حَلُّ الدولتين وسيلةٌ للإلهاء: المشكلة هي الصهيونية
رمزي بارود*
المشكلة لا تكمنُ في غيابِ دولةٍ فلسطينية، بل في الصهيونية نفسها.
ما فائدة الدولة الفلسطينية إذا استمرّت الصهيونية، كإيديولوجية عنصرية وحصرية، في تعريف إسرائيل وفَرض هذا التعريف على الفلسطينيين؟
تدعو هذه الإيديولوجية إلى النقاء العنصري لليهود في فلسطين، بالطبع، على حساب السكّان الأصليين للأرض. ولتحقيق ذلك، كان لا بدّ من إجبار ملايين الفلسطينيين على النزوح إلى المنفى، وكان لا بدَّ من قتل أو جرح أو سجن مئات الآلاف الأخرين.
لن يكون من الممكن إقامة دولتين، أو حتى دولة واحدة، إذا لم يتم هزيمة الصهيونية بالكامل – لا تجديدها، ولا “إصلاحها”، بل القضاء عليها.
بينما يُقتل الفلسطينيون بأعداد كبيرة غير مسبوقة في غزة، يستيقظ الساسة الغربيون على ضرورة قيام دولة فلسطينية. ولكن لماذا الآن؟ في نهاية المطاف، كان هؤلاء الساسة وحكوماتهم هم الذين دافعوا أو التزموا الصمت بينما أحبطت إسرائيل كل إمكانية للتعايش السلمي. إنَّ صحوتهم هذه ليست صحوةً أخلاقية، بل إنها وسيلةُ إلهاءٍ للظهور، على الأقل أمام شعبهم، في دورٍ استباقي، بينما تقوم إسرائيل بتدمير الشعب الفلسطيني بشكلٍ منهجي.
قال كريس غونيس، المسؤول السابق في الأونروا، عن الحرب الإسرائيلية على غزة إنَّ هذه “أول إبادة جماعية في تاريخ الإنسانية يتم بثها مباشرة على شاشة التلفزيون”.
إنَّ الإبادة الجماعية تتفاقم الآن بعد أن بدأ الفلسطينيون يموتون من الجوع، في حين يموت عدد أكبر من الفلسطينيين بسبب الأمراض والمياه الملوَّثة، ناهيك عن أولئك الذين تقصفهم إسرائيل أو تطلق النار عليهم.
بالنسبة إلى أمثال ديفيد كاميرون، وزير الخارجية البريطاني، فإنَّ الحديثَ عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية باعتبارها “أمرًا حيويًا للغاية” لتحقيق “سلام طويل الأمد” أمرٌ مُحَيِّر، على أقل تقدير. إن أولئك الذين يكافحون من أجل البقاء يوميًا لا يهتمّون كثيرًا بالوعود الغربية الفارغة.
إن الإبادة الجماعية الجارية في غزة تُخبرنا أنَّ القضية ليست سياسية فحسب، بل هي قضية إيديولوجية. وبينما يتحدث زعماء الغرب عن “سلامٍ طويل الأمد”، تعمل إسرائيل على ترسيخ نظام العنف والفصل العنصري. “لا يمكن أن يكون هناك وضعٌ يقترب منّا فيه الأطفال والنساء من خلال الجدار. أيُّ شخص…يجب أن يتلقى رصاصة”، قال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتامار بن غفير في 12 شباط (فبراير).
أما في غزة، فإنَّ العنفَ أكثر إثارة للاشمئزاز. أفاد المرصد الأورومتوسطي، وهو جماعة حقوقية، في 12 شباط (فبراير) أنه “سُمح لمجموعات من عشرة إلى عشرين مدنيًا إسرائيليًا في وقتٍ واحد بمشاهدة السجناء والمعتقلين الفلسطينيين وهم يرتدون ملابسهم الداخلية وتصويرهم وهم يضحكون” أثناءَ تعرّضهم للتعذيب والإساءة على أيدي الجنود الإسرائيليين.
لا يمكن أن يكون هناك أيُّ مُبرّر سياسي عقلاني لأيٍّ من هذا.
كلُّ هذا – لغة الإبادة الجماعية، والإبادة الجماعية نفسها والتهديدات بارتكاب إبادة جماعية أكبر، متجذّرة، ليس في نظريةٍ سياسية عقلانية، ولكن في الصهيونية.
المشكلة تزداد سوءًا لأننا نرفض معالجتها بشكلٍ مباشر. في الواقع، كثيرون يفعلون العكس تمامًا. على سبيل المثال، أقرت الحكومات الغربية، أو تعمل على إصدار، قوانين تساوي بين انتقاد الصهيونية ومعاداة السامية. وحتى “فايسبوك” تريد حظر استخدام مصطلح “الصهيوني” إذا كان ينتقد إسرائيل.
فحين هدد وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) بإسقاط قنبلة نووية على غزة، أدانه كثيرون لمجرّد لغته غير اللائقة، وليس الفعل في حد ذاته. كما انتقد بعض المسؤولين الإسرائيليين إلياهو أيضًا، فقط لأنه أضرَّ بسمعة إسرائيل الدولية. لكن الوزير الإسرائيلي لم يكن يتحدّث بدافع الغضب فحسب. لقد كان يعني ذلك، لأن سلوك إسرائيل في غزة منذ ذلك الحين أثبت أن مثل هذا الاستعداد لقتل الفلسطينيين بشكلٍ جماعي موجودٌ بالفعل.
الصهاينة مستعدون لفعلِ أيِّ شيءٍ من أجل البقاء، وبقاؤهم يعتمد كليًا على محو وإزالة العدو المُتَصَوَّر؛ ليس “المحو” بالمعنى الفكري أو السياسي أو حتى الثقافي، بل التدمير المادي للفلسطينيين أيضًا.
لقد كان التطهير العرقي في فلسطين، المعروف ب”النكبة”، في العام 1948، محاولة جادة لتحقيق هذا الهدف. ولكن بما أن “العدو”، أي الأمة الفلسطينية، قد بقي على قيد الحياة ويستمر في المقاومة والمطالبة بحقوقه الجماعية، فقد عاد التطهير العرقي للشعب الفلسطيني الآن إلى الأجندة السياسية الإسرائيلية الرئيسة.
إنَّ حربَ غزة المستمرّة هذه هي أخطر محاولة حتى الآن لتدمير الشعب الفلسطيني. ولهذا السبب يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته مواصلة الحرب. فهم من ناحية يريدون ضمان استمرار المذبحة، وبالتالي إبادة الفلسطينيين، ومن ناحية أخرى، يدركون تمامًا أن هذه فرصة تاريخية لإنهاء مهمة لم يكملها القادة الصهاينة السابقون، منذ 75 عامًا سابقًا.
والحقيقة أن إسرائيل ترى أن الحرب على غزة تتجاوز الحدود الجغرافية لقطاع غزة الصغير. إنها حربٌ على الفلسطينيين في كل مكان. إذا نجحت إسرائيل في إخضاع غزة، فإنها ستحوِّل أنظارها فورًا إلى الضفة الغربية، ثم إلى ملايين الفلسطينيين داخل إسرائيل. ومن المهم هنا أن نتذكر أنه قبل الحرب الحالية، كان التحريض الإسرائيلي ضد الفلسطينيين يتركز في الغالب على الضفة الغربية، بهدفٍ مُعلَن هو ضمّ أكثر من ثلث تلك المنطقة المحتلة.
كما كانت هناك حملة إسرائيلية رسمية كبيرة لتقويض الحقوق والتحريض على الكراهية ضد العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل. هذه الحملة متجذّرة في التاريخ ولكنها أصبحت أكثر وضوحًا بعد انتفاضة الوحدة في أيار (مايو) 2021. عندها أدركت إسرائيل أن “انقسام” الفلسطينيين كان سياسيًا إلى حد كبير، وأن الفلسطينيين كأمة يظلون مترابطين بقوة. ولهذا السبب، مارس بن غفير ضغوطًا، حتى قبل أن يتولى منصبه الوزاري في كانون الأول (ديسمبر) 2022، من أجل تشكيل حرس وطني مُكَلَّف بـ”استعادة الحكم حيثما دعت الحاجة”.
فإذا سقطت غزة فإنَّ كلَّ الفلسطينيين في بقية فلسطين سوف يصبحون هدفًا جديدًا للعنف الإسرائيلي، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية إذا لزم الأمر. إنَّ اختزالَ كل هذه القضايا في مجرد البحث عن حلولٍ سياسية خلّاقة لا تؤدّي إلّا إلى بيع الأمل الكاذب للشعب الفلسطيني، هو ليس مجرد جهل أو مراوغة، بل إنه أيضًا تحويلٌ عن القضية الحقيقية: الإيديولوجية الصهيونية الإسرائيلية.
الصهيونية، مثل كل الإيديولوجيات الاستعمارية العنصرية، تعمل وفق نهجٍ محصلته صفر في علاقتها مع السكان الأصليين للأراضي المستعمرة: الهيمنة من خلال التطهير العرقي والإبادة الجماعية.
لذا، لكي يتحقق “سلام طويل الأمد”، يجب أن تنتهي الصهيونية.
- رمزي بارود هو صحافي وكاتب أميركي-فلسطيني ورئيس تحرير “فلسطين كرونيكل” (Palestine Chronicle). ألّف ستة كتب آخرها، الذي شارك في تحريره إيلان بابي، هو “رؤيتنا للتحرير: القادة والمثقفون الفلسطينيون المشاركون يتحدثون علنًا”. بارود هو أيضًا زميل أبحاث كبير غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA). يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: ramzybaroud.net