“إعلان بكين”: هل مَسموحٌ صُلحُ الفلسطينيين وتَوَحُّدُهُم؟
محمّد قوَّاص*
لم تُفصِح أيُّ جهةٍ دولية عن خططٍ رسمية بشأنِ “اليوم التالي” في غزّة. ولئن لا تزالُ إسرائيل مُستَغرِقة في حربها في القطاع، فإنَّ ما يَصدُرُ عن منابرها ورئيس وزرائها لم يَضَع إطارًا نهائيًا للكيفية التي ترى فيها إسرائيل مُستَقبل غزّة. وما بينَ قطاعٍ تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية وقطاعٍ تحكُمهُ إدارةٌ مدنية مُختَلطة محلية-عربية-دولية، فإنَّ بنيامين نتنياهو لم يَهتَدِ إلى الصورة التي يتخيّلها لقطاعِ ما بعد الحرب.
وحدهم الغزّيون لا يتخيّلون غدهم، وهم الغارقون في كارثةٍ تأكل قطاعهم حجرًا وبشرًا وذاكرة وإمكاناتَ عيشٍ وبقاء. وفيما السلطة الفلسطينية لا تعثر على “اليوم التالي” إلّا في مسلّمات تكرار شعارات استعادة غزّة تحت سقف رام الله، فإنَّ “حماس” تتحرّى في سيناريوهات ما يُحَضَّرُ لغزّة ديمومةَ بقائها في حُكمِ القطاع أو على الأقل استمرار حضورها رقمًا صعبًا في تقرير مصيره في “اليوم التالي”.
يسهلُ على المُراقبِ أن يستنتجَ مُقاربة العواصم المَعنيّة مُستقبل غزة بالمفرّق، من دون السعي إلى رؤيةٍ جماعيةٍ شاملة. لإسرائيل مُخَيَّلة عدمية، وللعواصم البعيدة خططٌ تجريبية يتمُّ كَشفُ وجهٍ لها وسَترُ الوجوهِ الأخرى، فيما تُردّدُ العواصم القريبة بلهجاتٍ متفاوتة، المُطالبة بمسارٍ سياسيٍّ يُقيمُ دولةً فلسطينية، قبل الشروع في أيِّ انخراطٍ بخططٍ لإعادة الإعمار أو المشاركة في سيناريوهات أمن القطاع وإدارته.
على هذا، يبدو اتفاقُ حركتَي “فتح” و”حماس” (و12 فصيلًا فلسطينيًا آخر) في بكين، الثلاثاء 23 تموز (يوليو) الجاري، من عدّة الشغل اللازمة لـ”سُلطَتَي” رام الله وغزّة، للحضور في مستقبل القطاع والتَمَوضُع للقبض عليه. فإذا كانت عواصمٌ تستبعدُ بقاءَ “حماس” في القطاع، فإن تحفّظها، ومنها العربية، على السلطة الفلسطينية، يجعلُ من تقاطُعِ الحركتَين الفلسطينيتَين يشبهُ زواجَ مصلحةٍ موجعًا لزوجَين امتهنا حرفة التكارُه وطابت لهما متعة الانفصال.
يُمكِنُ هنا تسجيلُ اختراقٍ جديد تُحقّقهُ الصين في ملفٍّ ساخنٍ في الشرق الأوسط. سبقَ لها أن أدلت بدلوٍ مُفاجئ حين رعت اتفاقًا كان يبدو قبل ذلك مستحيلًا بين السعودية وإيران. أبرم الطرفان اتفاق “الصلح” في 10 آذار (مارس) 2023 برعايةٍ صينية كاملة أقلقت واشنطن واستفزّتها. منحَ أطرافُ الخلاف الصين “شرف” رعاية اتفاقهما بعدما استضافت بغداد على مدى سنواتٍ حوارًا استكشافيًا (وفق تعبير وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان) بينهما. وبدا أنَّ ثمارَ التحاور يحتاج إلى ضامنٍ وراعٍ بمستوى دولةٍ كبرى “صديقة” مثل الصين.
ولئن صمدت السابقة الصينية في علاقاتِ السعودية وإيران، فإنَّ “إعلان بكين” الأخير الذي صَدَرَ عن “فتح” و”حماس” (والفصائل) والذي يُحسَبُ للهمّة الصينية لرأب صدع الانقسام والتبشير بالوحدة والصلح، لا يحمل، حتى الآن، بذورَ صمودٍ وبقاء. فإذا كانت للصين مكانةٌ في ذاكرة فلسطين والفلسطينيين، غير أنَّ بكين لا تملك نفوذًا أو “مَونة” يفرضان على المُنقَسِمين ما فشلت فيه هممٌ مصرية وسعودية وتركية وروسية وجزائرية… إلخ، قبل ذلك.
من حقِّ الشعبِ الفلسطيني ألّا يثق بصدق نوايا فصائله، لا سيما الكبيرة منها (“فتح” و”حماس”)، بشأنِ ذهابها إلى مسارٍ وحدوي لا رجعةَ عنه. سمعَ منها قبل ذلك كلامًا تَقشَعِرُّ له الأبدان في أحضانِ مكة التي أبرمت تحت سمائها ورقة صلح في العام 2007. تردّدت الوعود لاحقًا، وكلها كاذبة، في عواصم كثيرة من غير أن تؤدّي إلى جديدٍ لافت يقفلُ ملفَّ جدار الدم الذي وَلّدَ طلاقًا بين الفصيلين وبين الضفة والقطاع منذ العام 2007. ولئن يُفتَرَض أن تكونَ لكارثة غزّة الحالية مفاعيل تاريخية تضخّ جرعاتٍ أخلاقية في خطابِ المصالحة، فإنَّ وقائعَ الأخلاق ليست من قواعد علم المَصالح وقواميس العلاقات السياسية.
ومنطقُ الأمورِ يقول إنَّ القوى السياسية الفلسطينية غير قادرة وحدها على إنتاجِ واقعٍ جديد لا تملكُ كلَّ مفاتيحه. تنبّهَ الصينيون إلى ذلك، وأشار وزير خارجيتهم، وانغ يي، بحصافة إلى أنَّ الإنجازَ سيبقى ناقصًا وقاصرًا إذا لم يحظَ بدعمٍ دولي. لكن، قبل اقتفاءِ مساراتٍ حاضنة دولية لفلسطين والفلسطينيين، فإنَّ مسألةَ وحدة الفلسطينيين تُعيدُ طَرحَ السؤال القديم-الجديد بشأنِ مصلحةِ إيران في دعمِ “إعلان بكين” الفلسطيني، لا بل مصلحة إيران أساسًا في الشروعِ بديناميةٍ فلسطينية خالصة لا تأخُذُ في الاعتبارِ حسابات طهران في أيِّ مآلاتٍ مُحتَملة ينتهي إليها “اليوم التالي” للحرب في غزّة.
لم يَكُن تفصيلًا أن تهرَعَ وكالة الأنباء الإيرانية (إرنا) لتنقل عن عضو المكتب السياسي لحركة “الجهاد الإسلامي” إحسان عطايا قوله، إنَّ ما وردَ في البيان الختامي للحوار الفلسطيني في الصين غير دقيق. وبغَضِّ النظر عن فتاوى “الجهاد” في شأنِ اتفاقٍ شاركت في التوقيع عليه، غير أنَّ في اعتراضٍ “تنظيري” على سياقٍ دولي ينهلُ ظروفه من خلفيةِ مأساةِ غزّة، ما يَشي بأنَّ دون اتفاقِ الفلسطينيين حتى برعاية وضيافة دولة عظمى مثل الصين، مصالح غير مفاجئة ويسهل توقّعها. من تلك المصالح، للمفارقة، ما تُعبّرُ عنه إسرائيل التي اشتغلت طويلًا على تصدُّعِ جدران الفلسطينيين ورعاية تمويله. وإذا كانت الفصائل الموالية لإيران تنتفضُ على نصوص واجتهادات في بيان الاتفاق، فإنَّ إسرائيل غضبت من طموح وزير خارجية الصين لاتفاقٍ فلسطيني هدفه “إدارة غزة بعد الحرب”، وهي لا ترى في الاتفاق والنصّ والموقّعين عليهما إلّا ترهات من خيال، بحيث أنها لا تزال تُمَنّي النفس بغزّة من دون الفلسطينيين.
هو “إعلان” في بكين، وليس اتفاقًا. يتحدث عن فلسطين مُتَخَيّلة، متجردة من مرجعيات دولية، محمولة على نصٍّ حمّال أوجه يهدف إلى تمريره بأقل الخسائر، يقوم على ركاكةٍ يُرادُ لها حفظ ماء وجه المناسبة من دون أجندةٍ أو آلياتٍ أو دفترِ شروط أو برنامجٍ سياسي. وإذا كان موقفُ إسرائيل السلبي والمُهدِّد مُتَوَقّعًا، فإنَّ هذا الموقف بحدِّ ذاته حافزٌ عفويٌ لـ”المخاطرة” بالصلح وتطوير “إعلان بكين” إلى جسمٍ تنفيذي تمثيلي واحد.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).