لَحظَةُ ترامب في لبنان

محمّد قوّاص*

قوّةٌ قاهرة أجبرت رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على القبول باتفاقِ وَقفِ إطلاق النار في لبنان. بدا، على الرُغمِ من تسويقه للاتفاق بأنّهُ نصرٌ إسرائيليٌّ كامل، وعلى الرُغمِ مما واجهه قراره من مُعارضةٍ شَرِسة من داخل حكومته وخارجها، أنه يخضع، أخيرًا، ولأوّلِ مرّة، لضغوطٍ جادة مصدرها واشنطن. ظهرَ من جديد أنَّ الولايات المتحدة حين تَفرُضُ إرادةً على حليفتها المُدلّلة، فإنَّ إسرائيل، كما في تجارب تاريخية سابقة تخضعُ وتستجيب.
أدركَ نتنياهو سقفَ حدوده في حرب لبنان وهو الذي لم يُدرِكها حتى الآن في حربِ غرّة. أدركَ أيضًا أنَّ طموحاته التغييرية الكبرى للشرق الأوسط تبقى أسيرةَ الاستهلاكِ المحلّي طالما أنها لا تحظى بالرعاية والدعم من حاضنة إسرائيل الغربية التاريخية، وبأنَّ ما أباحته هذه الحاضنة في غزّة كرَدِّ فعلٍ على عملية “طوفان الأقصى”، لم تسمح به في لبنان. فالبلدُ جُزءٌ من توازُنات المنطقة تتقاطَعُ داخله مصالح لعواصم نافذة، وهي مصالح تكاد تكون غائبة في الحالة الغزّية.
قد تكونُ الإشارات الصادمة التي أرسلتها المحكمة الجنائية الدولية بإصدارها مذكّرات توقيف ضد نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي المقال، يوآف غالانت، وفّرت مناخًا جديدًا لم تعرفه إسرائيل المُنتَشية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 بهستيريا دولية داعمة لإسرائيل، مُتعاطِفة مع مصابها، مؤيدةً ليدها الغليظة الضاربة انتقامًا. تَغيّرَ ذلك المزاج، وبدا أنَّ على نتنياهو أن يستخلصَ عِبره فَهمَ قرارٍ دولي بوقف الحرب في لبنان.
لكنَّ القوّة القاهرة تأتي من مكانٍ آخر. بات مُسَلّمًا أنَّ اضطرارَ نتنياهو إلى القبول بوقف إطلاق النار في لبنان، بعدَ تَمَكُّنه من التملُّصِ من الضغوط الدولية التي مورست عليه لإبرامِ صفقاتٍ في غزّة خلال أكثر من عام، سببه استنتاجه تبدّل المزاج الأميركي، وتبلُّغه إشارات ضاغطة من قبل إدارة الرئيس الديموقراطي جو بايدن، كما الإدارة المقبلة للرئيس الجمهوري المنتخب، دونالد ترامب، بشأن تقاطعهما الحاسم لوقف الحرب على لبنان.
لا يُحب نتنياهو بايدن. لا يحب نائبته، كامالا هاريس. كما لم يحب قبل ذلك باراك أوباما. لم يتردّد، نكايةً ونكدًا، في استفزازهم جميعا في عقر دارهم مُتدثرًا بخيمة الكونغرس الدافئة. عَوّلَ كثيرًا على عودة صديقه وحليفه، ترامب، من جديد إلى البيت الأبيض، مُتطلّعًا أن يكونَ داعمًا لاستمرار حروب، يعد بها تغييرية في الشرق الأوسط، تُبقيه في الحكم وتُبعِدُ عنه حمى المحاكم. وحين أطلَّ ترامب على الرئاسة في بلاده تَهَيّبَ نتنياهو فرحةً واستفاقَ على واقعها.
بتخوّف نتنياهو من النسخة الجديدة من ترامب في البيت الأبيض. كان الرئيس المنتخب سلّفَ إسرائيل مواقف داعمة في ولايته الأولى سواء في الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وضمّ الجولان إليها، أم في رعايته لـ “صفقة القرن”، أم في دفعه بالاتفاقات الإبراهيمية. زاد على ذلك أخيرًا اعتباره أنَّ إسرائيل صغيرة الحجم ويُفكّرُ في توسيع مساحتها. بدا الرجل في فائض ذلك الدعم مُمتلكًا لأدوات الضغط على إسرائيل وعدم تحمّله مُعاندة نتنياهو لخططه في الشرق الأوسط.
جاء المبعوث الرئاسي الأميركي، آموس هوكستين، هذه المرة إلى لبنان وإسرائيل مُتسلّحًا بكونه مُمثلًا شخصيًا لبايدن، مُتَحصّنا بدعم ترامب. فهم نتنياهو هذا المُتغيّر. كان كشف فخورًا أنه تواصل مرات عدة مع ترامب منذ انتخابه من دون أن يكشفَ أن الرئيس المقبل أبلغه قرارًا بحتمية إنهاء الحرب في لبنان. تعهّدَ ترامب بذلك أثناء حملته الانتخابية، ناهيك من أن حوافز أخرى تدفع بهذا القرار، منذ زواج ابنته من لبناني بما جعل من لبنان قضية عائلية أيضًا.
وَضعَ نتنياهو لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان عنوانًا مفاده التفرّغ لمواجهة إيران. لا يستطيع ذلك من دون الولايات المتحدة، ولا يستطيع ذلك من دون ترامب. استنتجَ عدم الإفراط في التعويل على صديقه في ما يطمح إليه ضد إيران، مُتخوّفًا مما سبق لترامب أن أعلنه من استعداد لإبرام صفقة مع إيران، خصوصًا بعد الكشف عن تواصُلٍ حصل بين الطرفين عبر لقاءٍ بين إيلون ماسك، عضو الإدارة المقبلة، والسفير الإيراني لدى منظمة الأمم المتحدة.
ترامب رجل صفقات. فهمت طهران الأمر وهي تبحث عن صفقتها معه. يخشى نتنياهو مواسم الصفقات ولا يستظرف ما صدر عن مايك والتز، الذي اختاره ترامب لمنصب مستشاره للأمن القومي. قال: “الجميع آتون إلى طاولة المفاوضات بسبب الرئيس ترامب… لقد أرسل انتصاره المدوّي رسالةً واضحة إلى بقية العالم بأنه لن يتمَّ التسامحُ مع الفوضى”. يخشى نتنياهو أن يكونَ قد بات جُزءًا من تلك الفوضى التي لا يحبها الرئيس.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى