وماذا، لو تَكَلَّمَ لبنان؟
الدكتور فيليب سالم*
أيُّ خجلٍ وأيُّ أَلَمٍ يقبضُ عليك أن ترى هذا اللبنان الذي يمتلكُ كلَّ مقوّماتِ العظمة، ينحدرُ به سياسيوه إلى هذا الذلّ، إلى هذا الجحيم؟ وأيُّ سخريةٍ أن ترى هؤلاء الذين أخذوه إلى الحرب عنوةً يُريدون اليوم إخضاعه عنوةً لسلامٍ ليس هو سلامه.
نحنُ اللبنانيين الذين نعبدُ هذا الوطن بعد الله، قلقون على لبناننا، لأنَّ المفاوضات الجارية اليوم لا تَعتَبِرُ لبنان وطنًا للبنانيين بل تَعتَبرهُ وطنًا ل”حزب الله”. فالمفاوضات التي تقودها أميركا هي مفاوضاتٌ بين طرفين: الطرفُ الأميركي-الإسرائيلي من جهة، والطرف الإيراني–”حزب الله” من جهة أخرى. لبنان ليس طرفاً فيها. لقد طُلِبَ منه الصمت والإصغاء والطاعة. ولكن ماذا لو تجرَّأَ لبنان وتكلّم؟ فماذا يا تُرى سيقول؟ إنه سيقول حتمًا كفانا حروبًا؛ ها قد شَبِعَت الأرض من الدماء. وكفانا مُقاومات تدّعي تحريرَ فلسطين. تاريخٌ طويلٌ من الشعارات الفارغة والمُضَلِّلة. تاريخٌ طويلٌ من الفشل.
نحنُ شعبٌ يُمَجِّدُ الفشل، ونجعلُ منه أحيانًا نصرًا إلهيًا. وتعالوا نسأل وماذا كانت نتيجة هذه المقاومات؟ كانت النتيجة أنَّ فلسطين لم تُحَرَّر، بل دُمِّرَ ما بقي منها. ودُمِّرَ لبنان صاحب الرسالة وأبو الحضارة. ودُمِّرَ العالم العربي من صنعاء إلى بغداد إلى دمشق.
وسيقول لبنان، هذه المرّة، هي غيرها من كلِّ المرّات. بعد كلِّ هذه الحروب وهذا الدمار، لا نُريدُ فقط “وقفًا لإطلاقِ النار”، نُريدُ تسويةً سياسيةً تقودنا إلى السلام والاستقرار الدائمَين. لا نُريدُ تهدئةً تعودُ بنا للمرة الألف إلى الحروب. نُريدُ السلام. السلامُ الذي لا يُشبهُ السلامَ الذي كنّا فيه. نريدُ السلام الذي ليس بعده حروب. ونصلُ إلى هذا السلام بتطبيقِ ثلاثة بنود:
أوّلًا، العودةُ إلى اتفاقِ الهدنة وإلى الدستور؛
ثانيًا، تجريدُ السلاحِ من جميع الفئات اللبنانية وغير اللبنانية، وحصرُ السلاح في أيدي الدولة اللبنانية.
ثالثًا، وهو الأهم، تجفيفُ المال والسلاح المُتَدَفِّقَين من إيران ودولٍ أُخرى إلى هذه الفئات.
لقد آنَ الأوان، بعدَ كلِّ ما شهدناه، أن نعترفَ بأنَّ وجودَ السلاحِ خارج الدولة يُلغي وجودَ الدولة ويُبقي لبنان رهينةً في زنزانةٍ ل”حزب الله” في ضاحيةٍ ما. وكم رحّبنا بكلام الأمين العام الجديد ل”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم عندما قال: “نُريدُ فقط وقفَ إطلاقِ النار واحترامَ سيادة لبنان”. ولكن احترامَ سيادة لبنان أيها السيد يبدأ بكم أنتم. يبدأ بتسليم سلاحكم إلى الدولة والعودة بكم إلى وطنكم. لقد تأخّرتُم في فصل لبنان عن غزة، فنرجو ألّا تتأخَّروا في فصل لبنان عن إيران.
وسيقول لبنان إنّهُ خائف، لأنَّ بنودَ الاتفاق الجديد لا تتضمّن نَزعَ السلاح. ولو كانَ نَزعُ السلاحِ واردًا لما كانت إسرائيل لتصرّ على منطقةٍ عازلةٍ بين حدودها الشمالية ونهر الليطاني. ونودُّ هنا أن نسألَ وماذا عن شمالي الليطاني؟ هل سيكونُ هناكَ السلاحُ غير الشرعي شرعيًّا؟ ولم تَكُن إسرائيل لتصرّ على حقّها بالدفاع عن نفسها كُلَّما تجرّأَ “حزب الله” على مهاجمتها. إنَّ الاتفاقَ الذي صَدَرَ في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) يُؤمِّنُ السلامَ لإسرائيل ولكنه لا يُؤَمِّنُ السلامَ للبنان. وللأسف إنّهم يتكلّمون عن القرار 1701 كما كان قبل الحرب، لا كما يجب أن يكون. ونحن نذكرُ جيدًا أنه كنّا قبل هذه الحرب تحت مظلّةِ ال1701 ولماذا لم يُؤمِّن هذا الاتفاق يومها السلامَ لنا؟ ولماذا يا تُرى يُصبحُ هذا الاتفاقُ اليوم الحلمَ الذي نريده؟
كُلُّنا أملٌ بأنّ الرئيس الجديد في الولايات المتحدة، دونالد ترامب، يُريدُ السلامَ في المنطقة وفي لبنان. إنه يُؤمِنُ بأنَّ إرساءَ السلامِ في الشرق الأوسط سوف يُحدّدُ مكانته في التاريخ.
كذلك نَوَدُّ أن نَعتَقدَ أنَّ الرئيس الجديد في إيران، مسعود بزشكيان، سيعملُ كما قال في الأمم المتحدة على بناءِ الصداقة مع الغرب لا على بناءِ العداءِ له.
هناكَ نافذةٌ جديدةٌ نَطُلُّ منها على الأمل. وربما تكونُ هذه النافذة صفقةً جديدة بين أميركا وإيران تُطيحُ مشروعَ التمدُّدِ الإيراني في الشرق الأوسط.
ونتوجّه في المناسبة إلى أهلنا في المقاومة، ونقول لهم إنَّ مسؤوليةَ قيامة لبنان هي مسؤوليتنا، نحنُ وإيّاكم. ليس هناك أحدٌ في العالم يُمكنهُ مساعدتنا إن كنّا نحنُ على خلاف. هذه الأرض هي أرضنا جميعًا، وليست هناكَ في الأرض أرضٌ غيرها تكونُ أرضنا. تجمعنا محبة الأرض، ويجمعنا الألم، كما يجمعنا مستقبل أولادنا. تعالوا نطلب التوبة عن خطايانا. تعالوا نبني لبنان من جديد. تعالوا نبني السلام.
- الدكتور فيليب سالم، طبيب وباحث وأساذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صُدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).