الولايات المتحدة في عين العاصفة

الدكتور سعود المولى*

تتواصلُ الحملةُ لانتخاباتِ الرئاسة في أميركا التي ستجري في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 بين المعسكر الجمهوري، الذي يقوده دونالد ترامب، والديموقراطيين الذين تجمعوا خلف ترشيح نائبة الرئيس كامالا هاريس.

منذ الهزيمة التي مُنِيَ بها ترامب في انتخابات 2020 ، والهجوم على ال”كابيتول هيل،، مبنى مجلسَي الكونغرس، في 6 كانون الثاني (يناير) 2021، تقف الديموقراطية الأميركية في عين العاصفة، ولا تعرف إن كانت خرجت منها أم لا، بعد دوّامة إعصار “ميلتون”، “أسوأ عاصفة عرفتها أميركا منذ قرن”.

قبل أشهرٍ من نهاية ولاية جو بايدن، تجدُ الولايات المتحدة نفسها في وضعٍ جيوسياسي مُعقَّد، يتّسمُ بالتحدّيات الداخلية والخارجية . فبعد أربع سنوات من رئاسته، حاول بايدن إعادة تحديد موقع وموقف الولايات المتحدة في عالمٍ مُتَغيِّر، وفي الوقت نفسه مواجهة عواقب رئاسة ترامب المُثيرة للجدل وتداعيات جائحة “كوفيد 19” التي زعزعت الاستقرار. وقد عملت إدارة بايدن على استعادة صدقية أميركا على المستوى الدولي، وتعزيز تحالفاتها والاستجابة للتحديات الاقتصادية الوطنية، وتمتين الديموقراطية الأميركية الهشّة.

لقد أبرز بايدن الحاجة إلى الدفاع عن المؤسّسات الديموقراطية، إلّا أنَّ العُنفَ السياسي الذي فاقمه خطاب ترامب ترك ندوبًا عميقة.  ويقضي الرئيس السابق ترامب الكثير من وقته في حملاته لنزع شرعية الانتخابات، مما يثير الشكوك حول نزاهتها.

إقتصاديًا، اتسمت رئاسة بايدن بضخِّ استثماراتٍ هائلة وغير مسبوقة منذ الستينيات. لقد تولى بايدن مسؤولية إدارة البلاد وهي خارجة من أزمة صحية عالمية، وكانت مبادراته تهدف إلى إنعاش الاقتصاد مع الحدّ من الفقر. سمح “قانون الوظائف” (Jobs Act) لعام 2021 بضخ أكثر من 1000 مليار دولار في البنية التحتية الأميركية، والتي كان الكثير منها في حالة سيئة للغاية، بما في ذلك خارج العواصم الكبرى في الولايات.  وكان “قانون الحد من التضخم”  (Inflation Reduction Act) في العام 2022، يهدف إلى إزالةِ انكماشِ وجمود الاقتصاد، وإلى الاستثمار في التقنيات المتطورة مثل الذكاء الاصطناعي والمركبات الكهربائية.  ومع ذلك، فقد طغى على هذه الجهود التضخّم المتسارع، الذي بلغ ذروته عند 9% في العام 2022، خصوصًا في المناطق الحضرية مثل أتلانتا ولاس فيغاس وفينيكس، وهي مناطق ذات أهمية انتخابية.

على مستوى السياسة الخارجية، يُنظَرُ إلى إدارة بايدن على أنها استمرارٌ لرئاسة ترامب، خصوصًا في ما يتعلق بمسائل الحمائية والمنافسة مع الصين. كما إنه حافظَ على الشراكات الإقليمية التي بدأت في عهد ترامب مع دولٍ مثل الهند واليابان وأوستراليا، لكنه عزّزَ أيضًا دور حلف شمال الأطلسي (الناتو)، خصوصًا مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية. كما أعادَ التركيز على المناقشات المُتعدّدة الأطراف بشأن المناخ، وهذا يُمثّلُ اختلافًا واضحًا عن ترامب. وتستمر الولايات المتحدة في تعديل استراتيجيتها من خلال التركيز على العلاقة مع الصين وتقليص حجم التورّط في الشرق الأوسط وأوروبا، على الرُغم من أنَّ أزمات مثل الحرب في أوكرانيا والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يجعلها مُنخَرطة وبقوة.

إنَّ استمرارَ دعم الرئيس بايدن لحكومة نتنياهو، لم يؤدِّ فقط إلى استمرارِ مأساة المدنيين والنازحين،  بل قد يؤدّي أيضًا إلى إعادة انتخاب دونالد ترامب. في مقابلتها مع برنامج 60 دقيقة على محطة “سي بي أس” التلفزيونة يوم الأحد 6 تشرين الأول (أكتوبر)، تجنّبت كامالا هاريس عددًا من الأسئلة المباشرة المتعلقة بدعم الولايات المتحدة لنتنياهو، وهذا يعكس عجزها عن الانفصال علنًا عن سياسته. وبحسب عدد من المحللين الأميركيين فإنَّ بايدن يضع نائبته في المأزق نفسه الذي وضع فيه الرئيس ليندون جونسون المرشح الرئاسي الديموقراطي لعام 1968، نائبه هيوبرت همفري، الذي أراد شخصيًا إنهاء حرب فيتنام لكنه اضطرَّ إلى الاستمرار في الدفاع عنها.  وعلى غرار دعم واشنطن لحرب إسرائيل في غزة، والآن في لبنان، كانت حرب الولايات المتحدة في فيتنام غير شعبية، وخصوصًا بين الناخبين ذوي الميول الديموقراطية. هناك تشابه آخر يتمثل في أن فيتنام لم تكن فقط قضية سياسية عسكرية “منفردة”، بل تحوّلت إلى مسألة أخلاقية أساسية، وهي المسألة التي دفعت ملايين الناخبين الليبراليين واليساريين إلى رفض دعم الديموقراطيين، ما أدّى إلى فوز ريتشارد نيكسون بفارق ضئيل.

إنَّ احتمالات قيام إسرائيل بهجومٍ عسكري على إيران، بالإضافة إلى حروب إسرائيل على غزة ولبنان، يعزز رسالة ترامب إلى الناخبين المحافظين المترددين بأن “ضعف” إدارة بايدن-هاريس أدى إلى عالمٍ من الفوضى. من المستحيل تقريبًا أن ينفصلَ نائبُ رئيسٍ حالي علنًا عن إدارته، وبخاصة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. إنَّ القيامَ بذلك هو من نوع الخيانة التي قد تؤدي إلى انقسامات كبيرة في وقت يبدو الحزب الديموقراطي يائسًا للحفاظ على مظهر الوحدة. لذا، طالما أصرَّ بايدن على استمرار تدفّق المساعدات العسكرية الأميركية غير المشروطة لإسرائيل، فإنَّ عددًا كبيرًا من الناخبين ذوي الميول الديموقراطية –خصوصًا في الولايات المتأرجحة- سيرفضون، من حيث المبدَإِ، التصويت للمرشح الديموقراطي.

وهنا لا بُدَّ من التوقّف عند ما جاء في البرنامج الديموقراطي لعام 2024 الذي رفض الدعوات إلى جعل المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل مشروطة باحترام القانون الإنساني الدولي، ووصف الالتزام بإرسال عشرات المليارات من الدولارات كمساعدات إضافية إلى البلاد بأنه “قوي”. والحال أنه حتى الرئيس رونالد ريغان هدّدَ بحجب المساعدات العسكرية لإجبار إسرائيل على وقف اجتياحها لبنان في صيف العام 1982. كما إنَّ الجنرال شارل ديغول أقام حظرًا على الأسلحة الفرنسية لإسرائيل بعد الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت في 28 كانون الأول (ديسمبر) 1968.

في خطابِ قبولها ترشيح الحزب، أدانت هاريس “المذبحة التي ارتكبتها “حماس” ضد المدنيين الإسرائيليين”، لكنها استخدمت صيغة المبني للمجهول في الإشارة إلى الفلسطينيين الذين “فقدوا” حياتهم ببساطة – من دون إسناد أي علاقة سببية أو ذكر من قتلهم. وبالمثل، أكدت على ضرورة إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين من دون ذكر الآلاف من السجناء الفلسطينيين الذين تحتجزهم إسرائيل من دون أي تهمة أو محاكمة. وأدانت العنف الجنسي (المزعوم) الذي ارتكبته قوات “حماس” ضد النساء الإسرائيليات في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لكنها لم تُدِن العنف الجنسي المُوثَّق جيدًا الذي ارتكبته القوات الإسرائيلية ضد السجناء الفلسطينيين. لكنها تجاوزت خطاب بايدن النموذجي بإعلانها أنها ستعمل من أجل مستقبل يمكن فيه للفلسطينيين “نيل حقهم في الكرامة والأمن والحرية وتقرير المصير”.

في أول تصويت لها في السياسة الخارجية كعضو في مجلس الشيوخ الأميركي في كانون الثاني (يناير) 2017، انحازت هاريس إلى الرئيس المُنتخب ترامب في انتقاد رفض الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما استخدام حق النقض ضد قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع، وهو قرار متواضع للغاية ورمزي إلى حد كبير، والذي كرر الدعوات السابقة إلى أن توقف إسرائيل توسيع مستوطناتها غير القانونية في الضفة الغربية المحتلة، والتي تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة وحكمًا تاريخيًا صدر عن محكمة العدل الدولية. كما تحدّى قرار مجلس الشيوخ -الذي شاركت هاريس نفسها في رعايته- حق الأمم المتحدة في التدخل في مسائل القانون الإنساني الدولي في الأراضي الخاضعة للاحتلال الأجنبي.

لكُلِّ هذه الأسباب، دعت حركة “غير ملتزم”، الثلاثاء 8 تشرين الأول (أكتوبر)، أنصارها إلى عدم التصويت للمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية دونالد ترامب مُحذّرة ناخبيها من أنَّ “الوضع قد يكون أسوأ إذا ما عاد ترامب إلى البيت الأبيض”، لكن من دون أن تدعوهم صراحة لانتخاب منافسته الديموقراطية . وبسبب فشل إدارة الرئيس بايدن في وقف هذه الحرب، يخشى الديموقراطيون أن يخسروا أصوات جُزءٍ من الجناح اليساري للحزب والناخبين المتحدّرين من أصول عربية وإسلامية.

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى