كيفَ تحوّلت تركيا شرقًا: أردوغان وصعودُ السياسة الخارجية الأناضولية
على الرُغم من كلِّ سنواتِ التهديد والوعيد التي قضاها، قد لا يكون لدى رجب طيّب أردوغان الآن اهتمامٌ كبيرٌ باستعداءِ الغرب. بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2023، لم يعد يواجه أيَّ تحدياتٍ داخلية كبيرة، وهو يدخل الآن مرحلة بناء الإرث في حياته المهنية.
سونِر كاغابتاي*
في أواخر كانون الثاني (يناير)، صادَقَ البرلمان التركي على انضمامِ السويد إلى حلف شمال الأطلسي، ما وَضَعَ حدًّا لما يقرب من عامين من المُماطلة من جانب الحكومة التركية. لقد عرقلت أنقرة دخول ستوكهولم إلى التحالف ظاهريًا لأنَّ السويد سمحت لأعضاء وجامعي التبرّعات من حزب العمّال الكردستاني، المُصنَّف دوليًا جماعةً إرهابية قاتلَت الدولة التركية لعقود من الزمن، بالعمل على أراضيها. لكنَّ المُعارضةَ التركية لعضوية السويد تلاشت بمجرّدِ أن حَصَلَ الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان على ما يريده حقًا: 40 طائرة مقاتلة من طراز “أف-16” (F-16) من الولايات المتحدة، وتحديث المعدّات لأسطول الطائرات الحالي في تركيا، وفرصة مُحتَمَلة للقاء الرئيس الأميركي جو بايدن.
إنَّ موافقةَ واشنطن على صفقةِ الأسلحة هذه البالغة قيمتها 23 مليار دولار لم تكن بالأمر السهل. لقد تمَّ فرضُ حظرٍ فعلي على مبيعات الأسلحة الأميركية إلى تركيا منذ أن اشترت أنقرة أنظمة دفاع صاروخي روسية في العام 2017. في ذلك الوقت، أوقف الكونغرس الغاضب طلب تركيا لشراء طائرات من طراز “أف-16″، كما قام المسؤولون والمشرّعون الأميركيون بانتقاد وتوبيخ تركيا لشرائها أسلحة من خَصمٍ لحلف شمال الأطلسي. والرئيس الأميركي جو بايدن هو أيضًا الرئيس الأميركي الوحيد الذي لم يقم بدعوة أردوغان إلى البيت الأبيض خلال العقدين اللذين قضاهما أردوغان في السلطة. ومع ذلك، فإنَّ الولايات المتحدة حريصةٌ جدًا على تعزيزِ صفوف حلف شمال الأطلسي وقمع أي انقسام داخل الحلف، وهذا ما أدّى إلى رضوخها للمطالب التركية. كلُّ هذا أعطى أردوغان -الذي كان البيت الأبيض يتجنّبه إلى حدٍّ كبير حتى الربيع الماضي- انتصارًا ديبلوماسيًا مؤكَّدًا إلى حدٍّ ما. حتى أن المسؤولين الأميركيين ألمحوا إلى أنَّ بايدن قد يدعو نظيره التركي قريبًا إلى البيت الأبيض.
فسّرَ بعض المُحلّلين هذه الصفقة على أنها تُمثّلُ إعادةَ ضبطٍ كبيرة في العلاقات الأميركية مع تركيا. إنَّ السماحَ للسويد بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي قد يُبشّرُ بفترةٍ من الدفء في العلاقات بين أنقرة والغرب، وقد يُشيرُ إلى تحالف تركيا الوثيق مع الأعضاء الأساسيين في الحلف في جميع القضايا.
وهذا من شأنه أن يُسيءَ قراءةَ التوجّه الجيوسياسي الحقيقي لتركيا. بدلًا من ذلك، تعكسُ الصفقة طبيعة المعاملات الأساسية للسياسة الخارجية في عهد أردوغان، وهو زعيمٌ يرغب في التطلّع إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب سعيًا إلى تحقيق طموحاته. والحقيقة أنَّ هناكَ تحوّلًا أعمق وأكثر أهمية يجري الآن داخل تركيا، وهو التحوّلُ الذي يعملُ على جذبها بعيدًا من الغرب، حتى في ظلِّ المصالحة الحالية بشأن توسّع منظمة حلف شمال الأطلسي.
مؤسّس تركيا الحديثة، مصطفى كمال، المعروف أيضًا باسم أتاتورك، أسّسَ البلاد كجمهوريةٍ علمانية أوروبية. وقد تبع العديد من القادة والنُخَب التركية أتاتورك في محاولةِ تشكيل الدولة ومؤسّساتها حسب الخطوط الأوروبية. وكان من شأن ذلك أن ضَمَنَ انضمام البلاد إلى منظمة حلف شمال الأطلسي في العام 1952، وفي العقود اللاحقة، سعت جاهدةً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن منذ السنوات الأولى من هذا القرن على الأقل، بدأت النُخَبُ التركية ذات الميول الغربية تَفقُدُ السيطرة على المجتمع الذي حاولت توجيهه منذ تأسيس البلاد في العام 1923. ويُجسّدُ أردوغان هذا التحوّل حتى على الرغم من أنه ليس مسؤولًا عنه تمامًا. وعلى النقيض من أتاتورك، الذي جاء من المقاطعات الأوروبية التابعة للإمبراطورية العثمانية، ينحدرُ أردوغان من الأناضول؛ وتتكوّن قاعدته السياسية من سكان الأناضول المُتَدَيِّنين، الذين لم يتبنّوا قط مشروعَ أتاتورك العلماني المُتطرِّف بشكلٍ كامل. وبناءً على ذلك، فإنَّ تركيا في عهد أردوغان لديها ارتباطاتٌ عاطفية وسياسية أقل بالغرب. فتركيا الجديدة التي صاغها لا ترتكزُ في أوروبا بل في المناطق النائية التركية. وتُمثّلُ سياستها الخارجية الحساسيات السياسية والثقافية لأهل الأناضول، وبعيدة كل البُعد من الروح العلمانية للنُخَبِ التي أسّست البلاد.
وهذا لا يعني أنَّ تركيا سوف تتخلّى عن مقعدها على طاولة الغرب. في نهاية المطاف، فإن سعي تركيا إلى الانضمام إلى الغرب، والذي يعود إلى المحاولات الأولى للتحوّل الأوروبي من قبل النُخَب العثمانية في أوائل القرن الثامن عشر، هو أمرٌ قديم قدم أوروبا الحديثة ذاتها. وبدلًا من ذلك، فمن المتوقع أن تضع تركيا، في ظلِّ مركز ثقلها الآن في الأناضول، نفسها كقوة هجينة بين الغرب وبقية العالم. لقد حكمت السياسة الخارجية التركية لعقود سياسة خارجية متأثرة بأوروبا، ولكن تركيا الجديدة سوف تتعامل بحرية مع بلدان أخرى من دون أيِّ اعتبار للأهداف أو الأولويات الغربية. وذلك لأن تركيا ترى الآن العالم من خلال عدسة الأناضول.
تحوّل تركيا
يمكن للبلدان أن تقتلعَ نفسها وتتحوّل. كثيرًا ما يُقال إن بولندا “تحوّلت” في أوائل القرن العشرين. بعد الحرب العالمية الأولى، ضمّت بولندا أجزاءً مما يُعرَفُ الآن بأوكرانيا وليتوانيا وبيلاروسيا. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت غربًا -إلى موقعها الحالي- وفقدت أراضيها الشرقية واكتسبت مساحاتٍ مما كان يُعرَف آنذاك بألمانيا. لقد انتقلت ماديًا من الشرق إلى الغرب.
تحرّكت تركيا في الاتجاه المعاكس. في أواخر القرن التاسع عشر، خلال العصر العثماني، كان العديد من المراكز الحضرية الرئيسة للإمبراطورية في مقاطعاتها الأوروبية في البلقان، بما في ذلك شكودر (في ألبانيا الحديثة)، وبريشتينا (في كوسوفو الحديثة)، وبلوفديف (في بلغاريا الحديثة)، وسكوبيي (في مقدونيا الشمالية الحديثة)، وسالونيكي (في اليونان الحديثة). وتألقت سالونيك، مسقط رأس أتاتورك، بشكلٍ خاص باعتبارها ثاني أكبر مدينة في الإمبراطورية (بعد اسطنبول) وكعاصمتها الثقافية والتجارية – أي ما يُعادل مدينة نيويورك في الولايات المتحدة اليوم.
لكنَّ العثمانيين كانوا فقدوا كل هذه الأراضي الأوروبية -باستثناء إسطنبول، وأدرنة، على الحدود البلغارية، وشريط من الأراضي بينهما- بحلول نهاية حروب البلقان في 1912-1913. وانتهى الأمر بالدولة التركية الحديثة إلى الانتقال إلى الأناضول في الشرق، لتُشَكّلَ نفسها عبر هضبة آسيا الصغرى الشاسعة، بما في ذلك المناطق الكردية تقليديًا وتلك التي تمَّ تهجير سكانها أخيرًا من الأرمن في شرق الأناضول. لترسيخ الدولة الجديدة في الأناضول، اختار أتاتورك أنقرة عاصمتها الجديدة، والتي تقع في قلب شبه جزيرة سهوب وكانت مقره السابق خلال حرب الاستقلال التركية. تم تصميم أنقرة في البداية كمدينة حدائق و”فيلّات”، تذكّرنا بمدن أوروبا الشرقية التي اندثرت في العقود السابقة، وكانت أنقرة ترمز إلى ولادة دولة أوروبية من رماد الإمبراطورية العثمانية – في وسط الأناضول.
عند تأسيس الجمهورية، تمسّكت النُخَب التركية ــالعديد من أفرادها وُلِدوا في أوروبا و”قفزوا” إلى الأناضول أثناء انهيار الإمبراطورية العثمانيةــ بأفكارٍ متأثرة بأوروبا حول فن الحكم والحياة الاجتماعية. وعلى رأس هذه الأفكار، حوّل أتاتورك الإسلام إلى المجال الخاص، وحظّر الإخوان الدينيين، وألغى من القوانين التركية كل ما يتعلق بالإسلام، واقترب من حظر التعليم الديني. بالإضافة إلى ذلك، قام بتغيير أبجدية البلاد من نصٍّ عربي إلى نصٍّ روماني، ما أدى إلى حذف الكلمات العربية والفارسية من التركية مع الاحتفاظ بالاستعارات الفرنسية والإيطالية. كما أسقطت تركيا التقويم الهجري الإسلامي لصالح البديل الغريغوري الغربي وحظّرت الطرابيش والعمائم على الرجال. وبهذه الطريقة، قام مؤسس تركيا الحديثة بتنسيق وتشكيل البلاد بشكل صارم من أجل دمجها بقوة في الغرب.
أتاتورك وأتباعه، المعروفون بالكماليين، بدءًا من وزراء الداخلية المسؤولين عن دولة الحزب الواحد المرهوبة والقوية، وصولًا إلى المُعلّمين المثاليين الذين يتنقلون عبر الأناضول لنشر الروح العلمانية الحديثة الجديدة، وُلِدَ كثيرون منهم ونَشَؤوا في منطقة البلقان. كانت هذه النخب المؤسِّسة في حالة ذهول أحيانًا عند زيارة هضبة الأناضول الشاسعة الشبيهة بالسهوب ومقابلة سكانها المحافظين والأتقياء. وقد وصف أحد كتاب هذا العصر، وهو “سيفكيت سُرَيا أيدمير”، وهو مثقف كمالي بارز له جذور في بلغاريا العثمانية، الأناضول في مذكراته الصادرة في العام 1959 بأنها “ليست سوى قطعة ميتة بالفعل من قشرة الأرض”. في حفلات عيد الجمهورية التي تمَّ تنظيمها في مدن الأناضول الصغيرة بعد سنوات فقط من انهيار الإمبراطورية العثمانية وخسارة مقاطعاتها الأوروبية، كان البيروقراطيون الكماليون يرقصون على أنغامٍ أوروبية تعزفها فرق الجاز، الأمر الذي كان يثير حيرة فلاحي الأناضول الحاضرين.
لكن مشروع أتاتورك الأوروبي لم يقتصر بأيِّ حالٍ من الأحوال على النُخب في البلاد. أثناء تفكك الإمبراطورية العثمانية، والذي بدأ في القرن التاسع عشر، انتقل الملايين من الأتراك والمسلمين غير الأتراك ــ بما في ذلك الألبان والبوسنيون والبلغار واليونانيون والمقدونيون ــ إلى الأناضول. هذه المجموعات، التي واجهت الاضطهاد في دول البلقان التي تم تشكيلها حديثًا، انضمّت إليها في الأناضول أعداد أكبر من الأتراك وغيرهم من المسلمين الذين نزحوا من أوروبا خلال حروب البلقان. وإلى جانب المسلمين الذين طردتهم روسيا من الأراضي العثمانية السابقة شمال البحر الأسود (مثل شركيسيا وشبه جزيرة القرم)، كان المسلمون الأوروبيون يمثلون ما يقرب من 40% من سكان تركيا بحلول الوقت الذي أسّس فيه أتاتورك الجمهورية، في العام 1923. وكان المسلمون الأوروبيون يميلون إلى دعم مشروع أتاتورك للعلمنة الصارمة.
أصبحت تركيا الحديثة ديموقراطية مُتعدّدة الأحزاب في الخمسينيات من القرن الماضي بعد أقل من عقدين على وفاة أتاتورك، في العام 1938، وقام أتباعه الكماليون من اليسار واليمين، والعديد منهم وُلِدَ في البلقان أو أحفاد المهاجرين من أوروبا، بتخليد فكرة تركيا ككيانٍ أوروبي. وكان التطوّر الديموقراطي الذي شهدته تركيا بعد الحرب العالمية الثانية واندماجها في الغرب خلال الحرب الباردة سببًا في تعزيز مُطالبة البلاد بالهوية الأوروبية والغربية. انضمت أنقرة إلى العديد من المنظمات الأوروبية، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجلس أوروبا كعضو مؤسّس، وتم قبولها في حلف شمال الأطلسي بعد وقت قصير من إنشاء الحلف.
لكن مع مرور قرن من الزمان، أصبحت العلاقة بين العديد من الأتراك وأوروبا ضعيفة على نحوٍ متزايد. عندما وصل أردوغان إلى السلطة في العام 2003، كان سكان الأناضول الأصليون يُشكّلون الغالبية الساحقة من سكان تركيا. ينحدرُ هؤلاء السكان من سهول شبه الجزيرة الداخلية، والمناطق الجبلية الشرقية، وساحل البحر الأسود، وكانوا يميلون إلى أن يكونوا مسلمين مُتدَيّنين، ولم يكونوا في معظمهم مرتاحين تمامًا للمشروع التأسيسي العلماني للجمهورية. ومع بدء هؤلاء الأتراك المحافظين في المناطق النائية في دخول الطبقة الوسطى وتسلّق سلّم السلطة السياسية، أصبحت الهوية الأوروبية التي زرعها أتاتورك في الأمة أضعف مع مرور كل عقد من الزمن، لتتلاشى في نهاية المطاف. وعلى النقيض من الكماليين، فإنَّ النخب الجديدة في الأناضول لا تنظر إلى نفسها بأنها أوروبية في المقام الأول، وقد أصبحت وجهة نظرها تُشكّل قلب الهوية الجيوسياسية لتركيا.
مسيرة الأناضوليين
وُلِدتُ في الأناضول ونشأتُ في تركيا في أواخر القرن العشرين، حيث تلقّيتُ تعليمًا كماليًا قويًّا. وحتى مع تلك النشأة، كان يُحَيِّرني خلال سنوات مراهقتي ملاحظة الطُرُق التي تشبّثت بها تركيا بالهوية الأوروبية. في المدرسة، أمضينا أيامًا في دراسة الدول الأوروبية، بما في ذلك بعض الدول البعيدة، في حين كانت المناهج الدراسية تكتفي بإلقاء نظرة خاطفة على جيران تركيا المباشرين في الشرق الأوسط. إنَّ العديدَ من الأتراك يفهمون الشرق الأوسط على غرار الطريقة التي ينظر بها العديد من الأرجنتينيين إلى أميركا اللاتينية. وكما يقول الأرجنتينيون إنهم ليسوا من أميركا اللاتينية حقًا، بل إنهم أوروبيون تَصادَفَ أنهم يعيشون في أميركا اللاتينية، فقد شجّعت الكمالية مواطنيها، وأنا من بينهم، على الاعتقاد بأنَّ الأتراك كانوا في واقع الأمر أوروبيين تصادف أنهم يعيشون بالقرب من الشرق الأوسط. وعلى شبكات التلفزيون التركية المحلية، كانت توقعات الطقس الدولية تبث خريطة لأوروبا لا تتمركز حول تركيا بل في كثير من الأحيان حول سويسرا، مع وضع تركيا في الزاوية السفلى من الخريطة، كما لو كان على الأتراك أن يتخيلوا بلادهم باعتبارها ملحقًا بكُلٍّ أوروبي أكبر.
مع ذلك، كانت أوروبا أكثر تردّدًا بشأن علاقتها بتركيا. بين العامين 1995 و2013، خلال التوسّع السريع الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، استوعب الاتحاد الأوروبي 16 دولة جديدة. في البداية، بدا الأمر وكأن تركيا قد تنضم إلى هذه المجموعة: بدأت عملية انضمامها قبل نهاية الحرب الباردة، في العام 1987، وتلقت دفعة قوية مع وصول أردوغان إلى السلطة في العام 2003. وقد أشاد كثيرون من المراقببن الأوروبيين بأردوغان كنمط جديد من الإسلاميين المعتدلين الذين كانوا ملتزمين بشدة بالمؤسسات الديموقراطية وعلى استعداد لمواجهة المؤسسة العسكرية الراسخة في البلاد وتحويل تركيا إلى ديموقراطية كاملة. وفي العام 2005، بدأ الاتحاد الأوروبي محادثات رسمية مع تركيا بشأن العضوية.
لكن تركيا ظلت في الخارج. بعد وقت قصير من بدء المحادثات، أبلغت بروكسل أنقرة بأنها لن يكون هناك أيُّ عرض لها للعضوية في الوقت الحالي. ظاهريًا، كان هذا القرار يتعلق بالنزاع الدائم بين تركيا وقبرص بشأن شمال قبرص، ولكن في الواقع، كانت فرنسا وألمانيا مُتردّدتين في الترحيب بدولةٍ بحجم تركيا وثقلها في الاتحاد. لم يسبق للاتحاد الأوروبي قط أن بدأ محادثات الانضمام مع دولة لم تُتَوَّج بعرضِ العضوية. وكانت الإشارة الفريدة هذه المرة واضحة: لن يكون لتركيا موطنٌ في أوروبا.
إلى جانب محادثات عضوية تركيا المُخَيِّبة للآمال في الاتحاد الأوروبي، ساعد حكم أردوغان التحويلي على ترسيخ تركيا في الأناضول. إن حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان يُجسّدُ –بامتياز– صعود الأناضول في البلاد. إن حزب العدالة والتنمية عبارة عن آلةٍ يغذّيها الناخبون، والشركات، والنخب، وروحٌ متجذّرة في داخل الأناضول وساحل البحر الأسود -حيث ينتمي والدا أردوغان- وفي الشرق، الذي يضم العديد من الأكراد. كانت خزائن أردوغان مليئة بالسياسيين من هذه المناطق. لقد اختفى تقريبًا السياسيون الذين لهم علاقات بالبلقان، والذين كانوا يُهيمنون على الحكومات قبل صعود أردوغان. ويمكن قول الشيء نفسه عن صفوف البيروقراطية، فضلًا عن المحاكم العليا ووسائل الإعلام الرئيسة، والتي استولى سكان الأناضول المتعاطفون مع الرئيس على الكثير منها.
على هذا المنوال، شهد اللوبي التجاري القوي المؤيد لأوروبا في تركيا، “TUSIAD”، تراجع نفوذه في السنوات الأخيرة. يُهيمن “TUSIAD” على الشركات في إسطنبول وإزمير والتي شكّلها أشخاص أتوا من المقاطعات الأوروبية السابقة للإمبراطورية العثمانية، وغالبًا ما كان “TUSIAD” يقود الأجندة السياسية في البلاد؛ فقد دعا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في الثمانينيات وموَّل دراسة جريئة في التسعينيات، في ذروة تمرد حزب العمال الكردستاني، والتي اقترحت حلًّا سياسيًا للانفصالية الكردية. ولكن منذ وصول أردوغان إلى السلطة، سيطرت نخبةٌ مُختلفة من رجال الأعمال على السلطة وقامت بتشكيل الأجندة السياسية؛ فالشركات وأهل المال الذين يديرون الأناضول، والذين ينحدرون غالبًا من ساحل البحر الأسود، يدعمون الرئيس ويشجعون تركيا على التخلي عن التزامها بالعلمانية الكمالية، والحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع روسيا، وزيادة بصمتها السياسية في ما يسمى الجنوب العالمي.
إنَّ هذا الاستيلاء على الأناضول هو ببساطة نتاجٌ للتحوّل الديموغرافي في تركيا على مدى العقود الماضية وتقلُّص سيطرة النُخَب العلمانية القديمة على المجتمع التركي. وأردوغان ليس سببًا في هذا التغيير بقدر ما هو أحد الأعراض الرئيسة له. لقد تولّت النخب الجديدة في الأناضول زمام الأمور في تركيا، وأفرادها لا ينظرون إلى هوية البلاد وفقًا للشروط التي وضعها أتاتورك وخلفاؤه الكماليون. هذه النُخب، التي غالبًا ما تكون مُطَّلِعةً على تياراتٍ أكثر تحفّظًا من الإسلام، ترى أيضًا أنَّ الإسلام جُزءٌ لا يتجزّأ من الهوية الوطنية التركية. والحقيقة أنَّ هذه النخب الجديدة تحتفي بالإسلام بالقوة عينها التي حاول بها أتاتورك قمعه. لقد سعت حركة حزب العدالة والتنمية لفترة طويلة إلى تحدّي ارتباط تركيا بأوروبا والغرب في العصر الكمالي ثم القضاء عليه، وبالتالي التزام تركيا بالعلمانية على النمط الأوروبي التي تحاكي (وربما تجاوزت في حدتها) النظام العلماني في فرنسا. منذ وصوله إلى السلطة، رفع أردوغان الحظر الذي فرضه العصر الكمالي على الحجاب في تركيا، بينما سمح أيضًا للإسلام بالتدفّق إلى المناهج التعليمية والحياة السياسية في البلاد.
في عهد أردوغان، تحسّنت علاقات تركيا مع روسيا. فالبلدان متنافسان تاريخيًا، وكانا على جانبين مختلفين في الحروب في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز وأوكرانيا، وكانت أنقرة تزوّد كييف بدعمٍ سياسي وعسكري حاسم. وعلى الرُغم من هذه المنافسة، تربط بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين علاقة وثيقة منذ العام 2016، عندما فشلت محاولة الانقلاب في تركيا. في ذلك الوقت، أهدر حلفاء تركيا الغربيون، بما في ذلك الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس باراك أوباما آنذاك، فرصةً كبيرة بعدم احتضان تركيا وديموقراطيتها بعد محاولة الانقلاب المؤلمة. وبذكاء، استضاف بوتين أردوغان بعد أسبوعين فقط من الانقلاب الفاشل، مما شكّلَ علاقة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وفي المقابل، سمح ذلك لأنقرة وموسكو بصياغة ترتيبات لتقاسم السلطة في سوريا وليبيا، حيث يدعمان أطرافًا مختلفة في الصراع. كما شهد البلدان أيضًا ازدهارًا في العلاقات التجارية والسياحية، وظهور فكرة مشتركة بين الأتراك والروس مفادها أنهما “شعبان وسطيان”، ومن المستحيل تصنيفهما في هوية واحدة على مستوى العالم.
وُجِدَ ليبقى
بعد مئة عام على تأسيسها على يد أتاتورك، تستقر تركيا في مكانها، كما يستقر البيت في أساساته: في الأناضول، على مُفترقِ طرقٍ بين الشرق الأوسط، وأوروبا، وأوراسيا. ولا تزال تركيا هذه تعتبر نفسها جُزءًا من أوروبا، ولكن ليس على حساب ارتباطاتها الأخرى. وتتعامل أنقرة الآن بحرية مع إيران وروسيا والولايات المتحدة ودول الخليج العربية الغنية وأوروبا وغيرها من الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية بدون أن تشعر بأنَّ عليها اختيار الشريك المفضل. وفي حين كان الزعماء الأتراك في القرن العشرين يرتبطون عاطفيًا بأوروبا، فإنَّ أردوغان لم يكن كذلك؛ لقد أصبحت تركيا أكثر توجّهًا ذاتيًا وأكثر اقتناعًا بفضائلها.
بطبيعة الحال، ستظل تركيا الجديدة عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما يجلب لأنقرة طابعًا خاصًا بالإضافة إلى الحماية من موسكو (في مرحلة ما، تخشى النخب التركية أن تصبح العلاقة بين البلدين أكثر عدائية مرة أخرى)، وستستفيد من نفوذها مع قوى الناتو الأخرى. لكنها ستعمل في الوقت نفسه على إقامة علاقات وشراكات مع دول في الشرق الأوسط وأوراسيا. غالبًا ما تستخدم القوات الأوكرانية طائرات مُسَيَّرة من طراز “بيرقدار” تركية الصنع، على سبيل المثال، حتى مع زيادة التجارة الإجمالية لتركيا مع روسيا منذ بداية هجوم الكرملين في شباط (فبراير) 2022 على أوكرانيا. وفي الشرق الأوسط، أعاد أردوغان أخيرًا ضبط علاقات أنقرة مع الرياض. كانت العلاقات بين السعودية وتركيا تدهورت بعد أن اغتال عملاء سعوديون الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول في العام 2018، حيث ساعد المسؤولون الأتراك في ربط ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعملية القتل. لكن في آذار (مارس) 2023، أحالت المحاكم التركية القضية إلى المحاكم السعودية، وفي المقابل، أودع الصندوق السعودي للتنمية ما يقرب من 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي لمساعدة اقتصاد البلاد المحاصَر – وبشكل ملائم قبل الانتخابات الرئاسية التي جرت في أيار (مايو) في تركيا، والتي فاز بها أردوغان.
تتمتع تركيا الجديدة بالعديد من الهويات، وليس من السهل تصنيف أي منها على حدة: فإذا كانت دولة شرق أوسطية، فهي أيضًا الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تُعَدُّ أيضًا قوة على البحر الأسود. وإذا كانت دولة أوروبية، فهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تحدُّ إيران. وإذا كانت قوة أوراسية، فهي الوحيدة التي تنتمي إلى حلف شمال الأطلسي.
إنَّ أفضلَ طريقة للولايات المتحدة للتعامل مع تركيا هي الاعتراف بحقيقة هذه التحالفات المتعددة. يحب أردوغان أن يُنظَرَ إليه على أنه مركزُ الأشياء، حيث يدور العالم حول تركيا – فقد حاول أن يكون بمثابة حَكَمٍ في الحرب في أوكرانيا، ولعب دورًا نشطًا في جنوب القوقاز، وأبرز قوة تركيا في منطقة الساحل، والقرن الأفريقي، وجنوب القوقاز، وغرب البلقان. وهو يستمتع بكونه صانع الصفقات أو الوسيط في الصراعات الإقليمية، مما يعزز مكانته الهائلة بالفعل في الداخل. يجب على الولايات المتحدة أن تتعامل مع تركيا كما تفعل مع القوى المتوسطة الأخرى، مثل الهند وإندونيسيا، وتقبل أن هذه الدول لا ترى أي تناقض في الحفاظ على علاقات قوية مع كل من واشنطن وخصومها.
في نهاية المطاف، وعلى الرغم من كل سنوات التهديد والوعيد التي قضاها، قد لا يكون لدى أردوغان الآن اهتمام كبير باستعداء الغرب. بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2023، لم يعد أردوغان يواجه أي تحديات داخلية كبيرة، ويدخل الآن مرحلة بناء الإرث في حياته المهنية. وبعد أن أعاد تشكيل المسار الجيوسياسي لتركيا، يريد الآن أن يترك وراءه إرثًا إيجابيًا. وهذا يمثل لبايدن، أو خليفة بايدن، فرصةً لاحتضان تركيا الجديدة والاستفادة من نفوذ أنقرة في عصر المنافسة بين القوى العظمى. قد تكون أنقرة حريصة على العمل مع واشنطن بشأن مجموعة من القضايا، بما في ذلك إعادة إعمار أوكرانيا وغزة ومواجهة النفوذ الروسي والصيني في أفريقيا والبلقان، حتى مع احتفاظها بعلاقاتها مع روسيا ودول الخليج العربية. لقد تخلت تركيا عن أي رغبة في الانضمام إلى الغرب، ويجب على الولايات المتحدة أن تدرك أن تعدد انحيازاتها موجودٌ ليبقى.
- سونر كاغابتاي هو مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن ومؤلف كتاب “سلطان في الخريف: أردوغان يواجه قوات تركيا التي لا يمكن احتواؤها”. يمكن متابعته عبر تويتر على: @SonerCagaptay
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.