مَخاطِرُ تعميق الطائفية وترسيخها في العراق

إنَّ الجهودَ المبذولة لتعديل قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 في العراق هي محاولة أخرى لإنشاءِ سلطةٍ مُوازية لسلطة الدولة.

آية الله علي السيستاني: صمته يفيد أنه راضٍ على تعديل قانون العام 1959.

حارث حسن*

الجهودُ المُثيرةُ للجدل في العراق اليوم لتغييرِ قانونِ الأحوال الشخصية في البلاد وإعطاءِ المَزيدِ من السلطة للطوائف الدينية تَعكُسُ تنامي المَأسسة الطائفية كأساسٍ وقاعدة لإعادةِ صياغة المجتمع العراقي. وهذا يُمثِّلُ تآكلًا إضافيًا لسلطة الدولة، مع عواقب وخيمة مُحتَملة من شأنها أن تزيدَ من تَفَتُّتِ العراق.

خلال تسعينيات القرن العشرين، قاد الزعيم العراقي آنذاك صدام حسين ما أَطلقَ عليه “حملة الإيمان”. فقد بنى العديد من المساجد وعَدَّلَ خطابه السياسي بحيثُ أصبحَ أكثر دينية، مُستَغِلًا المَدّ المُتصاعد للتديُّن في العراق والمنطقة. مع ذلك، ظلّت هذه الجهود مُقتَصِرةً على محاولةِ الدولة السيطرة على الدين واستغلاله في المجال العام، في حين واصل النظام نضاله ضد الحركات الإسلامية التي اعتبرها تهديدًا. ولكن، بعد سقوط نظام “البعث” في العام 2003، وصلت الحركات الإسلامية، السُنية والشيعية على حدٍّ سواء، إلى السلطة، وأعادت تشكيلَ الحياة الاجتماعية بشكلٍ كبيرٍ لتَعكُس نظرتها للعالم.

شاركَ العديدُ من هذه الجماعات، وخصوصًا الجماعات الشيعية، في الانتخابات، وساهمت في صياغة الدستور، والأهم من ذلك أنها نجحت في الهيمنة على العملية السياسية. وخلال السنوات الأولى بعد العام 2003، كانت هذه الجماعات مشغولةً في المقامِ الأول بتعزيزِ سلطتها والتنافُسِ مع الجماعات السنّية المُسلّحة، ومن بينها ما يسمى في وقت لاحق تنظيم “الدولة الإسلامية” (أو داعش). ولم تضع هذه الجماعات الأسلَمة القانونية في الأولوية. بل اكتفت بدلًا من ذلك بنصٍّ دستوريٍّ غامضٍ ينصُّ على أنَّ “الإسلامَ هو الدين الرسمي للدولة والمصدر الرئيس للتشريع”، وأنَّ القوانين لا ينبغي أن “تتعارَضَ مع المبادئ الأساسية للإسلام” أو “مبادئ الديموقراطية”.

لكن في السنوات الأخيرة، سعت الجماعات الإسلامية إلى إحياءِ المشاريع التي تهدفُ إلى “أسلَمَةِ القوانين”، إلى جانبِ الجهودِ الرامية إلى تأكيدِ نظرتها للعالم داخل المجتمع. ولعبَ نجاحُ “الإطار التنسيقي” ــ المظلّة التي تضمُّ عددًا من الفصائل الإسلامية الشيعية ــ في تشكيل الحكومة الجديدة، والهَيمنة على البرلمان، وتعزيز نفوذه على الهيئات المستقلة مثل هيئة الإعلام والاتصالات، فضلًا عن القضاء، دورًا حاسمًا في هذا التحوُّل. لقد نجحَ “الإطار التنسيقي” في التغلُّبِ على الانتكاسات التي أعقبت احتجاجات العام 2019، وعملَ إلى حدٍّ كبيرٍ على تفكيك جماعات المعارضة من خلال مزيجٍ من الإكراه والاستقطاب.

قد يبدو هذا التحوُّلُ في الأحداث طبيعيًا نظرًا لأنَّ العراق شهدَ تاريخيًا صراعاتَ هويةٍ مُكثّفة. فقد سعت غالبيةُ القوى التي هيمنت على السلطة السياسية إلى إعادة تشكيل هوية البلاد والفضاء العام لتعكس إيديولوجيتها ورؤيتها ورموزها. كما سعت إلى إرساءِ حدودٍ واضحةٍ بين ما هو مسموح به وما هو محظور ــ حدودٌ لا تعكس بالضرورة مبدأ المساواة أمام القانون.

