أينَ نَتَّجِه؟ تَفاهُمٌ مُقَيِّدٌ للحروب أم حَربٌ مَفتوحة؟
الدكتور ناصيف حتّي*
نشهَدُ لحظةَ تَصعيدٍ مُتبادَلٍ ومُتسارِعٍ بعدَ إسقاطِ إسرائيل مَرَّتَين لقواعدِ الاشتباك (توازُن الرَدعِ بشكلٍ خاص) التي كانت قائمةً وناظمةً للحروب المختلفة الأشكال، وخصوصًا على الجبهة اللبنانية-الإسرائلية (اغتيال مسؤول ل”حزب الله” في ضاحية بيروت الجنوبية واغتيال اسماعيل هَنيّة رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في طهران). والبعضُ يُضيفُ إلى عمليات إسقاط قواعد الاشتباك اغتيال القيادي في “حماس” ناصر العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية أيضًا في مطلعِ هذا العام.
يحصلُ ذلك بعدَ أشهرٍ عشرة من حَربِ الإبادة والاستئصالِ التي تقومُ بها إسرائيل في قطاع غزة ودخولِ مُتَغيِّرٍ أساسي في تاريخ هذا الصراع، وهو مفهومُ “وحدة الساحات” الذي أطلقه “محور المقاومة” كعقيدةٍ استراتيجيةٍ في مواجهةِ إسرائيل، التي وَضَعَت أهدافًا غير قابلةٍ للتحقيق في حربها على غزة وصارت أسيرةَ تلك الأهداف. الأمرُ الذي أضفى بُعدًا إقليميًا مُوَسَّعا، ولو بدرجاتٍ مختلفة من الانخراطِ المباشر، للحربِ القائمة وربما المقبلة، أيًّا كانت طبيعة هذة الأخيرة في جغرافيتها وحجمها وحِدّتها.
دخلَ عاملُ خُماسية “وحدة الساحات” كمُتَغَيِّرٍ أساسي في تاريخِ هذا الصراع، أيًّا كان بالطبع، كما أشرنا، دورُ وثقلُ وطبيعةُ مشاركةِ كلٍّ من هذه الساحات وأهمّية تلك المُشارَكة على الصَعيدَين السياسي الاستراتيجي والعملاني العسكري في الإقليم الشرق أوسطي. الإقليمُ الذي تزدادُ الأوضاعُ فيه، بسببِ هذا المُتَغَيِّر، سخونةً وخطرًا وانفتاحًا على المجهول ضمن سيناريوهات مختلفة. إسقاطُ إسرائيل للخطوط الحمر، التي كانت ناظمةً لهذه التفاهُمات ومُقَيِّدةً للأعمال القتالية، فَتَحَ البابَ على المجهول.
بدايةً لا بُدَّ من الإشارة عن احتمالِ حصولِ حربٍ، كما يُرَدّد البعض، أمرٌ غير دقيق. فالحربُ قائمة منذ أشهرٍ عشرة في حدّتها القتالية وازدياد ما يُعرَف، بمنطقِ الحروب، بالأهدافِ الاستراتيجية التي يتمُّ التعاملُ معها عسكريًا بما يُسَمَّى ب”بالضربات الجراحية”، كما إنَّ الكثافة النارية ازدادت ومعها توسَّعت جغرافيةُ حربِ الأهداف. فالحربُ قائمة حتى بدون حصولِ اجتياحٍ برّي على الجبهة الشمالية أو الجنوب اللبناني، كما كانَ تاريخُ الحروب الإسرائلية على لبنان وآخرها اجتياح صيف ٢٠٠٦. لقد أدرَكَت إسرائيل من تجاربها الماضية أنّهُ ليس من السهل الغَرَق في “المستنقع اللبناني”، ولا يُمكِنها تحقيقَ النتائج المُتَوَخّاة من حربٍ برّية كما دلّت على ذلك تلك التجارب، من دون أن يعني ذلك عدم احتمالِ السقوطِ مُجَدَّدًا في ذلك المستنقع وهي الغارقة حاليًا في مستنقع غزة.
إسقاطُ إسرائيل للخطوط الحمر أسقطها عند محور “تحالف الساحات” كما ستدلُّ على ذلك طبيعة الردود العسكرية المُنتَظَر حصولها من هذا المحور من حيث تنويع طبيعة الأهداف، وكثافة العمل العسكري، وتوسيع ساحة المواجهة في الجغرافيا الإسرائيلية كردٍّ على توسيع إسرائيل لأهدافها في الجغرافيا الإقليمية. تزدادُ الحماوة على الأرض فيما تزدادُ المبادرات والوساطات من قبل الأطراف الدولية والإقليمية المَعنية والمؤثِّرة لضبطِ هذه الردود، وكذلك الردود الإسرائيلية المُنتَظَرة مع تصاعُدِ التهديدات المُتبادَلة، تحت سقفٍ مُعَيَّن، أو بمعنى آخر من خلال بلورة قواعد اشتباكٍ جديدة. قواعد تاخذُ بعين الاعتبار وضع خطوطٍ حمر جديدة تقومُ على قاعدة التماثُل، بعد أن أسقطت إسرائيل تلك التي كانت قائمة.
الجديدُ في الأمر أنَّ مسرحَ المواجهة توسّعَ ليشمل أطرافًا وجغرافيةً من الخليج مرورًا بالبحرِ الأحمر وصولًا إلى المتوسط. ومن شبهِ المؤكَّد أنَّ المواجهة في “مسرح الصراع” التي كانت قائمة في غزة والجنوب اللبناني منذ أشهرٍ عشرة ستشهدُ سخونةً وتصعيدًا، ولو بدرجةٍ أقل عسكريًا، في الضفة الغربية، وستكون لها ارتداداتها الكبيرة .الضفّةُ الغربية هي قلبُ الصراع، بسبب الموقع الجغرافي والاستراتيجي والايديولوجي، باعتبارِ أنها جُزءٌ من “إسرائيل الكبرى”، بالنسبة إلى الدولة العبرية التي تُسَرِّعُ في استكمالِ عملية تهويدها في بيئةٍ من الصراعِ المُتفَجِّرِ والمفتوحِ على كافةِ الاحتمالات.
نحنُ اليوم أمام لحظةٍ مَفصَلية: فهل ستنجح “الأطراف الثالثة” في بلورةِ تفاهُمٍ جديدٍ، غير مكتوبٍ بالطبع، قوامهُ استيعاب التصعيد الجديد والمُنتَظَر تطوّره والمُتزايد في حدّته وجغرافيته تحت سقفٍ جديد، يستندُ إلى توازُنٍ في الردعِ، مع قواعد جديدة ومُقَيِّدة للحرب المستمرة والمفتوحة في الزمان والمكان؟ أم تنزلقُ المنطقة نحو حربٍ واسعةٍ بدونِ أيِّ سقوفٍ في جغرافيتها وحدّتها وأهدافها؟ الأيامُ المقبلة ستحمُلُ الجوابَ حولَ أيِّ سيناريو سيتحوّلُ إلى واقعٍ في الإقليم .
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).