أينَ الصين مما يحدُثُ في الشرق الأوسط؟
تتبنّى بكين مُقاربةً طموحة وحَذِرة تجاه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلّا أنّ الاضطرابات الإقليمية تضع إستراتيجيتها المُتَحَفّظة تحت الاختبار.
جينغ دونغ يوان وعلاء ترتير*
تَعمَلُ الصين منذ سنوات عدّة على توسيع نطاقَ نفوذها ليصل إلى كل ِّأنحاء العالم. وفيما تبقى أولويّاتها الإستراتيجيّة مُتَمَحورة حول غرب المحيط الهادئ -حيث تواجه منافسة مع الولايات المتحدة وعددًا لا يحصى من النزاعات الإقليميّة وتوتّرات في شبه الجزيرة الكوريّة واحتمال نشوب صراع عسكري بشأن مضيق تايوان- أنتج وجودها المتنامي باستمرار في مناطق مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مصالح استراتيجيّة لا يُمكِنُ الاستخفاف بها. لكن في خضمّ الاضطراب الشديد في المنطقة الذي قد يُهدّد المصالح الصينيّة، تبقى بكين حذرة للغاية وغير فعّالة إلى حدّ بعيد في التوصّل إلى نتيجةٍ أكثر استقرارًا وسلميّة. وفي ظلّ تعدّد التفسيرات، بما فيها مَن يرى أنّ السياسة الصينيّة تطوّرت لتصبح أكثر حزمًا في الشؤون الإقليميّة، قد يكون من الصعب التغلّب على المَيلِ إلى المحافظة على مقاربةٍ تتجنّب المخاطر وأثبتت فائدتها على مدى أعوام متعدّدة، على الرُغم من الفُرَص التي قد تُوفّرها.
نفوذٌ متنامٍ
تُمثّلُ الصين اليوم شريكًا اقتصاديًا رئيسًا لمُعظم دول المنطقة، إذ بلغت التجارة بين الصين ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 368 مليار دولار في العام 2022، وهو مبلغٌ مُذهلٌ مُقارنةً بـ144 مليار دولار بين الولايات المتحدة والمنطقة في العام نفسه. وبلغت قيمة الاستثمارات الصينيّة المُتراكمة وتمويل التنمية في المنطقة 152 مليار دولار بين العامَين 2013 و2021. لقد انخرطت الصين بنشاطٍ في مشاريع البنى التحتيّة في المنطقة والانتقال إلى الاقتصاد الأخضر من خلال مبادرة الحزام والطريق، بالإضافة إلى التطوير التكنولوجي المشترك مع المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة. وقد زوّدت المنطقةُ حوالي نصف إجمالي واردات الصين من النفط الخام في العام 2023.
في ظلِّ استمرارِ هَيمَنة المصالح التجاريّة، تَوَسَّعَ انخراطُ الصين الإقليمي بشكلٍ مطّرد -وإن بحذر- ليشمل الديبلوماسيّة والأمن. فقد عيّنت مبعوثها الخاص الأوّل إلى الشرق الأوسط في العام 2002 وأصدرت وثيقتها السياسيّة الأولى تجاه العرب في العام 2016. وأعلنت بكين في أيلول (سبتمبر) 2022 عن بُنيتها الأمنيّة الجديدة للشرق الأوسط –التي تُشكّلُ إطارًا يُعزّزُ الأمنَ المشترك والشامل والتعاوني والمُستدام ويحثّ الجهات الفاعلة الإقليميّة على التَحَكُّم بشؤونها بشكلٍ أكبر. وزار الرئيس الصيني شي جين بينغ المنطقة في أواخر العام 2022 عندما عُقِدت أول قمّة صينيّة-عربيّة وقمة صينيّة-خليجيّة في المملكة العربية السعوديّة؛ وأشرفت الصين في العام 2023 على عودة العلاقات الديبلوماسيّة بين الخصمَين اللدودَين، السعودية وإيران -وهما اثنان من أكبر شركائها الاقتصاديين.
في ضوء هذه المصالح المُتنامية، من الطبيعي التصوّر بأن تقوم الصين بدورٍ أكثر نشاطًا في المساعدة على إدارة الاضطرابات الإقليمية والتوسّط لحلّ صراعات مختلفة، لا سيّما أنّ بكين لا تحمل الأعباء التاريخية لنظرائها الغربيين وأنّ النفوذ الأميركي يُعاني نتيجة ارتباطه بالرد الإسرائيلي غير الشعبي بتاتًا على هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
غير أنّ عامًا قد مَرَّ من دون أيّ تَدَخّلٍ صيني فعّال. لا شكّ في أنّ بكين قدّمت اقتراحاتٍ لإيقاف الحرب على غزة، وجمعت “حماس” و”فتح”، ودعت مجلس الأمن الدولي إلى تهدئة الصراع، كما إنّها اقتنصت فرصة انعقاد اجتماعاتها مع وزراء الخارجية العرب والخليجيين لإعادة التأكيد على خطط السلام المتعدّدة التي اقترحتها في السابق. لكنّها لم تَقُم بأيِّ محاولةٍ جدّية لضمانِ تعليق العمليات العسكريّة الإسرائيليّة أو لتقديم اقتراحات ملموسة وقابلة للتطبيق لحلٍّ طويل الأمد.
تعدّد التفسيرات
تَبرُزُ هوّةٌ واضحةٌ بين الصورة التي تسعى بكين إلى إظهارها -أي أنّها قوة صاعدة مسؤولة وجادة ومُلتَزِمة التزامًا عميقًا بالسلام، بما فيه في الشرق الأوسط- ومقاربتها الحذرة والمُتردّدة إزاء الصراع في المنطقة. لكنّ ذلك يَعكُسُ أسلوبها الديبلوماسي ويرتَكِزُ في الوقت عينه على تفكيرٍ إستراتيجي دقيق بالمنطقة وبأيِّ دورٍ عملي تستطيع أن تؤدّيه في الوقت الحالي. يُمكِنُ تفسير سياسة الصين وإمكانية تطوّرها في المستقبل بأربع طرق على الأقل.
التفسير الأول، هو أنّه على الرُغمِ من توسّع التجارة والاستثمار وصورة بكين المُتنامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تكتفي الصين بالبقاء بعيدة من الأضواء وبحرّية التصرّف لتجنّب التورّط في الصراعات الإقليمية المعقّدة. وتواصل التركيز على بناء روابط اقتصادية مع الأطراف كافة استنادًا إلى مَبدأَي الحياد وعدم التدخّل. ومن الواضح أنّها تُدركُ المخاطر الكامنة المُرتبطة بالانخراط في مشاكل المنطقة، كما إنّها لا ترغبُ في أن تحلَّ مَحَلَّ الولايات المتحدة باعتبارها القوة الخارجيّة المُهَيمنة، رُغمَ ضعفها. في الواقع، يُجادلُ المحلّلون الصينيون الداعمون لهذا التفسير ضد المفهوم الخاطئ القائل بأنّ الصين يمكنها التأثير بفعّالية في تطوّرات المنطقة، ما يبقى ثانويًا في أولويّات بكين الجيوستراتيجيّة -ألا وهي مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي والمنافسة الإستراتيجيّة بين الولايات المتحدة والصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ويُشدّد التفسير الثاني على أهميّة المنطقة الحيويّة بالنسبة إلى الصين لمواردها من الطاقة وموقعها الجيوستراتيجي للتجارة البحريّة مع أوروبا وأفريقيا، وذلك لتوضيح السبب وراء اهتمام القيادة العليا الصينية المتزايد بالمنطقة. ونتيجة لذلك، أصبحت بكين أكثر استباقية في انخراطها مع المنطقة، بما في ذلك مشاركتها في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وإرسال مبعوثين إلى المنطقة واقتراح خطط سلام للصراعات وإنشاء أول قاعدة دائمة للدعم اللوجستي العسكري في جيبوتي عند مصبّ أحد أهم الممرّات المائيّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
على الرُغم من أنَّ القدرة المحدودة لبكين جعلتها تتمسّك بمبدئها في عدم التدخّل بشكلٍ عام، فقد وسّعت بانتظام نفوذها على التنمية الاقتصادية في المنطقة من خلال زيادة التجارة الثنائية والاستثمارات ومشاريع بناء البنى التحتية والتعاون التكنولوجي. ويشمل هذا التعاون وصول شركات التكنولوجيا الصينيّة على غرار “هواوي” (Huawei)، ما يمكّنها من تأديةِ دورٍ مُهيمن في البنى التحتيّة الرقميّة في المنطقة. على نحوٍ مشابه، يزداد التعاون الدفاعي والأمني بين الصين وعددٍ من دول الشرق الأوسط، بما فيه التطوير المشترك للطائرات المسيّرة بين شركة مجموعة صناعات شمال الصين المحدودة (نورينكو) والمجموعة الذهبيّة العالميّة في الإمارات العربيّة المتّحدة؛ وإنتاج الصواريخ البالستيّة مع المملكة العربيّة السعودية ومناورات عسكرية مشتركة وبرامج تدريبيّة مع السعوديّة والإمارات وقطر. إنّ الروابط الجيواقتصاديّة والأمنيّة المتنامية كافية لدقِّ ناقوس الخطر في واشنطن.
أمّا التفسير الثالث، فهو أنّ تَمَسُّكَ الصين المُستمرّ بسياسةِ الحيادِ ومبدَإِ عدمِ التدخّل لم يعد يخدم مصالحها المتنامية في المنطقة أو مكانتها كقوة عظمى صاعدة. ويُشيرُ محلّلو هذا التفسير إلى أنّ “الربيع العربي” والاضطرابات التي نتجت عنه يجب أن يُقنعا بكين بأنّ السلبية والتفاعليّة في الديبلوماسيّة إزاءَ الأحداث قد يُهدّدان مصالحها. نتيجةً لذلك، يُعَدُّ اعتمادُ ديبلوماسيّةٍ أكثر استباقية، بما فيها الوساطة في الصراع بين فلسطين وإسرائيل، مهمّاً حتى لو لم تتطرّق الحلولُ إلى التفاصيل الدقيقة. وتندرجُ خطط الصين المختلفة للسلام وبُنيتها الأمنيّة للشرق الأوسط في إطار هذا التفسير. وتُشدّدُ وجهةُ النظر هذه على كيفية ممارسة بكين نفوذها وعلى الحوافز التي تقدّمها للمنطقة من خلال المؤسّسات المتعدّدة الأطراف التي تمثّل الصين جهةً فاعلة رئيسة فيها. وتشملُ هذه المؤسّسات منظمة شنغهاي للتعاون و”بريكس+” اللتين جذبتا دولًا كثيرة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في السنوات الماضية. مُنِحَت إيران العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون بينما أصبحت مصر وقطر والسعودية والكويت والإمارات والبحرين شركاء حوار. في هذه الأثناء، انضمّت مصر وإيران والإمارات إلى مجموعة “بريكس”.
ويتمحور التفسير الرابع حول القيود الكبيرة التي تواجه بكين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حال سعت إلى تحدّي مكانة الولايات المتحدة. لا شكّ في أنّه بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، توفّرت فُرَصٌ أمام الصين للانخراط في منافسة إستراتيجيّة مع الولايات المتحدة ومواصلة توسيع نفوذها وإبراز قوّتها في منطقةٍ حاسمة بالنسبة إلى مصالحها الاقتصادية وأمنها في مجال الطاقة وطموحاتها الجيوستراتيجيّة. بَيدَ أنّ بكين تستمرّ في توخّي الحذر بُغيةَ تحقيق توازن ملائم بين مبادئها الراسخة منذ زمنٍ بعيد والداعية إلى احترام السيادة وعدم التدخّل من جهة والحاجة إلى انخراطٍ أكثر نشاطًا في الديبلوماسية الإقليمية -حيث تبدو حلول الصراعات بعيدة المنال، إن لم تكن غير موجودة على الإطلاق– من جهة أخرى. لقد اختارت الصين تأديةَ دورٍ مَحدودٍ بصفتها مُيسّرة للحوارات ووسيطة أحيانًا بين الأطراف المتناحرة- على غرار المملكة العربيّة السعوديّة وإيران وحركتَي “حماس” و”فتح” الفلسطينيتَين- إذ تُحفزّها بشكلٍ متزايد المحافظةُ على مصالحها الإقليميّة أكثر منه وضع خطط مُحدّدة لحلّ الصراعات.
على الرُغم من رغبة الصين في انتهازِ الفُرصة والتصرّف بحزمٍ أكبر، فإنها تظلّ في النهاية قوةً حذرة حقّقت إنجازات كبرى من خلال تبنّيها مقاربة بعيدة من الأضواء تُركّزُ على الأهداف التجاريّة في المنطقة. بالتالي، من المرجّح أن تستمرَّ في الامتناع عن تحدّي الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. علاوةً على ذلك، بما أنّ أولويّات الصين ومصالحها الجوهريّة تتركّز في منطقة غرب المحيط الهادئ، من المرجّح أن تواصل تفضيلها لمقاربةٍ طويلة الأمد وصبورة ومدروسة بعناية تعتمد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ترتكز على مبادرة الحزام والطريق والمؤسّسات المتعدّدة الأطراف، مثل منظمة شنغهاي للتعاون و”بريكس+” لتحقيق تقدّمٍ ثابت.
- جينغ دونغ يوان هو باحث أوّل ومدير برنامج أمن آسيا والصين في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI).
- علاء ترتير هو باحث أوّل ومدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.