على سبيل المثال، شَرَّعَت الفصائل الشيعية عطلةً عامةً جديدة، “عيد الغدير”، على الرُغمِ من الخلافات العميقة بين السنّة والشيعة حول أهمية هذا اليوم وعلاقته بمسألة الخلافة الإسلامية. كما تصرّفت الحكومة التي يُسيطرُ عليها “الإطار التنسيقي” بشكلٍ أكثر عدوانية ضد المنظّمات غير الحكومية التابعة للدول الغربية، فأغلقت مكاتب بعضها ورفعت الغطاء القانوني عن البعض الآخر. ورافقت هذا النهج حملةٌ عدوانية شنّتها الجماعات والناشطون التابعون ل”الإطار التنسيقي” ضد ما اعتبروه محاولات غربية لتغيير الثقافة الإسلامية في العراق و”تعزيز الانحلال الأخلاقي”. وقد أسفرت الحملة عن حظر مصطلح “الجنس” في الخطاب الرسمي والمناهج الدراسية وإقرار قانون يُجرِّمُ المُثُلية الجنسية.

كما قامت هيئة الإعلام والاتصالات بتقييدِ بثِّ بعضِ البرامج والمسلسلات التلفزيونية ومَنَعَت مُعَلِّقين إعلاميين مُحَدَّدين بسبب اعتراضاتٍ من “الإطار التنسيقي” أو رجال الدين الشيعة. لكنها لم تُطَبِّق قيودًا مُماثلة على عضوٍ في البرلمان أدلى بتصريحاتٍ مُهينةٍ حول الرموز الدينية السنّية. بعد هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”، كان بإمكان الفصائل الشيعية أن تستقرَّ على نهجٍ للحُكمِ يتناقَضُ مع نهجِ “داعش” العنيف والمُتطرِّف والإقصائي. مع ذلك، أدى الجمعُ بين الانتصار والتنافُسات الشيعية الداخلية، وخصوصًا بين “الإطار التنسيقي” و”التيار الصدري”، إلى سياساتٍ شعبوية، مُوَجَّهةً طائفيًا، ومُثيرةً إلى حدٍّ كبير. أصبحت الحروب الثقافية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصّات أداةً فعّالة لفصائل البلاد لتحقيق مكاسب سياسية زهيدة وتجنُّب مواجهة تحدّيات أكثر خطورة تتعلّق بالاقتصاد والفساد والبطالة وغيرها من القضايا الاجتماعية والاقتصادية المُلِحّة.

وقد تُوِّجَت هذه الجهودُ أخيرًا بمُحاولاتِ إدخالِ تعديلاتٍ قانونية على قانون الأحوال الشخصية لعام 1959، والذي صدر في عهد حكومة الرئيس عبد الكريم قاسم. وكان القانونُ نتاجَ عمليةٍ طويلةٍ بدأت في عهد المَلَكية لصياغةِ قانونٍ شاملٍ للأسرة ينطبِقُ على جميع العراقيين. واعتمدَ القانون على تفسيراتٍ أكثر تقدُّمية للفقه الإسلامي يُمكِنُ أن تتوافقَ مع المعايير الحديثة لحقوق الإنسان والمرأة.

وتَهدفُ التعديلاتُ الجديدة إلى إنهاءِ احتكارِ الدولة لتنظيم قضايا الأسرة والميراث والأحوال الشخصية من خلال السماح للأفراد بالعودة إلى الفقه الذي يَحكُمُ طوائفهم في مثل هذه الأمور. كما يسمحُ للسلطات الدينية التعامُلَ مع عقودِ الزواج والطلاق وتحديد حقوق حضانة الأطفال وفقًا لما هو شائعٌ في فقه طائفتهم، من دون حقِّ الاعتراض من محاكم الدولة. وتؤكد الجماعات الشيعية أنَّ هذا القانون يتوافَقُ مع المادة 41 من الدستور، التي تنصُّ على أنَّ “العراقيين أحرارٌ في تنظيمِ أحوالهم الشخصية وفقًا لدياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم”. ولكن هذا التأكيد يبدو غير مدعوم بما يكفي. فأوّلًا، يمنح القانون الحالي الأفراد بالفعل حُرّيةً نسبيةً في اختيارِ الفقه الديني الذي يتبعونه في مسائل الزواج والطلاق وغيرها من القضايا. ثانيًا، يتعارَضُ القانونُ المُقتَرَحُ مع بعض الأحكام الدستورية، مثل المادة 14، التي تنصُّ على أنَّ “العراقيين مُتساوون أمام القانون من دون تمييزٍ على أساسِ الجنس أو العِرق أو الجنسية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي”، فضلًا عن أحكامٍ أخرى تتعلّقُ بحقوق المرأة والطفل.

إنَّ اعتراضَ المؤسّسة الدينية الشيعية على قانون 1959 ليس بالأمر الجديد. بل كان في واقعِ الأمر أحد الأسباب الرئيسة وراء معارضة رجال الدين لحكومة قاسم. ولم يَكُن هذا الرفضُ قائمًا على أُسُسٍ دينية فحسب، بل كان نابعًا أيضًا من حقيقةٍ مفادها أنَّ تنظيمَ شؤون الأسرة والأحوال الشخصية كان يُشكّلُ تاريخيًا مسؤوليةً أساسيةً تقعُ على عاتق فقهاء الشيعة، الذين مارسوا هذه المسؤولية بشكلٍ مُستَقِل عن الدولة. وقد أدّى نقلُ هذه السلطة إلى محاكم الدولة إلى تقليص نفوذ التسلسل الهرمي الديني، والأهم من ذلك، إيراداته. علاوةً على ذلك، ولأنَّ القانون كان قائمًا على مدارس قانونية عدة، بما في ذلك المدرسة الجعفرية في الفقه الشيعي، فقد كان فقهاء الشيعة يميلون إلى رفضه لأنهم ينظرون إلى القانون باعتباره كُلًا لا يتجزّأ.

وقد واجهت المحاولة الحالية لتعديل قانون 1959 مُعارضةً كبيرة من جانب منظّمات المجتمع المدني والناشطين. في العديد من المجالات، يتعارض الفقه الديني مع الحقوق المُعتَرَف بها دوليًا للمرأة والطفل، بما في ذلك حظر زواج الأطفال والأولاد (عندما يسمح العديد من الفقهاء بزواج الفتيات في سن التاسعة) والقضايا المُتعلّقة بحقوق حضانة المرأة وحقها في الميراث أو الاعتراض على زواج زوجها مرة أخرى. في الوقت نفسه، يبدو أن “الإطار التنسيقي” يحظى بدعمٍ قوي من المؤسّسة الدينية في مساعيه، مصحوبًا بالصمت –الذي يُفسَّر على الأرجح على أنه موافقة– من أعلى سلطة دينية، آية الله علي السيستاني. حتى أنَّ البعضَ وَصفَ قانون عهد قاسم بأنه “علماني”، بحجّة أن الزواج والطلاق والميراث بموجب أحكامه يُشكّل خروجًا عن المبادئ الدينية.

يبدو أنَّ الهدفَ هنا هو ترسيخُ نظامٍ مُنَظَّمٍ حولَ الانتماء الطائفي والعرقي في العراق، وتقليصُ المواطنين إلى هويّاتٍ ثابتة موروثة. وبالتالي تصبح الطوائف وسيطًا بين الأفراد والدولة، مما يؤثّرُ في كلِّ شيء من التمثيل السياسي للمواطنين إلى الحقوق المُتعلّقة بالزواج والحضانة والشؤون العائلية. إنَّ النجاحَ في تعديل قانون العام 1959، وفقًا للصيغةِ المُقتَرَحة، من شأنه أن يُمثّلَ خطوةً أخرى نحو إضفاء الطابع المؤسّسي على التقسيم الطائفي للعراق، والذي من شأنه أن يُنشِئَ سلطةً موازية لسلطة الدولة في مجموعةٍ واسعةٍ من المسائل والشؤون الشخصية. وهذا يشبه إلى حدٍّ ما، ما حدث مع قوّات “الحشد الشعبي”، التي تُمثّلُ قوةً موازية للدولة عندما يتعلّقُ الأمرُ بالأمن.

  • حارث حسن هو زميل أول غير مقيم في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تُركّزُ أبحاثه على العراق والطائفية وسياسات الهوية والجهات الفاعلة الدينية والعلاقات بين الدولة والمجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى