من غزّة إلى الجنوبِ اللبناني: أيُّ سيناريوهات؟

الدكتور ناصيف حتّي*

كَيفَ يبدو المَشهَدُ الراهِنُ في المشرق العربي خصوصًا وأنَّ الحربَ على قطاعِ غزّة ستبلغُ عامَها الأوّل بعدَ أقلّ من شهر؟

لم تستطِع إسرائيل تحقيقَ أهدافها التي رفعتها منذ بدايةِ الحرب، وصارَت لأسبابٍ سياسيةٍ داخليةٍ أسيرةَ تلك الأهداف العالية السقف وغير الواقعية: أهدافٌ تتمثُّل بالتخلُّصِ كُلِّيًا من حركة “حماس”، وفَرضِ السيطرةِ الامنية العسكرية على القطاعِ مع تأمينِ إدارةٍ له من “صيغةٍ مُرَكَّبة” دولية-عربية-فلسطينية في ظلِّ إحكامِ السيطرةِ الإسرائيلية.

يبدو أنَّ التفاوُضَ المُتَقَطِّع وذا المراحل الثلاث، كما طُرِحَ منذُ اليوم الأوّل، صارَ بمثابةِ عمليةٍ لتقطيعِ الوقت إلى أن تأتي مُعطَياتٌ جديدةٌ تَفرُضُ إحداثَ تقدُّمٍ فعليٍّ نحوَ ما يجب أن يكونَ عليه الوَقف الشامل لإطلاق النار. الأمرُ الذي يعني الخروجَ الكُلّي من منطقِ الهُدَنِ المَشروطَة بالمطالب الإسرائيلية ضمن صِيَغٍ مُختلفة ولكنها مكشوفة.

الضفّةُ الغربية طالتها نيرانُ الحربِ الإسرائيلية أيضًا. ومنَ الواضِحِ أنَّ الأطرافَ الدولية التي تُحاوِلُ مَنعَ التصعيدِ في الضفّة لن تنجحَ كُلِّيًا في مسعاها للعودة إلى الوَضعِ الذي كان سائدًا فيها قبل السابع من تشرين الاول (أكتوبر)، خصوصًا أنَّ موقفها ما زالَ ضمنَ سياسةِ المُطالَبة والمُناشَدة وليس الضغط المباشر على إسرائيل لإنجاحِ مسعاها. يُعزّزُ هذا الوضع أنَّ استكمالَ تَهويدِ الجغرافيا والديموغرافيا، كما نَذكُرُ دائمًا، يبقى الهدفَ الاستراتيجي الأساس للسياسة الإسرائيلية التي لم تَعُد تَشعُرُ بضرورةِ إخفاءِ ذلك خصوصًا في ظلِّ العقيدةِ المُسَيطِرةِ والحاكِمةِ حاليًا في إسرائيل. لن يكونَ بالأمرِ السَهلِ تحقيق التهدئة الفعلية  في الضفة الغربية في ظلِّ ما أشرنا إليه من مُعطيات وخصوصًا في ظلِّ استمرارِ حربِ الاستنزافِ القائمة والمفتوحة في الزمان والمكان.

ويبدو الآن أنَّ الأولوية الإسرائيلية تتجهُ للتركيزِ على الجبهة اللبنانية. التصعيدُ الكلامي الحامل للتهديدات بشكلٍ مُتكرّرٍ بإعطاءِ أولويةٍ ل”جبهة الشمال” عبر حربٍ مختلفة في قوّتها قد تحصلُ “عندما تُستكمَلُ الاستعدادات” بين أسابيع وأشهر، يبدو كجُزءٍ أساس في الحربِ النفسية تجاه العدو في “الشمال”. وهو في الوقت ذاته يُفترَضُ أن تُشكّلَ لأصحابها “ورقةً” للطمانةِ والتهدئةِ السياسية في الداخل الذي بدأت حِدّةُ ودرجةُ انتقاداته بالازدياد تجاه الحكومة. الأمرُ الذي قد يُهدّدُ بقاءها. يترافَقُ ذلك بالطبع مع تصعيدٍ في القوة النارية، ولو بقيَ ضمنَ قواعدِ الاشتباك التي “تطوّرت” ولكنها بقيت ناظمةً للحرب الدائرة، وفي جغرافية الحرب التي صارت سوريا تدريجًا جُزءًا من “مسرحها” على جبهة الشمال باعتبارها العُمق الاستراتيجي المهم، بأبعادٍ مختلفة، لجبهةِ “المُسانَدة”عبر الجنوب اللبناني.

نسمعُ عن استراتيجياتٍ إسرائيلية مختلفة للتعامُل مع جبهةِ الشمال. منها الاجتياح البري وهو أمرٌ مُستبعَدٌ لعدمِ قدرةِ إسرائيل على تحمُّلِ تداعياته الخطيرة والمُكلِفة، ومنها عمليةٌ التفافيةٌ عبر الجولان المُحتَل وجنوبِ سوريا للوصول إلى البقاع ومُحاصرة الجنوب اللبناني عسكريًا، وهذه أيضًا ذات تكلفةٍ عاليةٍ، وبالطبع غير مُؤكَّدةِ النتائج. يحصلُ ذلك فيما تستمر عملية “تطوير” قواعد الاشتباك، ضمنَ حربِ استنزافٍ مُمتَدّة في الجغرافيا وفي القوّة النارية وعمليات الاستهداف. ما يَمنَعُ الخروج عن ضوابطِ حَربِ الاستنزافِ المُمتَدّة في الزمان والمكان “توازن الردع” الذي يُشكّلُ عُنصُرًا أساسيًا في مَنعِ اندلاعِ حربٍ كُبرى.

يبقى السؤال قائمًا حولَ البديلِ من حربٍ كُبرى ولو مُستَبعَدة: هل يتمُّ ذلك عبرَ تفاهُماتٍ بين الأطراف الفعلية أو الفاعلة وليس بالضرورة “الرسمية” فقط للحرب الدائرة حاليًا. تفاهُماتٌ  تُوَفِّرُ تسوياتٍ وهدوءًا مرحليًا؟ أم إنَّ البديلَ يكمُنُ في التوصُّلِ إلى صفقةٍ إقليميةٍ كُبرى تُوَفِّرُ الاستقرارَ بشكلٍ أفضل وأطول زمنًا من سلّةِ التفاهُماتِ التي أشرنا إليها. صفقةٌ لا تُخرِجُ المنطقة نهائيًا من مخاطر الحروب المختلفة الحدّة والأطراف، طالما استمرّت تل أبيب، بدونِ أيِّ وازعٍ، في سياسةِ بناءِ إسرائيل الكبرى عبرَ استكمالِ الضمِّ الفعلي للضفة الغربية والطَردِ التدريجي لسكّانها؟

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى