في موريتانيا، النَصرُ السَهل الذي حقّقَهُ الغزواني يَحجُبُ تَحَوُّلاتٍ سياسِيَّة كُبرى
التحدّي الحقيقي الذي يُواجِهُ الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، بعد إعادة انتخابه، قد لا يكونُ مع المُتنافسين الجيوسياسيين في منطقة الساحل، ولكن مع القضايا المحلّية المُتَمثّلة في الفقر وعدم المساواة وإعادة توزيع الثروة التي تُشَكّلُ بوضوح الاهتمامات الأساسية للموريتانيين.
حسن ولد مختار*
في 29 حزيران (يونيو) الفائت، ذهب الموريتانيون إلى صناديق الاقتراع في انتخاباتٍ رئاسيةٍ مَثّلت الاستمراريةَ والتحوُّلَ داخل المشهد السياسي في البلاد. وكما كان مُتَوَقَّعًا على نطاقٍ واسع، فاز الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني في الجولةِ الأولى، حيث حصل على 56 في المئة من الأصوات. لكنَّ حُصولَ الناشط المناهض للعبودية النائب بيرام ولد الداه ولد عبيدي على المركز الثاني بنسبة 22 في المئة، سلّطَ الضوءَ على إعادةِ تشكيلِ المعارضة السياسية المُتسارِعة في موريتانيا.
بالنسبة إلى العديد من المراقبين الخارجيين، ستتمُّ قراءةُ الانتخابات من خلالِ عدسةٍ إقليميةٍ لعدمِ الاستقرارِ السياسي والتحدّيات الأمنية الناجمة عن العنف المُتَطرّف. ولكن في المناقشات الداخلية وبرامج المرشَّحين التي قادت الانتخابات، احتلّت قضايا الفقر والفساد وإعادة توزيع الثروة وحقوق الأقليات مركز الصدارة.
جَرَت عمليةُ الاقتراع بهدوء، حيث أفادت التقارير أنَّ 55% من الناخبين المؤهَّلين البالغ عددهم حوالي مليوني ناخب في البلاد خرجوا للإدلاء بأصواتهم. مع ذلك، قوبلَت النتائج التي أعلنتها اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة بادّعاءاتٍ بالتزوير من قبل العديد من مُرَشَّحي المعارضة، بمَن فيهم الداه ولد عبيدي، الذي اتهم اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة بالتحضير لانقلابٍ انتخابي ودعا أنصاره إلى الشوارع. وردًّا على ذلك، أشار وزير الداخلية محمد أحمد ولد محمد الأمين إلى محاولةٍ لزعزعة استقرار البلاد، والتي ادَّعى أن قوات الأمن أحبطتها.
إلى جانب الغزواني والداه ولد عبيدي، تنافسَ خمسةُ مُرَشَّحين آخرين في الانتخابات: أتوما أنطوان سوماري، جرّاح الأعصاب والعضو السابق في اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة؛ ومحمد لمين الوافي، موظف حكومي منذ فترة طويلة؛ ومامادو بوكار با، مدافع عن العدالة الاجتماعية وناشط في مجال الحقوق الأفريقية الموريتانية؛ والعيد محمد مبارك، محامٍ ومستشار قانوني لمكافحة العبودية؛ وحمادي سيدي المختار محمد عبدي، رئيس حزب التجمّع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) وعضو الجمعية الوطنية الموريتانية (البرلمان).
كانت المُعارَضةُ التاريخيةُ غائبةً بشكلٍ واضح عن هذا المشهد، والمتجسّدة في “تكتُّل القوى الديموقراطية”، و”اتحاد قوى التقدُّم”. نشأ الحزبان في حركة يسارية سرّية مارست تأثيرًا كبيرًا في اتجاه السياسة الوطنية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وقد قدّمَ كلا الحزبين نفسيهما باستمرارٍ على أنّهما قوى المعارضة الأساسية منذ التحرير السياسي في موريتانيا في العام 1991. وكانَ هذا يعني عادةً خوض الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وأحيانًا مقاطعتها. ومع ذلك، في أيلول (سبتمبر) 2023، وقَّعا معًا على اتفاقٍ وطني، أو ميثاقٍ وطني، مع حزب “الإنصاف” الحاكم الذي يتزعمه الغزواني، بعد أربعة أشهرٍ من الانتخابات التشريعية التي شهدت فشلهما في الفوز بالتمثيل في الجمعية الوطنية.
وقد عزّزت هذه الخطوةُ التحوُّلَ المُستَمرّ في تركيبة المعارضة السياسية الموريتانية، التي عارضت بقية أعضائها الاتفاق. ولا يزال مبارك يتمتّعُ بدَعمِ أعضاء تكتل القوى الديموقراطية، لكنه خاضَ الانتخابات الرئاسية مع مجموعةٍ برلمانية تشكّلت من ائتلاف “أمل موريتانيا”، الذي تم تشكيله لخوض الانتخابات التشريعية في أيار (مايو) 2023. وشهدت هذه الانتخابات أيضًا ظهور حزب “تواصل” الذي يتزعمه حمادي كأكبر حزب معارض، في حين تمَّ أيضًا إعادة أعضاء تحالف العدالة والديموقراطية-حركة التجديد بزعامة الداه ولد عبيدي وائتلاف الصواب-التأسيس للعمل العالمي (الراغ) الانتخابي إلى المجلس. تعكُسُ الانتخابات الرئاسية التي جرت الأسبوع الفائت هذه التضاريس المُتغَيِّرة، حيث يؤدي مزيجٌ من الإسلاموية والدعوة إلى العدالة الاجتماعية إلى إزاحة المعارضة التاريخية.
لم يَقتَصِر تحوُّلُ المشهد السياسي في موريتانيا على المعارضة. في كانون الأول (ديسمبر) 2023، حُكِمَ على سلف الغزواني وحليفه السابق، الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، بالسجن لمدة خمس سنوات بتُهَمِ غسلِ أموال والإثراء غير المشروع. ويُمثّلُ ذلك اضطرابًا جذريًا في التسوية السياسية بين النُخبة الحاكمة في موريتانيا، والتي من خلالها يُمكنُ للقوات المسلحة -التي استولت على السلطة في العام 2008- أن تستمرَّ في ممارسة نفوذها السياسي في عصر الانتخابات الديموقراطية عبر عبد العزيز والغزواني، وكلاهما جنرالان سابقان. وبينما صوّرَ أنصارُ الغزواني الخلافَ مع عبد العزيز بأنهُ يعودُ إلى عددٍ من الإجراءات التي اتخذها الرئيس الحالي لمُعالجة الفساد، اعتبرَ منتقدوه أنها محاكمةٌ ذات دوافع سياسية لتهميش حليفه السابق الذي تحوّلَ إلى منافس، مشيرين إلى مزاعم الاختلاس المستمر داخل حكومة الغزواني..
كانَ الفسادُ أحد المظالم المحلية التي أُثيرت خلال الحملة الانتخابية. وبدرجاتٍ متفاوتة، تناولت جميع برامج مرشَّحي المعارضة أيضًا قضايا التنوُّعِ العرقي واللغوي والمساواة وتوفير سُبُلِ العدل والانصاف لضحايا العبودية. بعد عامٍ أدى فيه عنفُ الشرطة ضد الأقليات العرقية في كثيرٍ من الأحيان إلى احتجاجاتٍ وأعمال شغب، فَرَضَت هذه الأسئلة نفسها على جدول الأعمال ومن غير المرجح أن تختفي مع تراجُعِ الحماسة الانتخابية. كما برزَ الفقر وعدم المساواة وإعادة توزيع الثروة بشكلٍ واضحٍ في البرامج الانتخابية والمناقشات العامة، وهو أمرٌ غير مفاجئ في أعقاب الفترة التي أبرزت فيها جائحة كوفيد-19 والغزو الروسي لأوكرانيا ضعف البلاد في مواجهة صدمات العَرض الخارجي والأسعار.
إذا كانت هذه القضايا الداخلية هي التي قادت معظم الحملة الانتخابية، فإنَّ السياقَ الإقليمي أثّرَ مع ذلك بشكلٍ كبير في ولاية الغزواني الأولى في منصبه. في آب (أغسطس) 2020، بعدَ عامٍ واحدٍ فقط على أدائه اليمين الدستورية، أدّى انقلابٌ عسكري في مالي إلى إعادةِ ترتيبٍ جذرية للشراكات الأمنية الدولية بين دول الساحل. شملَ ذلك طَردَ البعثات العسكرية الفرنسية والأميركية وممثليات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي من دولٍ في جميع أنحاء المنطقة، وزيادةَ وجودِ مُرتَزقة وجهاتٍ أمنية روسية. في أيلول (سبتمبر) 2023، وقّعت المجالس العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو اتفاقًا للدفاع المشترك، بعد انسحابها من مجموعة دول الساحل الخمس -وهي تحالفٌ أمني إقليمي مدعوم من الغرب يضمُّ أيضًا موريتانيا وتشاد- ومن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أو “إيكوواس”. وقبيل يوم الاقتراع، تناول الغزواني الوضعَ الإقليمي في مقابلةٍ أجرتها معه وكالة الصحافة الفرنسية، داعيًا إلى تحالفٍ أمني إقليمي بديل.
لكن بشكلٍ عام، بدت هذه القضايا هامشية في الحملة الانتخابية. وكان الداه ولد عبيدي هو الوحيد الذي اعترفَ على ما يبدو بالسياق الإقليمي المُتَغَيِّر، مُعلنًا معارضته لأيِّ وجودٍ عسكريٍّ أجنبي على الأراضي الموريتانية. وبدا أن الغزواني نفسه استبعدَ مثل هذا الاحتمال في أيلول (سبتمبر) 2023، ردًّا على مناقشاتٍ حول إعادةِ انتشارٍ مُحتَمَلٍ للقوات الفرنسية التي أُجبِرَت على الخروج من النيجر، بعد انقلابٍ جرى هناك في تموز (يوليو) من ذلك العام، إلى موريتانيا. وبينما عارَضَ العديدُ من الموريتانيين في ذلك الوقت اتفاقَ الشراكةِ في مجال الهجرة المُوَقَّعِ بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي في آذار (مارس)، إلّا أنَّهُ لا يبدو أنه أثّرَ في المناقشات الانتخابية بدرجةٍ كبيرة. من ناحيةٍ أخرى، كانت الزيادة الأخيرة في عدد الموريتانيين الذين يدخلون الولايات المتحدة عبر المكسيك والحدود الجنوبية لأميركا بمثابة نقطةِ خلاف محلية، مما يعكس ارتفاعًا صارخًا في معدل البطالة بين الشباب والافتقار الملحوظ إلى الآفاق أمام الموريتانيين الذين بقوا في البلاد.
مع عودةِ الغزواني إلى السلطة لمدة خمس سنوات أخرى، سيواجه مهمّةَ معالجة هذه المخاوف الداخلية أثناء الإبحار في الرمال الجيوسياسية المُتغيِّرة في المنطقة. كانت استراتيجيته في ما يتعلق بالأخيرة حتى الآن عبارةً عن توازُنٍ دقيق، ينطوي على احترامٍ مُستَمِرٍّ للحلفاء الغربيين والدعوة إلى إجراءِ انتخاباتٍ في دول الساحل المجاورة تحت الحكم العسكري، مع الإصرار في الوقت نفسه على سيادتها الوطنية والحاجة إلى تجنُّب التدخُّل في شؤونها الداخلية. وقد تعرّضَ هذا النهج لضغوطٍ في الآونة الأخيرة، حيث وَقَعَ مواطنون موريتانيون في فخِّ عملياتِ مكافحة التمرُّد في مالي ودخولِ أعدادٍ غير مسبوقة من اللاجئين الفارين من هذه العمليات إلى شرق موريتانيا.
على الجبهة الداخلية، تمَّ التركيزُ بشكلٍ كبير على مشروع السلحفاة الكبرى/أحميم للغاز الطبيعي المسال. من المُقرّر أن يدخلَ هذا المشروع الذي تديره شركة بريتيش بتروليوم حَيِّزَ الإنتاج في العام المقبل، وقد انتظرته بفارغ الصبر الدول الأوروبية التي تسعى إلى تقليل اعتمادها على الغاز الروسي. وقد قدّمه الغزواني على أنه مفتاحُ النمو الشامل الذي تتصوره استراتيجية التنمية الوطنية للبلاد. ومع ذلك، يبدو الأمر في حدِّ ذاته استمرارًا للاعتماد نفسه على الصناعات الاستخراجية كثيفة رأس المال التي يتميّزُ بها اقتصاد البلاد حاليًا.
في ضوء ذلك، فإنَّ التوازن الحقيقي الذي يواجه الغزواني قد لا يكون بين المتنافسين الجيوسياسيين في منطقة الساحل، ولكن بين القضايا المحلية المتمثّلة في الفقر وعدم المساواة وإعادة توزيع الثروة التي تُشَكّلُ بوضوح الاهتمامات الأساسية للموريتانيين، والضغوط الخارجية المختلفة التي تُحَوِّلُ البلاد إلى منطقةٍ ذات أهمية استراتيجية.
- حسن ولد مختار هو كاتب وباحث ومستشار مهتم بقضايا الهجرة والحدود والتنمية، مع التركيز الإقليمي على موريتانيا ومنطقة الساحل في غرب أفريقيا والصحراء. وهو حاصل على درجة الدكتوراه من قسم دراسات التنمية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) التابعة لجامعة لندن وحصل على زمالات ما بعد الدكتوراه في “SOAS“ وكلية لندن للاقتصاد. كتابه “بعد إضفاء الطابع الخارجي على الحدود: الهجرة والعِرق والعمل في موريتانيا” يصدر قريباً عن دار نشر بلومزبري.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.