أصبحت “حماس” و”حزب الله” والحوثيون مجرّد بيادق في الصدام الأكبر مع نظام طهران.

من جهتها، شهدت إيران عامًا كارثيًا حيث عانى وكيلٌ تلوَ الآخر من الهزائم وجرّدتها الغارات الجوية الإسرائيلية من بعض أكثر دفاعاتها الجوية تقدُّمًا. لكن إيران الضعيفة ليست أقل خطورة في بعض النواحي. فقد استجابت طهران لما تراه على أنه وضعٌ أمني متدهور من خلال مضاعفة جهودها في برنامجها النووي. وهذا يضعها على مسار تصادُمٍ ليس فقط مع إسرائيل، بل وأيضًا مع الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى. في حين أشارت إدارة ترامب إلى العودة إلى حملة الضغط القصوى من خلال العقوبات ضد إيران، فإنَّ نظام الملالي قد يكون على بُعدِ أسابيع قليلة فقط من امتلاك القنبلة، مما يثير التساؤل حول ما إذا كانت العقوبات يمكن أن تعمل بالسرعة الكافية لمنع اندلاعِ حربٍ نووية.

لكن في الوقت نفسه، لا تزالُ هناكَ خطوطُ صدعٍ إقليمية أخرى تتعالى أصواتها بهدوء ولكن بصوتٍ مسموع. لا يزال الوضعُ السوري بعيدًا من الاستقرار، مع احتمالِ تجدُّد التوتّر الطائفي. وعلى طول ساحل البحر الأبيض المتوسط ​​وفي دمشق، احتجّ أعضاء الأقلية العلوية على حُكمِ الأغلبية العربية السنّية، ويشتبك حكام سوريا الجدد مع عناصر النظام السابق. وفي شمال سوريا، اشتدت حدة القتال بين القوات المدعومة من تركيا والأكراد، ويُهدّدُ الصراع التركي-الكردي المُتجدّد بالانتقال إلى العراق.

وإذا لم يكن قتالُ تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، لحلفاء الولايات المتحدة الأكراد كافيًا لإبقاء واشنطن متورّطة، فإنَّ “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي يهيمن عليها الأكراد لا تزال تحتجز الآلاف من سجناء تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وإذا تم إطلاق سراحهم، فإن صفوف تنظيم “داعش” سوف تتضخّم. وسوف يُشكّلُ هذا مشكلةً فورية للعراق والأردن وبقية المنطقة، ولكن نظرًا لطبيعة الجماعة كمنظّمة إرهابية عالمية، فإنَّ ظهورها مُجَدَّدًا سوف يُشكّلُ في نهاية المطاف مشكلةً للولايات المتحدة أيضًا.

إن هذا الأمر سوف يُشكّلُ تحدّيًا أساسيًا قد تواجهه الإدارة الأميركية المقبلة. فمثل إدارة ترامب الأولى ــوإدارتَي باراك أوباما وجو بايدن، في هذا الصدد ــ يُريدُ الفريق المقبل الخروج من الشرق الأوسط. ولكنَّ الخروجَ له ثمن وعواقب. فتَركُ وضع الحوثيين من دون معالجة يُهدّدُ بهجماتٍ مستمرة في أحد أكثر الممرات البحرية ازدحامًا في العالم، وهطول الصواريخ على تل أبيب، واحتمال انتشار العنف إلى المملكة العربية السعودية. كما إنَّ تجاهُلَ مشكلة إيران يُهدّدُ بالسماح لدولةٍ تُنَصِّبُ رئيسها على هتافات “الموت لأميركا” و”الموت لإسرائيل” بامتلاكِ أسلحةٍ نووية، ناهيك عن إثارة المزيد من الانتشار النووي في الشرق الأوسط المُتَقَلِّب. والانسحاب الكامل من سوريا يُهدّد بعودة تنظيم “الدولة الإسلامية” والإرهاب الجهادي.

هذه هي المشكلة مع الزلازل والهزات الارتدادية: في أفضل الأحوال، يُمكنك الاستفادة من الدمار لبناءِ شيءٍ أفضل في أعقابِ الكارثة، أو يمكنك ببساطة محاولة التخفيف من ضررها. يمكنك حتى تجاهُل آثارها بالكامل وقبول العواقب. ولكن في نهاية المطاف، لا يمكنك منع حدوث الهزّات.

وينطبق الشيءُ نفسه على سياسة إدارة ترامب المقبلة في الشرق الأوسط. مثل سابقاتها، يمكنها اختيار كيفية الاستجابة للاضطرابات المستمرة في الشرق الأوسط -بفعالية أكبر أو أقل- لكنها لا تستطيع إنهاء الاضطرابات بمرسومٍ رئاسي أكثر من قدرة تعويذة على إيقاف زلزال.

  • رافائيل كوهين هو مدير برنامج الاستراتيجية والعقيدة في مشروع القوات الجوية التابع لمؤسسة “راند” الأميركية.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مغ صدوره بالإنكليزية في “فورِن بوليسي” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى