عبد الفتاح السيسي يَخسَرُ جولتَهُ مع المؤسّسة العسكرية!
تُشيرُ استقالةُ الرئيس التنفيذي لصندوق مصر السيادي أيمن سليمان إلى أنَّ رئيس الجمهورية المصري عبد الفتاح السيسي قد أقرّ بفشلِ مسعاه الرامي إلى خصخصة الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية.
يزيد صايغ*
يُنظَرُ إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي عن حقّ باعتباره الرجل الأقوى في مصر، لكنَّ استقالةَ الشخص الذي عيّنه رئيسًا لصندوق مصر السيادي يُظهِرُ أنه ليس كُلّيَ القدرة. لم يَصدُر تأكيدٌ رسمي بعد، لكن تُشير تقاريرٌ مُتَطابقة إلى أنَّ أيمن سليمان الذي أصبح أول رئيس تنفيذي لصندوق مصر السيادي بعد أن أنشأه السيسي بفترةٍ وجيزة في العام 2018، قدّم استقالته من منصبه في شهر حزيران (يونيو) الفائت. ويبدو أنَّ السببَ المُباشِر للاستقالة هو إقدامُ القوّات المُسلَّحة بصورةٍ مستمرة على عرقلةِ عمليةِ بَيعِ الشركات المملوكة للجيش العاملة في الأسواق المدنية، وهي مهمّةٌ كُلِّفَ صندوق مصر السيادي بها رسميًا في شباط (فبراير) 2020. وعلى الرُغمِ من مساعي السيسي في هذا الصدد، لم تُطرَح حصصُ أيّ شركة عسكرية للتداول، ما يُمكِنُ اعتباره مؤشّرًا إلى حدودِ سلطته.
إنَّ فشلَ سليمان، وفشل السيسي أيضًا، في تحقيقِ خاتمةٍ ناجحة لأحد المشاريع المُفَضَّلة لدى الرئيس، لم يكن بسبب عدم المحاولة أو قِلّة الهمّة. فقد كشف السيسي أن إدارته بدأت النقاش حول فكرة طرح شركات الصلب والإسمنت المملوكة للمؤسسة العسكرية في البورصة المصرية في العام 2016. وأيّد السيسي الفكرة علنًا في آب (أغسطس) 2018، ثمّ مُجَدّدًا في العام التالي. لكنَّ طرحَ الأسهم تطلّبَ الكشفَ عن البيانات المالية للشركات المملوكة للجيش والتي يحجبها بشدة عن الجميع، وهذا أمرٌ لم تكن القوات المسلّحة مستعدّة لفعله. لم يؤكّد السيسي أنَّ هذا كان سببَ التأخير، لكنه أقرّ بأنَّ موضوعَ الطرح في البورصة له إجراءاتٌ كثيرة “مِش عايز أتكلّم فيها”.
لذا، قرّرت السلطاتُ المصرية اتّباعَ نهجٍ جديد. ففي شباط (فبراير) 2020، وقّعَ صندوقُ مصر السيادي اتفاقيةَ تعاونٍ مُشترك مع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع لوزارة الدفاع من أجلِ تهيئة عشر شركات تجارية لعَرضِها أمامَ مُستثمرين من القطاع الخاص. ربما اعتُبِرَ التحوّلُ نحو صندوق مصر السيادي وسيلةً لتوليد رأس المال من دون تسليم إدارة الشركات إلى المستثمرين أو وضعها تحت سيطرتهم، وأيضًا وسيلةً للالتفاف حول المسائل المتعلقة بمُلكية الأراضي، التي تعود تبعيّتها إلى وزارة الدفاع، والوضع القانوني للاستثمارات الواقعة في “مناطق استراتيجية” مُحَدّدة في أنحاء البلاد، حيث يقع الكثير من المشروعات الاقتصادية العسكرية، وحيث يمنع القانون نقل ملكية أراضي الدولة إلى جهاتٍ خاصة.
قُدِّمَت تفسيراتٌ مُتباينةٌ جدًّا منذ ذلك الحين عن كيفية سير المبيعات، وأشكال الملكية المُحتَملة. في المقلب الأول، وبعد قيام صندوق مصر السيادي بالتحضيرات، سينتهي الأمر بطَرحِ الأسهم في الشركات التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في البورصة، حيثُ تُحَدّدُ السوقُ المفتوحة سعرَ السهم، أو من خلال عملياتِ طَرحٍ خاصة تتمّ على منصّةٍ من خارج المقصورة، وتكونُ خاضعةً لإشراف البورصة المصرية، إنما غير مُدرَجة في التداول العام. وفي الحالتَين، تنتقل المُلكِية الكاملة حُكمًا إلى المُشترين الذين يتمتّعون أيضًا بدرجةٍ من التَحَكّم على الشركات تتناسب مع حصصهم فيها. وفي المقلب الثاني، يحتفظُ صندوق مصر السيادي بالشركات التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في محفظةٍ استثمارية خاضعةٍ لإدارته، ويستحوذُ على رأس المال الخاص من خلال التفاوُض المباشر مع المستثمرين أو المزاد المُغلَق. وشرح سليمان أنَّ المستثمرين في هذه الحالة سيحتفظون على الأرجح بأصولهم على أساس الإيجار الطويل الأجل.
لم يتمّ اعتمادُ أيٍّ من هذه الترتيبات أو حتى إيضاح كيف ستُدار مُراقبة الأوضاع المالية للشركات وعملية توزيع الأرباح (أو الخسائر). وهذا أمرٌ مهمّ لأنَّ التصريحات الرسمية عن النسبة الدقيقة لأسهم الشركات التي ستُعرَض على المستثمرين في القطاع الخاص تباينت إلى حدٍّ كبير. فقد اقترحَ كلٌّ من سليمان ووزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية هالة السعيد التي ترأس مجلس إدارة صندوق مصر السيادي، في تعليقاتهما الأولية على اتفاقية التعاون بين صندوق مصر السيادي وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في شباط (فبراير) 2020، أن يُجاز للمستثمرين الاستحواذ على حصص تصل إلى 100 في المئة من أسهم الشركات المعروضة. وبعد عامٍ، صرّح سليمان بأنَّ صندوق مصر السيادي يسعى إلى بيع 80 إلى 90 في المئة من أول شركة تابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية يُحتمَل طرحها للتداول، وهي الشركة الوطنية للخدمات الصناعية والبترولية (وطنية)، مع احتفاظ الصندوق بحصّةٍ تتراوح من 10 إلى 20 في المئة. وأشارت تقارير لاحقة إلى أنَّ نسبة 20 إلى 30 في المئة فقط من الشركة الثانية التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية المُحتَمَل طرحها في التداول، وهي الشركة الوطنية لإنتاج وتعبئة المياه الطبيعية (صافي)، ستُعرَض للبيع.
والأهمُّ من ذلك، فإنَّ أيَّ إجراءٍ لا يرقى إلى السماح لمستثمري القطاع الخاص بشراء كامل أسهم الشركات التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية يُعَرِّضُ هؤلاء المستثمرين لخطر الدخول في شراكة مع المؤسسة العسكرية التي هي غير مُلزَمة بنشر البيانات المالية وغير خاضعة للقوانين والمحاكم المدنية. وحتى الاستحواذ على حصّةٍ يُفترَضُ أنها حصّةٌ مُهَيمِنة في هذه الظروف ينطوي على مخاطر حقيقية للمستثمرين من خارج المؤسسة العسكرية أو هيئات الدولة. ومن الواضح أنَّ المخاطرَ ستزدادُ في الصيغ التي اقترحها سليمان في البداية، وجاء فيها أنه “يجوز [لصندوق مصر السيادي] الاستثمار في هذه الأصول مع مستثمرين مُحتملين أو مساعدة جهاز خدمة المشروعات الوطنية على إنشاءِ شراكاتٍ في هذه الأصول بطريقةٍ مباشرة”. وهذا قد يفسّر ما تُبديه الدوائر الحكومية المصرية من تفضيل واضح “للمستثمرين الاستراتيجيين”، أي ضمنًا المستثمرين الخليجيين، الذين يستشفّون مخاطر أقل بسبب تحالفهم السياسي مع إدارة السيسي والمؤسسة العسكرية.
في جميع الأحوال، شرح سليمان بدايةً أنَّ المُهمة الأولى في التعامُلِ مع الشركات التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية تمثّلت في “معرفة حجم هذه الأصول وتقييمها وحجم السوق”. وبعد القيام بذلك على ما يبدو، أشارت التقارير إلى ضمّ شركتَي “وطنية” و”صافي” بحلول كانون الثاني (يناير) 2023 إلى صندوقٍ فرعي أسّسه صندوق الثروة لإدارة وإعادة هيكلة الأصول قبل الطرح ، بهدفُ الترويجُ لبَيعِ حصصٍ منهما إلى صناديق الثروة السيادية الخليجية. وشرح صندوق مصر السيادي أنَّ هدفَ هذه الآلية هو “تمكينُ مُستثمري المؤسّسات من الاستثمار وشراء الأسهم في الشركات المملوكة للدولة بشكلٍ جُزئي أو بالكامل قبل طرحها للاكتتاب العام”. وبعد شهر، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ووزير البترول والثروة المعدنية طارق الملا، على نحوٍ مُربِك إلى حدٍّ ما، أنَّ الشركتَين ستكونان ضمن عددٍ من الشركات الأخرى المملوكة للدولة التي ستُطرَحُ في البورصة، لكن أشارَ مُتحدّث باسم رئاسة مجلس الوزراء في وقتٍ لاحق إلى أنَّ إجراءاتَ الطَرحِ ستتمّ من خلال مستشار الطرح خارج البورصة.
لم تُوضَع هذه الخيارات على محكّ الاختبار، في أيّ حال من الأحوال. ثمّةُ تفسيراتٍ مختلفة للأسباب التي تقف خلف عدم حدوث المبيعات. فقد أدّت الانخفاضات الحادّة المُتتالية في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي بين تشرين الأول (أكتوبر) 2022 (14 في المئة) وكانون الثاني (يناير) 2023 (25 في المئة) إلى ارتفاعِ أسعار الأصول بنسبة تفوق 47 في المئة عند احتسابها بالجنيه في البورصة المصرية، ولكنها انكمشَت بنسبةٍ تزيد عن 30 في المئة بالدولار الأميركي في العام حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2022. وقد أبدى المستثمرون المُحتَمَلون، وحتى المستثمرون “الاستراتيجيون” في الخليج، تردّدهم في السداد بأسعارٍ أعلى من أسعار السوق بالعملة المحلّية للحصول على أسهمٍ في الشركات المملوكة للدولة بصورةٍ عامة؛ وربما نشأ تردّدٌ شبيهٌ عند التفاوض على سعر الأسهم في الشركات التابعة لجهاز خدمة المشروعات الوطنية. ويمكن الافتراض أنَّ المؤسسة العسكرية المصرية كانت مُتَردّدة بالقدر نفسه تجاه البيع بسعرٍ مُنخفض.
طرأت مشاكل أخرى أيضًا، إذ أفادت روايات المطّلعين، التي أكّدتها جُزئيًا منصّة “مدى مصر” الإعلامية المستقلّة المُلِمّة بالموضوع، أنَّ تقييمَ شركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية كان مُهِمّةً عسيرة، إذ إن هذه الشركات لم تتّبع نموذجًا قانونيًا مُوَحَّدًا في حيازة الأراضي وغيرها من الأصول، ولم تستطع تقديم كشوفات واضحة للرواتب والأجور، واتّبعت إجراءات شراء مُتباينة، وفي أغلب الأحيان غير موثّقة وغير قابلة للتعقّب. وربما يفسّر ذلك اللجوء إلى صندوقٍ فرعي تابع لصندوق مصر السيادي، الأمر الذي أعفى الشركات من الإفصاح العام عن المخاطر، والدعاوى الجارية، وجوانب أخرى من عملياتها وتمويلها، وهو ما قد يعرّض المستثمرين لخطر محدودية السيولة، وارتفاع الرسوم، وتكبّد الخسائر المالية، وعدم القدرة على إدراج الشركات في البورصة.
بغضِّ النظر عن صحّة هذه الروايات، تراجعت شركة بترول أبو ظبي الوطنية “أدنوك” عن اهتمامها بسلسلة “وطنية” لمحطات الوقود في أوائل العام 2022، واستحوذت بدلًا من ذلك على حصّة بنسبة 50 في المئة في شركة “توتال إنرجيز” لبيع الوقود بالتجزئة في مصر. وقد قيل لاحقًا إنَّ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية جرّد سلسلة “وطنية” التابعة له من بعض أصولها، ونقلَها إلى شركته الثانية لمحطات الوقود “تشِل آوت” (ChillOut)، التي لم تكن معروضة للبيع، ما قلّل من جاذبية “وطنية” للمشترين. كذلك أُفيدَ بأنَّ صندوقَ مصر السيادي عمد إلى تقسيم شركتَي “وطنية” و”صافي” كلّ منهما إلى شركتَين منفصلتَين بالتزامُن مع إطلاق المُناقصات في آذار (مارس) 2023. ولكن بعد مرور أكثر من عام، ليس هناك أيُّ دليل على وجود الشركتَين الجديدتَين التي يُفتَرَضُ أنَّ فصلهما قد تمّ.
وكان كبار المسؤولين أعلنوا مرارًا في غضون ذلك عن الإطلاق الوشيك للمناقصات على هاتَين الشركتَين التابعتَين لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، إلّا أنَّ المواعيد النهائية المُتعاقبة لتقديم العروض واختيار الأنسب منها مرّت وانقضت تباعًا من دون نتيجة، وهي كانت في 30 حزيران (يونيو) 2021، ثم “قبل إجازة الصيف” في العام 2022، وفي نيسان (أبريل) 2023، وأيار (مايو) 2023، وكانون الأول (ديسمبر) 2023، وأخيرًا “في وقتٍ قريب” بحسب السعيد، في كلٍّ من شباط (فبراير) وأيار (مايو) 2024. من الواضح أنَّ المعارضة العسكرية كانت السبب في تلك الإخفاقات المتكرّرة. فقد أكّدت “مدى مصر” هذا الأمر نقلًا عن مصدر رفيع المستوى في وزارة التخطيط أشار إلى “جهاتٍ في الدولة”، يُفهَم على أنها المؤسسة العسكرية، تراجعت مرارًا وتكرارًا عن اتفاقياتٍ جرى التوصّل إليها بعد مفاوضات شاقّة مع مشترين كانوا على استعدادٍ للتوقيع. ويبدو أن المؤسسة العسكرية تردّدت حتى في تقسيم شركة “وطنية”، مع أنَّ اقتراحَ الصندوق السيادي المصري كان ليترك لها شبكة محطات الوقود الأكثر ربحيّة في القاهرة الكبرى.
في هذا السياق، يبدو الآن أنَّ قرارَ الإعلان عن اجتماعٍٍ في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 بين السيسي وجنرالات بارزين في القوات المسلحة لمراجعة الاستعدادات لطرح أسهم شركتَي “وطنية” و”صافي” في البورصة كان محاولةً أخيرةً لكسر الجمود. واستقالة سليمان بعد حوالى عامَين على ذلك إنما تُشيرُ إلى أنَّ السيسي تقبّل الهزيمة. في الواقع، تزايدت شهية الجيش للمشاريع التجارية: فقد تضاعف عدد شركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية العاملة في الأسواق المدنية منذ تولّي السيسي سدّة الرئاسة في العام 2014، ليصل إلى 66 شركةً (بما في ذلك الشراكات والمشاريع المشتركة)، علمًا أن آخر استحواذ للمؤسسة العسكرية على شركة مدنية تمثّل في شراء شركة “بشاي للصلب” في أيلول (سبتمبر) 2023.
ولكن ما هو على المحكّ هو أكثر بكثير من بَيعِ حصصٍ في الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية. فالتغييرات التي أجراها السيسي حديثًا في صفوف القيادة العسكرية تأتي على خلفية خلافاته مع جنرالاته بشأن تأجير الأراضي والمنشآت في منطقة قناة السويس للمستثمرين الأجانب، وأخيرًا بشأن إعادة التوطين المحتملة للفلسطينيين من غزة في مصر (التي يُعتقَد أن السيسي يوافق عليها، والمؤسسة العسكرية والأمنية تعارضها). لقد كان مؤكّدًا أن ولاية السيسي الرئاسية الأخيرة ستكون صعبة، لكن التطورات في صندوق مصر السيادي توحي بأنه أصبح بالفعل في وضعٍ حرج.
- يزيد صايغ هو زميل بارز في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يقود برنامج العلاقات المدنية-العسكرية في الدول العربية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.