أزمةُ البحرِ الأحمر تتجاوَزُ الحوثيين

لا يُمكِنُ حلُّ الأزمات المُتعدِّدة في القرن الأفريقي بشكلٍ مُستدام إلّا من خلال الجهّات الفاعلة داخل المنطقة. مع ذلك فإنَّ غالبيتها تُدرك أنَّ الولايات المتحدة يجب أن تكونَ المُحفّزَ الحاسمَ للسلام.

مروحية أميركية تحلق فوق البحر الأحمر، شباط/ فبراير 2024

جوني كارسون، وأليكس روندوس، وسوزان ستيغانت، ومايكل وُلدمَاريَام*

البحرُ الأحمر في أزمة. وفي قلب العاصفة يقفُ المتمرِّدون الحوثيون في اليمن، الذين أطلقوا العنانَ لموجةٍ من الهجمات على السفن التي تَعبُرُ أحدَ المضائقِ البحريةِ الأكثر أهميةً في العالم، لدَعمِ حَربِ حركة “حماس” ضدّ إسرائيل. تَفرُضُ مُناورةُ الحوثيين في البحر الأحمر تكاليفَ باهظة على التجارة العالمية، كما فعلت مشكلة القرصنة الصومالية سابقًا، التي بلغت ذروتها في العام 2010. وقد تدخّلت الولايات المتحدة وبعض حلفائها لقمعِ التهديدِ عسكريًا، وقصَفت مواقع الحوثيين داخل اليمن. لكن على الرُغمِ من أنَّ هذه الحلقة العنفية تُوضِحُ الصعوبات التي يواجهها أمن البحر الأحمر، إلّا أنَّ الأزمةَ تمتَدُّ إلى ما هو أبعد من المشاكل الناجمة عن اليمن.

إنَّ العُنفَ السياسي وتفتُّتَ الدولة اللذين غذّيا صعودَ الحوثيين في اليمن، يُعيثان الآن فسادًا في جميع أنحاء القرن الأفريقي الأوسع. من المُمكنِ أن تؤدّي شبكةٌ واسعةُ النطاق من الصراعات داخل الدول وبين الدول، والتي تمتدُّ من السودان إلى الصومال، إلى فوضى غير مسبوقة في جميع أنحاء القرن الأفريقي، ما يخلقُ مساحةً لشبكاتِ المُتَشَدِّدين الإسلاميين المُتَطَرِّفين والدولِ المُعادية للمصالحِ الغربية وللبحر الأحمر الحُرِّ والمَفتوح. إنَّ منعَ الوَضعِ من التفاقُمِ سوفَ يتطلَّبُ تشكيلَ تحالُفٍ ديبلوماسيٍّ واسع النطاق لتهدئة الصراعات المُتَعَدِّدة في القرن الأفريقي. لكن مثل هذا الجهد لا يُمكِنُ أن ينجحَ بدونِ دَعمٍ ديبلوماسيٍّ أميركي قوي. ويجب أن تعملَ الجهودُ التي تقودها الولايات المتحدة على رَدعِ التدخُّلات المُزَعزِعة للاستقرارِ من جانبِ الأطراف الخارجية مثل الإمارات العربية المتحدة وإيران، اللتين قدّمتا الدعمَ العسكري للجهات الفاعلة المتحاربة في أماكن مثل السودان. وسوف تحتاجُ أيضًا إلى تجنُّبِ حدوثِ مجاعةٍ على مستوى المنطقة، والتي سيكون تهديدُها أكثر حدّةً في السودان وإثيوبيا. وسوفَ يتطلّبُ الاضطلاعُ بهذه المهام الشاقة تعزيزَ التواصُلِ الديبلوماسي من جانبِ كبار المسؤولين الأميركيين، بمَن فيهم الرئيس الأميركي جو بايدن. إذا تفاقمت الأزمات المُترابطة في المنطقة، فإنَّ الأطرافَ المُعادية للمصالح الأميركية والغربية والبحر الأحمر الحرّ والمَفتوح قد تكتسبُ ميزةً استراتيجية في هذا الممرِّ البحري المُهِمّ.

منطقةٌ في حالةِ حرب

تتسبَّبُ الحروبُ المُتعدِّدة في عدمِ استقرارٍ عميق في القرن الأفريقي وتساهم في الأزمة في البحر الأحمر. في الفترة من 2018 إلى 2019، أطاحت الثورات الشعبية النظامَين الاستبدادِيَين القديمَين في إثيوبيا والسودان، لكن كلا الدولتين انزلقتا منذ ذلك الحين إلى مستوياتٍ مُذهلةٍ من العنف. وأدّت حربٌ استمرَّت عامين بين السلطات الفيدرالية الإثيوبية وقوات من منطقة تيغراي إلى مقتلِ أكثرِ من 500 ألف شخص وتشريدِ ملايين آخرين. ويتعرَّضُ اتفاقُ تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 الذي أنهى هذا الصراع لضغوطٍ مُتزايدة حيثُ تَنتَظِرُ أحكامٌ عدّة الأكثر إثارةً للجدل التنفيذ. وتُعاني أكبر منطقتَين في إثيوبيا –أوروميا وأمهرة- من حركاتِ تمرُّدٍ مُستَعصِية، وانتهت المحادثات الرامية إلى حلِّ الصراع سلميًا في أوروميا بالفشل في تشرين الثاني (نوفمبر). وعلى الرُغمِ من أنَّ عاصمةَ البلاد، أديس أبابا، لا تزالُ مُستَقرّة، فإنَّ انعدامَ الأمن أمرٌ ثابت في معظم المناطق الريفية النائية.

تُشَكِّلُ التوتّراتُ الداخلية في إثيوبيا خلفيةً لتدهورِ علاقاتها مع إريتريا، التي تُواجِهُ بدورها أسئلتها التي تلوحُ في الأفق بشأن زعيمها المُسِن والانتقال السياسي المُحتَمَل المُضطَرِب. ظلَّ الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، البالغ من العمر 78 عامًا، في السلطة منذ ثلاثة عقود، ويرأس نظامًا استبداديًا شديد الشخصية مع القليل من الآليات القابلة للتطبيق لإدارة الخلافة. في كانون الثاني (يناير)، وَقَّعَت إثيوبيا، وهي دولة غير ساحلية، مُذكّرةَ تفاهُمٍ بشأنِ الوصول إلى الموانئ مع أرضِ الصومال غير المُعترَف بها دوليًا، التي انفصلت عن الصومال في العام 1991. خلال عملية التوقيع، قال رئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي إنَّ الاتفاقَ سيتضمَّن اعترافَ إثيوبيا بأرضِ الصومال كدولةٍ مستقلة، الأمرُ الذي قد يؤدّي إلى نزاعٍ خطير بين أديس أبابا ومقديشو وعرقلة الجهود الهشّة لتحقيق الاستقرار في الصومال. وقد تُواجِهُ جيبوتي، المَنفَذ التقليدي للسلع والخدمات الإثيوبية، تداعياتٍ سياسية واقتصادية نتيجة لتعميق العلاقات بين إثيوبيا وأرض الصومال، وفي الوقت نفسه تواجه أيضًا شكوكًا بشأن الخلافة السياسية.

وبينما كانَ هذا يحدث في إثيوبيا، فإنَّ الدولة السودانية انهارت فعليًا. أطاح جهاز الأمن السوداني المُنقَسِم الإدارة الانتقالية لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، ثم انزلقت البلاد إلى صراعٍ داخلي مُدمِّر في نيسان (أبريل) 2023. وبحلول أوائل العام 2024، كانت البلاد مسرحًا لأكبرِ أزمةِ نزوحٍ في العالم، حيث أدّى العنفُ إلى دَفعِ ما يُقدَّر بنحو 10 ملايين شخص للفرار من منازلهم. خلال معظم فترات الحرب، تمَّ تقسيمُ العاصمة والبلاد فعليًا إلى قسمين، حيث دخل الطرفان المُتحارِبان الرئيسيان –-“قوات الدعم السريع” و”القوات المسلحة السودانية”– في مأزقٍ مُكلِفٍ يَعتَقِدُ كلٌّ منهما أنه قادرٌ على الإنتصار فيه. ومن المُثيرِ للقلق أنَّ هذه الحرب الوحشية أصلًا من المتوقّع أن تُصبِحَ أكثر دموية، حيث تشنُّ “قوات الدعم السريع” هجماتٍ على شرق السودان، ويُظهِرُ كلا الجانبين علامات التشرذم الداخلي، ويسعى كلٌّ منهما إلى تعبئة قواعده الشعبية على أسُسٍ عرقية وطائفية.

أدَّت الحربُ في السودان أيضًا إلى تعطيلِ عبورِ نفط جنوب السودان إلى البحر الأحمر، وخفَّضت أكثر من 75% من الإيرادات المُتدفّقة إلى خزائن السلطات في جوبا، عاصمة جنوب السودان. إنَّ خسارةَ هذه الأموال تؤدي إلى انهيار الصفقات القائمة على المحسوبية والتي ترتكز عليها سياسة الدولة التي مزّقتها الحرب. لقد أمضى موظَّفو الخدمة المدنية، فضلًا عن الأجهزة العسكرية والأمنية، أشهرًا بدون رواتب، ويأتي هذا التطوُّرُ المُثير للقلقِ قبل عمليةٍ انتخابيةٍ غير واضحة المعالم من المحتمل أن تكون مُتَقَلِّبة حيث من المتوقع أن تحدث في وقت لاحق من هذا العام. وفي الشرق والشمال، تُزيدُ الفوضى في السودان من التوترات الثلاثية بين الحكومة الفيدرالية في إثيوبيا، وسلطات تيغراي، وإريتريا، التي تستثمر جميعها بشكل وثيق في توازن القوى في شرق السودان. كما أدّى الأمرُ إلى شلِّ المفاوضات بشأن سدِّ النهضة الإثيوبي الكبير، وهو مشروعٌ ضخم للبنية التحتية يؤثِّرُ في إمداداتِ المياه في مصر والسودان. وقد انهارت الجولة الأخيرة من المحادثات في كانون الأول (ديسمبر) وسط اتهاماتٍ بسوءِ النية بين مصر وإثيوبيا.

من جهتها، تواجهُ كينيا نقطةَ انعطافٍ سياسية، حيث يتعرّضُ قادتها لضغوطٍ من أجل موازنة ميزانيتهم ​​مع الاستجابة لأولويات المواطنين، كما يتَّضح من الاحتجاجات الأخيرة المُتعلّقة بالضرائب وحَلِّ مجلس الوزراء لاحقًا. كما إنَّ العاصفة التي تتجمّعُ على طولِ حدود كينيا تتطلَّبُ على نحوٍ متزايد وقتَ قادتها واهتمامهم وقيادتهم الديبلوماسية.

مصادرُ الاضطراب

الواقع أنَّ هذه المنطقة ليست غريبة على عدم الاستقرار. لكنَّ الأزمةَ الحالية غير مسبوقة من حيثُ الحجمِ والنطاق. وتتفاقَمُ هذه الأزمة أيضًا بفِعل ثلاث مشاكل ناشئة تتعلّقُ بالنظام العالمي المُتَغَيّر في القرن الحادي والعشرين. العاملُ الأول والأكثر أهمية في ما يتعلق بمنطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر هو القوّة المتنامية للقوى المتوسّطة الحريصة على فَرضِ نفسها في ساحتها الخلفية وعلى الساحة الدولية. لقد أدّى انفجارُ الحرب الأهلية في اليمن في العام 2014 والأزمة بين دول الخليج بعد ثلاث سنوات (والتي شهدت وَضعَ قطر تحت الحصار من قبل جيرانها) إلى حدوثِ موجةٍ من التدخُّلات المالية والعسكرية عبر القرن الأفريقي من قبل قوى الشرق الأوسط العازمة على تنميةِ العملاءِ المحليين وحرمان المنافسين الإقليميين من الميزة الاستراتيجية. وحتى مع تضاؤل ​​المنافسات التي غذّت هذا التدافع، فإنَّ نمطَ التدخُّل العدواني وآثاره المُنهِكة لم يتضاءل. ومع تدفق الأموال والمعدّات العسكرية، تُضاعِفُ الجهاتُ الفاعلة المحلية في جميع أنحاء القرن الأفريقي جهودها للإكراه على حسابِ المفاوضات. وتقع الإمارات العربية المتحدة في قلب هذا النشاط الإشكالي، كما تُظهِرُ تدخّلاتها الأخيرة في السودان (حيث تدعم قوات الدعم السريع) وإثيوبيا (حيث تدعم رئيس الوزراء أبي أحمد). لكنَّ دولًا أُخرى عدّة كانت مُذنبة أيضًا في هذا المجال، بما فيها مصر وإيران وقطر والمملكة العربية السعودية وتركيا.

تعملُ الضغوطُ الديموغرافية والمناخية والاقتصادية الكُلِّية المُتقارِبة بمثابةِ مُحفِّزاتٍ إضافيةٍ للفوضى. ويلعبُ تضخُّمُ أعداد الشباب على مستوى المنطقة والتوسّع الحضري السريع دورًا في خلقِ مطالب جديدة للحراك الاقتصادي لا تستطيع العديد من الحكومات تلبيتها. بين العامين 2020 و2023، عانت منطقة القرن الأفريقي من خمسة مواسم مُمطِرة فاشلة، ما تسبَّب في أسوَإِ موجةِ جفافٍ منذ الثمانينيات؛ وفي الوقت نفسه، عانى جنوب السودان وكينيا من الفيضانات المُنهِكة. وتؤدي هذه الصدمات البيئية، إلى جانب الصراعات، إلى إنتاجِ أزماتِ جوعٍ حادة في السودان وجنوب السودان وتيغراي، مع تعرُّضِ ما يقرب من 30 مليون شخص لخطر المجاعة. وتعاني جميع بلدان المنطقة تقريبًا من مزيجٍ سامٍ من الديون، وارتفاع التضخم، والنقص الحاد في العملة الصعبة الناجم عن قوى اقتصادية عالمية خارجة عن سيطرتها، ومن تعطُّلِ سلسلة التوريد، وزيادة تكاليف الاقتراض.

من ناحيةٍ أخرى، أدّى انهيارُ التعدُّدية العالمية إلى تقويضِ الاستجابات الدولية للأزماتِ المُتَعَدِّدة في القرن الأفريقي. طيلة أربع سنوات، كانت المنافسة الجيوسياسية بين الصين وروسيا والولايات المتحدة سببًا في إحباطِ أيِّ تحرُّكٍ جدّي من جانبِ مجلس الأمن الدولي بشأن الحربَين في السودان وإثيوبيا. لقد تخلى وسطاء الاتحاد الأفريقي إلى حدٍّ كبيرٍ عن المَبدَإِ التأسيسي للمنظمة المُتمثّل في “عدم اللامبالاة”، ولم يفعلوا سوى القليل من الجوهر لمُعالجةِ هذه الصراعات حتى عندما تتطلّبُ أدوارًا بارزة في أيِّ عملياتِ سلام. ف”الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بالتنمية”، وهي منظمة التجارة الإقليمية في القرن الأفريقي، مُصابةٌ بالشلل بسبب المنافسات الداخلية، وهي غير مهتمة بزعزعة الوضع من خلال ملاحقة مبادرات السلام التي تُنَفِّرُ بعض الدول الأعضاء. وحتى لو كانت المنظمات الإفريقية المتعدِّدة الأطراف راغبةً في التحرُّك، فإنَّ النجاحَ سيتطلَّبُ التعاونَ مع لاعبين أقوياء من الشرق الأوسط في وقتٍ حيث لا يوجد منتدى للبحر الأحمر يجمع دول أفريقيا والشرق الأوسط ويجعل الحلول العابرة للإقليمية مُمكنة.

إنَّ عدمَ الاستقرار المُتزايد هذا كان كارثيًا بالنسبة إلى شعوبِ المنطقة. سيتمُّ استغلاله أيضًا من قبل كوكبةٍ من الجهات المُعادية للمصالح الغربية والبحر الأحمر الحرّ والمفتوح. على سبيل المثال، تستعدُّ جماعة “الشباب” الإسلامية الجهادية للانطلاق في الصومال. ويكافحُ الرئيس حسن شيخ محمود لقمعِ الجماعة المُتَشَدّدة والحدِّ من قدرتها على تشكيلِ السَردِ الوطني. كمل يبدو أنهُ مشتَّتٌ بسبب التقارب المتزايد بين إثيوبيا وأرض الصومال والتنافُسِ بين إدارته والولايات الأعضاء في الصومال. ويواجه أيضًا سحب الدعم العسكري من الشركاء الدوليين. وأعلن بعضُ المراقبين علانيةً عن اعتقاده بأنَّ عودة حركة الشباب إلى مقديشو باتت وشيكة، حيث كان لها وجودٌ قوي بين العامين 2009 و2012 – وهي نتيجةٌ يُمكِنُ مُقارنتها بعودة طالبان في العام 2021 إلى كابول في أفغانستان. وهذا الواقع من شأنه أن يُعرِّضَ على الفور للخطر كلًا من كينيا المجاورة وحتى إثيوبيا، التي كانت تاريخيًا محصَّنة ضد هجمات التنظيم ولكنها شهدت توغُّلًا كبيرًا في تموز (يوليو) 2022. وفي السودان، يشعرُ مسؤولو المخابرات الغربية بالقلق علنًا من أنَّ الفوضى السائدة ستخلقُ فُرَصًا جديدة لشبكاتٍ إرهابيةٍ محلية أو لمجموعاتٍ تابعة لتنظيمَي “القاعدة” و”الدولة الإسلامية” (“داعش”) من منطقة الساحل وليبيا.

كما إنَّ الدولَ الرجعية بدورها تُقدِّمُ أيضًا عروضًا ملموسة للحصول على السلطة في البحر الأحمر وخليج عدن وما حولهما. لقد قدّمت مجموعةُ “فاغنر” شبه العسكرية الروسية الدَعمَ ل”قوات الدعم السريع”، لكن الكرملين يقوم الآن برعاية طرفَي الحرب السودانية في محاولةٍ للاحتفاظِ بحصصِهِ في اقتصاد الذهب في البلاد وتحقيق اتفاق العام 2020 الذي من شأنه أن يمنحَ موسكو قاعدة بحرية في البحر الأحمر على ساحل السودان. أصبحَ نفوذُ روسيا في السودان كبيرًا الآن. وهي تستغل أيضًا انعدامَ الأمن لدى إريتريا في ما يتعلق بإثيوبيا لتعميق العلاقات مع هذه الدولة الاستراتيجية المطلة على البحر الأحمر. في هذه الأثناء، تسير إيران أيضًا في طريقها إلى الأمام. في العام 2015، أدّى الضغطُ السعودي إلى قيام الدول في جميع أنحاء المنطقة بتخفيضِ علاقاتها الثُنائية مع طهران، لكنها الآن صارت لاعبًا نشطًا في حرب السودان، حيث قامت بتوفيرِ الأسلحة للقوات المسلحة السودانية في الأشهر الأخيرة في محاولةٍ لإعادةِ بناء العلاقات التاريخية مع الأجهزة الأمنية في البلاد. ويأتي ذلك على خلفيةِ أدلّة على أنَّ إيران زوَّدت الجيش الإثيوبي بطائراتٍ مُسَيَّرة في ذروة حرب تيغراي.

الاعتمادُ على الأصدقاء

لا يُمكِنُ حلُّ الأزمات المُتعدِّدة في القرن الأفريقي بشكلٍ مُستدام إلّا من خلال الجهّات الفاعلة داخل المنطقة. مع ذلك فإنَّ غالبيتها تُدرك أنَّ الولايات المتحدة يجب أن تكون المُحفّزَ الحاسم للسلام. ويُحسَبُ لإدارة بايدن أنها تُقدِّرُ هذا الواقع. وهي في قلبِ الجهودِ الديبلوماسية لحلِّ الحروب في السودان وإثيوبيا وتهدئة التوتّرات بشأنِ اتفاقِ إثيوبيا وأرض الصومال. فهي لا تزالُ مصدرًا رئيسًا للمساعدات الإنسانية للمنطقة، وتظلُّ داعمًا رئيسًا لجهود مكافحة الإرهاب الإقليمية.

لكن من الواضحِ أيضًا أنَّ هذه الجهود لم تنجح في وقفِ انزلاق المنطقة إلى حافة الهاوية. لتجنُّبِ الكارثة الاستراتيجية التي تلوحُ في الأفق، والتي قد تنطوي على قيامِ خصوم الولايات المتحدة بالاستفادة من عدم الاستقرار في القرن الأفريقي لتوسيعِ نفوذهم السياسي والعسكري على طول البحر الأحمر، يجب على الولايات المتحدة تعزيز جهودها لتهدئة التوتّرات الإقليمية ومعالجة ساحة البحر الأحمر –طريق المنطقة البحرية والدول المحيطة به (الساحلية وخارجها) في القرن الأفريقي والخليج- كمساحةٍ جيوسياسية مُتَّصلة. لفترةٍ طويلة جدًا، كان نشاطُ دول الشرق الأوسط في القرن الأفريقي مَصدرَ قلقٍ للديبلوماسيين الذين يُركّزون على أفريقيا داخل الحكومة الأميركية، لكن تمَّ تقليلُ أولوياتهم من قبل نظرائهم في البيروقراطيات التي تُركّزُ على الشرق الأدنى وجهاز السياسة الخارجية الأوسع. وستكونُ الخطوةُ الأولى هي بذلَ جهدٍ أميركي قوي لتثبيطِ التدخُّلات المُزعزِعة للاستقرار في الشرق الأوسط والتي تقع في قلب الكثير من الفوضى. وبما أنَّ العديدَ من المخالفين الرئيسيين هم شركاء وحلفاء للولايات المتحدة، مثل الإمارات العربية المتحدة وتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر، فإنَّ مخاوفَ واشنطن بشأن سلوكهم يجب أن يتمَّ رفعها ومناقشتها بشكل كبير في الحوارات الثنائية. ينبغي على الولايات المتحدة أن تُوَضِّحَ لهؤلاء الأصدقاء أنَّ تدخّلاتهم تضرُّ بمصالحهم الاقتصادية في المدى الطويل، وتضرُّ بسمعتهم بطُرُقٍ تجعلُ من الصعبِ على الولايات المتحدة تعميق التعاون الثنائي، وتُوسِّع نفوذَ الجهات الفاعلة الخبيثة في جميع أنحاء المنطقة. ويجب على الكونغرس الأميركي، الذي أظهرَ بعض الوعي بالنشاط الإشكالي لدول الشرق الأوسط في السودان وعبر القرن الأفريقي، أن يُعزِّزَ رسالةَ الرفض هذه ويضغطُ على الإدارة عندما لا يتم تسليمها إلى المعنيين. وينبغي تفعيل جلسات الاستماع والتشريعات التي تتطلّبُ من الإدارة تقديم تقريرٍ علني عن طبيعة وعواقب تدخّل دول الشرق الأوسط في القرن الأفريقي، وكذلك ردود فعل الولايات المتحدة.

يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تحشدَ جهودها لمنع المجاعة في جميع أنحاء القرن الأفريقي، وهو ما يُعَدُّ عرضًا مباشرًا لعُمقِ الأزمة والعنف في المنطقة. وللقيام بذلك، هناك حاجةٌ إلى تعيين مُنَسِّقٍ للإغاثةِ الإنسانية في القرن الأفريقي، مُكَلَّف بالتوصُّل إلى اتفاقاتٍ مع الجهات المسلحة، ومنظمّات الإغاثة الدولية، والعاملين في المجال الإنساني المحلّيين والمصالح التجارية لتأمين المرور الآمن للمواد الغذائية والسلع الأساسية. ويتمثّلُ التحدّي الأكثر إلحاحًا حاليًا في السودان، حيث عرقلت الأطراف المتحاربة حركة المساعدات عبر الحدود الدولية للبلاد وخطوط السيطرة.

إنَّ أيَّ مبادرةٍ ديبلوماسية من هذا النوع لا تنجحُ إلّا من خلال مشاركةٍ واضحة ومُستدامة من قبل الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، بالإضافة إلى مسؤولي الدفاع والاستخبارات الرئيسيين الذين لهم ثقلٌ في جميع أنحاء المنطقة. إنَّ الدورَ الواضح لكبار القادة الأميركيين يُمكِنُ أن يُعزّزَ موقف المبعوثين الأميركيين على الأرض في المنطقة، الذين يجب أن يكون لديهم موظفون وموارد أفضل لمواكبة تعقيد الأزمة. وما لم تحظَ الأزمة بهذا المستوى من الاهتمام، فإنَّ مصداقيةَ الولايات المتحدة في هذه المنطقة الاستراتيجية سوف تستمر في التقويض بسبب الانطباع المُنتشِر على نطاق واسع في جميع أنحاء القرن الأفريقي، بأنَّ كبار صناع القرار الأميركيين منشغلون للغاية بمشاكل غزة وأوكرانيا (ناهيك عن الانتخابات الرئاسية الأميركية) للمشاركة باستمرار ومحاولة حل الأزمة الأفريقية. وكنتيجةٍ طبيعية، فإنَّ الولايات المتحدة مستعدة للإذعان لدول الخليج، التي لا تشترك بالضرورة في المصالح الأميركية الأساسية في المنطقة.

لا ينبغي للولايات المتحدة أن تفعلَ ذلك بمفردها. إنَّ عدمَ الاستقرارِ في البحر الأحمر والقرن الأفريقي يُشكِّلُ تهديدًا اقتصاديًا وأمنيًا مباشرًا للأعمال التجارية والمصالح التجارية الأوروبية. لقد أصبحت الهجرة تُهيمِنُ على المناقشات السياسية الأوروبية، ويُهدّدُ تفاقُمُ حالة عدم الاستقرار في القرن الأفريقي بتفاقُمِ حدّة هذه المشكلة، ما يزيد من انحراف السياسة الأوروبية بطُرُقٍ تؤدّي إلى تعقيدِ التحالف عبر الأطلسي. يجب على الولايات المتحدة الاستفادة من مصالح أوروبا المباشرة في المنطقة من خلال الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء والمملكة المتحدة في جهودِ نشطة لتأمين السلام الإقليمي، مع التركيز بشكلٍ خاص على دَعمِ الوساطة لإنهاء الحربَين التوأم في السودان وإثيوبيا. وبالمثل، يستطيع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، الذي يعمل في شراكة وثيقة مع الاتحاد الأفريقي والدول الأعضاء فيه، أن يلعبَ دورًا رفيع المستوى في تجنُّبِ أزمةٍ أعمق من خلال تسهيلِ التنسيق الأفضل بين مجموعةِ المبعوثين الدوليين الذين يحاولون إدارة الصراعات المتعددة في القرن الأفريقي.

لم يَفُت الأوان بَعد لتحقيقِ الاستقرار في البحر الأحمر، لكن النافذة تنغلقُ مع انتشارِ العُنفِ وتشرذم الدولة وتوسُّعِ نفوذِ منافسي الولايات المتحدة. يجب على واشنطن وشركائها العمل على وقف اتساع الأزمات على الأرض أو المخاطرة بملاحقة تيار من المزيد من عدم الاستقرار في أحد الممرات المائية الأكثر حيوية في العالم.

  • جوني كارسون هو كبير مستشاري رئيس المعهد الأميركي للسلام. وفي الفترة من 2009 إلى 2013، شغل منصب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية.
  • أليكس روندوس هو مستشار أول في مركز أفريقيا في المعهد الأميركي للسلام. شغل سابقًا منصب الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي في القرن الأفريقي.
  • سوزان ستيغانت هي مديرة برامج أفريقيا في المعهد الأميركي للسلام.
  • مايكل وُلدمَاريَام هو أستاذ مشارك في كلية السياسة العامة في جامعة ميريلاند.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدورهِ بالإنكليزية في “فورين أفّيرز”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى