سِماتُ نِظامٍ عالمِيٍّ يَتَشَكَّل

الدكنور ناصيف حتّي*

يَتَفِّقُ مُجمَلُ المُراقبين أنَّ حربَ أوكرانيا، التي صارت حربًا مَفتوحَةً في الزمان، عملت على تسريعِ بَلوَرَةِ سِماتٍ جديدةٍ في العلاقات الدولية. سِماتٌ ستطبع بدون شكٍّ وبقوّة النظامَ العالميّ الذي ما زال في طور التبلور منذ ما بعد سقوط نظام الحرب الباردة، نظام الثُنائية القطبية، وبعده اندثار “لحظة الأحادية” الأميركية. اللحظة، والتعبير للكاتب الاميركي تشارلز كروسمر، التي ظهرت ولكنها لم تُعَمِّر غداة سقوط الاتحاد السوفياتي ومعه سقوط نظام  الثنائية القطبية الذي نَشَأَ غداة نهاية الحرب العالمية الثانية.

أُولى هذه السِمات، وليس بالضرورة أهمّها، إعادةُ إحياءِ دور منظمة اتفاقية شمال الأطلسي (الناتو) التي تراجعَ وتَهمّشَ دورها بقوة، وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا مع سقوط أو اختفاء العدو الاستراتيجي المُتَمَثِّل بمنظمة حلف وارسو. لكن عودة الخطر الاستراتيجي، الذي تُعبِّرُ عنه عودةُ روسيا القوية عبر البوّابة الأوكرانية، إلى لعبة المواجهة بأشكالٍ مُختلفة في لعبة المنافسة الجيوستراتيجية، إنطلاقًا من “المسرح الأوروبي”، أعطت قوّةَ دَفعٍ كبيرةٍ لإنعاش دور “الناتو” بدءًا من أوروبا ولكن أيضًا وصولًا إلى “منطقة المُحيطَين” (الهادئ والهندي). ومن المُفارقاتِ المُثيرة للاهتمام أن السويد المُحايدة، وفنلندا التي كانت تتبع نموذجًا خاصًا من الحياد السياسي، وُصِفَ بالفَنلَندة، وليس الحياد القانوني المعروف عالميًّا، صارتا اليوم في المرحلة الأخيرة في إجراءاتِ الانضمام إلى “الناتو”.

ثانيًا، يُمكِنُ الملاحظة أنَّ زَخمَ الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية ضمن الحلف الغربي، التي كانت وراءه فرنسا دائمًا ومعها ألمانيا بشكلٍ خاص، قد خفَّ بعض الشيء بسبب هذا الوضع الصراعي الغربي-الروسي المُتصاعِد، ولم ينتهِ بالطبع. وكانَ يُشارُ إليهِ دائمًا أنه يُعبّرُ في أحَدِ أبعاده عن ضرورة تعزيز خاصِيّة الهويّة الأوروبية على حساب اندثارها كلّيًّا ضمن الهويّة الأطلسية التي حملتها دائمًا واشنطن: إنه التميّز ضمن الوحدة. ولكن رُغمَ ذلك، وعلى صعيدٍ آخر، انعقدت أخيرًا قمة الجماعة السياسية الأوروبية، وهي أيضًا فكرة فرنسية بالأساس هدفها جمع الدول الأوروبية الأُخرى غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ومنها المُرَشَّحة للعضوية للتعاون في إطار “البيت الأوروبي الواسع”. ولم تُدعَ إلى هذا الاجتماع بالطبع روسيا وكذلك بيلاروسيا بسبب الحرب الأوكرانية. الرسالة الأوروبية واضحة وقوامها توسيع البناء الأوروبي ضمن صيغٍ مَرنة وسُرعاتِ تعاونٍ مُختلفة.

ثالثًا، إنتعاشٌ كبيرٌ، بهدف المواجهة، للديبلوماسية المتعدّدة الأطراف. كما دلّت على ذلك ديبلوماسية القمم ذات الصيغ المختلفة، حيث شهد، على سبيل المثال، شهر حزيران (يونيو) وحده ثلاث قمم مُتلاحقة: الأولى للاتحاد الأوروبي، والثانية للحلف الأطلسي، والثالثة للدول السبع. كما إنَّ روسيا عملت على إنعاشِ دور منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضمُّ ست دول سوفياتية سابقة ويُرادُ لها أن تكونَ بمثابةِ حلف وارسو جديد، إلى جانب الدور الناشط حاليًا لما يعرف ب”الكواد” أو الحوار الرباعي للأمن الذي يضمُّ كلًّا من الولايات المتحدة وأوستراليا واليابان والهند. كما نشهدُ بالمقابل وفي السياق  ذاته تعزيز الحوار والتعاون الاستراتيجي الروسي-الصيني. إنها لعبة التحالفات المرنة وليست المُغلَقة لأسبابٍ استراتيجية وإيديولوجية كما كانت الحال خلال الحرب الباردة. فهناك تقاطعُ مصالح مع أطرافٍ في أُطُرِ تعاونٍ أُخرى كنا نشهدها دائمًا في مجالاتٍ عديدة.

رابعًا، إنَّ الوضعَ القائم والشديد التوتّر في الحرب الروسية-الأوكرانية والمواجهة الغربية-الروسية مفتوحٌ على سيناريوهات مختلفة، منها الانزلاق إلى حربٍ أكثر تصعيدًا في النار وتوسّعًا في الجغرافيا، ولكن الحلَّ لن يكونَ إلّا سياسيًّا تفاوضيًّا في النهاية يقومُ على شروط أساسية ثلاثة: لا استمرارَ في ضمِّ روسيا لمناطق أوكرانية، ولا انضمامَ أوكرانيا بأيِّ شكلٍ من الأشكال إلى حلف شمال الأطلسي، ونوعٌ من الترتيبات الخاصة للمناطق الأوكرانية المُحاذية لروسيا، والتي كانت لها علاقات خاصة معها في الماضي، تؤكّد الوضع الخاص لهذه العلاقات. ومن غير المُستَبعَد عودة فرنسا وألمانيا إلى تنشيطِ الدور “التوسّطي” الذي كانتا تقومان به رُغم ما أصابه من عثرات منذ انطلاق اجتماع ما عُرِفَ بمجموعة النورماندي  في العام ٢٠١٤ والتي ضمت إليهما كلًّا من روسيا وأوكرانيا: طريقٌ طويل وأمامه الكثير من العوائق، ولكن لا بدَّ من ولوجه متى حان الوقت.

خامسًا، نَشهَدُ ولادة نظام حرب باردة جديدة تقوم على سِمَتَي تَضارُبِ وتقاطعِ المصالح في الجغرافيا الاستراتيجية والجغرافيا الاقتصادية، أيًّا كانت العناوين الكبرى التي قد تحملها الأطراف في تلك الحرب. حربٌ تتسم  بتحالفات بالقطعة، وبتشابك وتداخل المصالح والاولويات بعد ان انتهى عصر الأحلاف الإيديولوجية والاستراتيجية المُقفَلة التي طبعت الحرب الباردة الماضية.

هناك الكثير من دروس وعِبَرِ الماضي التي يجب أخذها بالاعتبار  لفَهمِ واستيعابِ التطوّرات المُتسارعة. ولكن هناك أيضًا العديد من المُتغيِّرات الجديدة التي تفرضُ رؤيةً وإدارةً ومُقارباتٍ مختلفة عن الماضي للتعامل بفَهمٍ وفعالية في نظامٍ عالميٍّ جديدٍ نَشهَدُ ولادته.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى