منطقةُ الخليج ازدَهَرت بدونِ ضريبةِ الدخل، لكنَّ الزمنَ يَتَغَيَّرُ
عمر العبيدلي*
تقليديًأ وتاريخيًا، رفضت دولُ الخليج العربية ضريبةَ الدخل الشخصي لأسبابٍ عدّة مُختلفة. في هذا العام يبدو أنَّ الظروفَ قد تغيّرت، وتحوَّلت مثل هذه الضريبة إلى خيارٍ قابلٍ للتطبيق. أحدُ العوامل الداعمة الرئيسة لذلك يتمثّلُ في الخلل السياسي الذي يُعاني منه العديد من الدول الغربية، حيث أدّى إلى تغيير الخطاب العام المُحيط بالدورِ الذي تلعبه الضرائب في المجتمعات الحديثة.
قبل اكتشاف النفط، كانت الحياة البدوية وشبه البدوية هي القاعدة في معظم أنحاء الخليج، ما استبعدَ إمكانية وجودِ نوعٍ من البيروقراطيات المركزية القوية التي نراها عادةً في أوروبا. كانت الضرائب محدودة للغاية، وكان نطاقُ الحكومة يقتصرُ عادةً على الأمن الداخلي والدفاع الخارجي.
بعدَ إنشاءِ الدول الحديثة واكتشافِ النفط، حصلت حكومات الخليج على إيراداتٍ أتاحت لها توسيعَ أنشطتها لتشمل الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والضمان الاجتماعي. ولكن، على عكس أوروبا، تمَّ تحقيقُ ذلك بدونِ فرضِ ضرائب بسبب وفرةِ الدَخلِ الهيدروكربوني.
بحلولِ مُنتصَفِ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حدثَ تطوّران جعلا الترتيب السابق غير مقبول بالنسبة إلى بعضِ دول الخليج. الأول هو أنَّ النموَّ السكاني تجاوَزَ معدّل زيادة عائدات النفط، ما أدّى إلى انخفاضِ نصيبِ الفرد من عائدات النفط. أما السبب الثاني فكانَ انخفاضَ أسعار النفط على المدى الطويل، خصوصًا بعد انهيار 2014-2016. ومع تزايد مُتَطلِّبات موازناتها، اضطرّت حكوماتٌ خليجية عدّة إلى إعادة النظر في الإنفاق وزيادة الضرائب.
لا أحدَ يستمتعُ برؤية زيادة العبء الضريبي أو يُريده. وهذا يعني أنَّ استراتيجيةَ الاتصالات التي تتبعها الحكومة عندما تَفرُض أيَّ ضرائب تُشكّلُ أهمّية بالغة لنجاح الضرائب في المدى الطويل. والمفتاحُ هنا هو إقناعُ عامة الناس بأنَّ الوضعَ السائد غير قابل للاستدامة، وأنَّ البدائلَ لزيادة الضرائب أسوأُ كثيرًا.
ولا يقلُّ أهمّية عن ذلك الخطاب العام هو الغَرَضِ الذي تخدمه الضرائب. في بعضِ الحضارات التاريخية، وأبرزها تلك الموجودة في إنكلترا، هناك معايير قانونية واجتماعية مُحدَّدة للغاية تتعلّقُ بعمليةِ فرض الضرائب يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر، ولا تزال هذه القواعد تُشكّلُ آراءَ الناس العاديين بعد 800 عام، وتُعزّزها المناهج التعليمية التي يتعلّمها جميع أطفال المدارس. وفي الخليج، على الرُغم من أنَّ الأمرَ ليس كذلك، إلّا أَّنَّ المجالَ أمام الحكومات أكبر بكثير لتشكيل توقّعات الناس في ما يتعلّق بالضرائب.
كانت الخطوة الأولى التي تمَّ اتخاذها هي فرض ضريبة القيمة المضافة (VAT) في أواخر العام 2010. وقد تمَّ اتخاذ هذا الخيار من بين مجموعة واسعة من الخيارات، بما فيها ضريبة الدخل، وضريبة الشركات، وضريبة الميراث، وضريبة الأملاك، وما إلى ذلك. وفي حين ساهمت عوامل عديدة في هذا الاختيار، هناكَ عاملان جديران بالملاحظة بشكلٍ خاص. الأول هو تشابهها الاسمي مع الضريبة الوحيدة التي يدفعها الناس في الخليج منذ فترة طويلة: الضريبة الجمركية. وهذا ما سهّل تقديمها كامتدادٍ طبيعي للنظام الحالي.
والثاني هو ما يسميه الاقتصاديون ضريبة غير مباشرة، أي أنها تُفرَضُ على السلع والخدمات، على عكس الضرائب المباشرة مثل ضريبة الدخل، التي تُفرَض على الأفراد والمنظمات. على المستوى النفسي، هذا يجعلها مُستساغة أكثر للفرد، لما لها من بريق لكونها قابلة للتجنُّب قانونيًا بالنسبة إلى المستهلك الحاذق. إنَّ الضرائبَ المباشرة أكثر شخصية في تكوينها، الأمر الذي يؤدّي في كثيرٍ من الأحيان إلى شعورٍ أكثر عُمقًا بالنفور من الشخص الذي يخضع للضريبة، كما حدث عندما حاولت رئيسة وزراء المملكة المتحدة السابقة مارغريت تاتشر فرض “ضريبة على الرأس” (poll tax) خلال الثمانينيات الفائتة.
وقد ساهمت ضريبةُ القيمة المُضافة بشكلٍ إيجابي في استدامة المالية العامة في البحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وفي سلطنة عُمان، مع استمرار النمو السكاني واستمرار عدم اليقين في توقّعات أسعار النفط، يُفكّرُ التكنوقراطيون الماليون في فرضِ ضريبةٍ على الدخل.
فإلى جانبِ قدرتها على توليدِ إيراداتٍ قوية للحكومة، تتمتّعُ ضريبة الدخل بفضيلةٍ إضافية مُقارنةً بضريبةِ القيمة المضافة: فمن الأسهل جعلها تصاعُدية، وهذا يعني أنَّ الأشخاص ذوي الموارد الأعلى يدفعون حصةً أعلى بشكلٍ غير متناسب. وفي بلدان مثل الولايات المتحدة، تُعتَبَرُ ضرائب الدخل سلبية فعليًا بالنسبة إلى ذوي الدخل الأدنى، حيث أنهم لا يدفعون أي ضرائب ويتلقّون دعمًا للدخل، وترتفع إلى حوالي 10 في المئة بالنسبة إلى ذوي الدخل المنخفض، ثم تصبح إيجابية بشكل حاد بالنسبة إلى أصحاب الدخل الأكبر والأعلى في المجتمع. إنَّ المقاومة المجتمعية للضرائب التصاعُدية أقل بكثير من المقاومة المحايدة أو الرجعية، لأنَّ العبءَ على الأغنياء أعلى بكثير.
وقد أدّى تطورٌ خارجي إلى زيادة جاذبية ضريبة الدخل لبعضِ المجتمعات الخليجية. في الماضي، كانت الدول الغربية التي كانت تفرضُ ضرائب على الدخل تتمتع أيضًا بأفضلِ بنية تحتية وتعليم وصحة وجيوش في العالم. وقد خلق هذا ارتباطًا ذهنيًا بين فرض الضريبة والنظام الاجتماعي والسياسي الشائع في الغرب. ولكن مزيجًا من التدهور الاقتصادي والسياسي الذي يشهده الغرب كان سببًا في قطعِ هذا الارتباط.
على سبيل المثال، عندما كان السيّاح الخليجيون يسافرون إلى الدول الغربية في الثمانينيات الفائتة، كانوا يتعجَّبون من نظافة الشوارع، وجَودةِ وسائل النقل العام، وكفاءة المستشفيات، وما إلى ذلك. علاوةً على ذلك، كانوا يشعرون بالأمان أثناء السير في الشارع. ولكن، في العام 2024، يغيبُ العديدُ من هذه الفضائل، ويشعر الناس في منطقتنا بعدم الأمان حقًا عند زيارتهم، أو عند القراءة عن جرائم العنف المروعة من خلال وسائل الإعلام بانتظامٍ مُتزايد.
وبناءً على ذلك، عندما يُروِّجُ مسؤولٌ حكومي في الخليج لفكرةِ فرضِ ضريبة الدخل ويُبرّرها بالإشارة إلى الخدمات العامة الجيدة النوعية التي يتمتع بها السكان في ظل النظام الاجتماعي السياسي في الخليج، فإنَّ الحجّةَ تُصبحُ أكثر إقناعًا من أيِّ وقتٍ مضى.
يُقدّرُ الناسُ في المنطقة تقديرًا عاليًا الخدمات التي تُقدّمها دولتهم، مثل وضع المجرمين العنيفين خلف القضبان والمناهج التعليمية التي لا تستجيب بشكلٍ مُفرِط لمطالب المجموعات النشطة سياسيًا. وفي حين أنَّ لا أحدَ يُريدُ دفعَ ضريبةِ الدخل، فإنَّ مواطني الخليج يُدركون تمامَ الإدراك أنهم محظوظون مُقارنةً حتى بأولئك الذين يعيشون في بعض أغنى البلدان في العالم، وبالتالي فإن تسامحهم مع مثل هذه الرسوم ربما يكون في أعلى مستوياته على الإطلاق. لذلك، في حين أن ضريبة الدخل ليست بأيِّ حالٍ من الأحوال نتيجةً مفروغًا منها، فلا تُراهن ضدّها أيضًا.
- عمر العبيدلي هو مدير دراسات الاقتصاد والطاقة في مركز “دراسات” في البحرين وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية.