على الشَرقِ والغرب أن يعملا معًا بصدقٍ وتصميمٍ لتحقيقِ السلام

هناكَ محاولاتٌ شريرة لإعادة تعريف الحرب المستمرّة بين إسرائيل وغزة من أجلِ تبريرِ العُنف، وتشريعِ الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة لخلق صدع بين الغرب والعالمَين العربي والإسلامي. هذا ما يوجب علينا جميعًا أن نتصدّى له، وبالتالي أن نُقاوِمَ كلَّ تلك المحاولات. كذلك، فإنَّ علينا أن نعملَ بجدٍ معًا لوقف هذا العنف، ولتحقيق سلامٍ شاملٍ وعادلٍ ودائمٍ وقابلٍ للحياة في المنطقة.

الرئيس فؤاد السنيورة*

بقلوبٍ مُثقَلة بالأسى وبحزنٍ لا حدود له نُتابعُ الأخبار المفجعة الآتية من غزة.

لقد تعرّضت المناطق الفلسطينية على مدى سنواتٍ وسنوات للكثير من العنف، ولكنه لم يصل أبدًا إلى هذا الحد والمستوى الكارثي. فالخسارة الفادحة في أرواح المدنيين الأبرياء والتدميرُ الواسع النطاق ذو الأبعاد التدميرية “النووية” الحاصل في غزة، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، صدم العالم وبدأ يهزّ ضميره.

في المقابل، فإنّ الاحتجاجات الشعبية التي تعمُّ جميع أنحاء العالم، والتي لم يسبق لها مثيل حتى الآن ليست إلّا تعبيرًا عن استفاقة للضمير العالمي الإنساني، وتعبيرًا عن التضامن القوي مع الشعب الفلسطيني في غزة الذي تمَّ جره إلى هذه الحرب من دون أن يكونَ له رأيٌ بذلك.

كما ويجري الآن الترويج لروايات مختلفة ومُتعارِضة حول ما يجري في قطاع غزة، ولكن لا شيء منها على الإطلاق يُبرّرُ العنف الوحشي، وعلى الأقل لا يبرّرُ حقَّ إسرائيل في القيام به تحت ذريعة الدفاع عن النفس. كما لا يمكن إخراج هذه العمليات الحربية الكارثية من سياق عقود من استمرار الاحتلال، والحصار، والبؤس، والظلم اللاحق بفلسطين والفلسطينيين. في الحقيقة، هناك إمعانٌ قديم ومستمر في تجاهل محنة الفلسطينيين، ولا سيما في غضّ النظر عن الانتهاكات المستمرة التي ترتكبها إسرائيل لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة والقوانين الدولية ذات الصلة، والتي تحصل تحت سمع وبصر أعضاء مجلس الأمن الدولي وممثلي الدول الغربية الكبرى.

إنَّ تحقيقَ السلام العادل والشامل والدائم قد أصبح أكثر إلحاحًا من أيِّ وقتٍ مضى. ولهذا لا بدّ من القيام بعملٍ جدي من أجل إعادة الاعتبار والتشديد على مبادرة السلام العربية لعام 2002 باعتبارها أساسًا لخطةٍ شاملة تعترف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. لقد آنَ لنا أن نُدرِكَ أنه لن يكون من الممكن تحقيق السلام والاستقرار في هذه المنطقة إذا استمرَّ الفشل في معالجة القضية المركزية المتمثلة في تلبية الحقوق الفلسطينية.

للأسف، وفي محاولة يائسة لجذب اهتمام وتأييد الجماهير الغربية، ولتبرير مستوى العنف الذي ترتكبه إسرائيل، يتم تقديم إعادة صياغة هذا الصراع لتقويضِ البُعدِ الوطني الفلسطيني الحقيقي والمُتعلّق بالحقِّ المشروع للفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، وذلك في إظهاره وكأنه جُزءٌ من الصراع والحرب على الإرهاب، أو أنه مشابه في كثير من النواحي للحرب على “داعش”. والقصد من ذلك كلّه لتبرير الأضرار اللاحقة بالفلسطينيين في أرواحهم وأرزاقهم وممتلكاتهم، وبالتالي تجاهلها والتغاضي عنها.

كذلك، فإنّ هناك محاولة أكثر شرًّا لوصف الصراع بأنه حربٌ حضارية –الغرب ضد الباقين- وكأننا لا نزال في زمن الحروب الصليبية. وهذه المحاولة تخلط بين السبب والنتيجة: هذه التوترات هي بالفعل نتيجة للعنف الجاري ضد غزة وضد الضفة الغربية وليست السبب وراءه.

صحيحٌ أنّ الحربَ الجارية الآن بين إسرائيل وغزة قد تسببت بإيجاد صدعٍ كبيرٍ وخطيرٍ بين الشرق والغرب، وربما أكثر مما حدث بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، مع ما يحمله ذلك من تداعيات سلبية ثقافية ودينية هائلة. وهذا بحدِّ ذاته يُشكِّل أسبابًا موجبة للوقف الفوري لقصف غزة من أجل تجنّب العواقب التي يمكن أن يؤدي إليه تصعيد الصراع، وبالتالي الحؤول دون إعطائه بُعدًا عالميًا. وفي هذا الصدد، فإنّ ردَّ الفعل الشعبي الذي ظهر في الكثير من دول العالم المستنكرة لهذا العنف الإسرائيلي، ما هو إلّا إثبات على بطلان فكرة إظهار هذه الحرب باعتبارها صراعًا لا مفرَّ منه بين الحضارات. في الحقيقة، فإنّ هذا المنطق ليس إلّا منطق زائف يجري الترويج له لتبرير استمرار آلة القتل الجهنمية.

إنّ الارتفاعَ المُثير للقلق في معاداة السامية وكراهية الإسلام قد يكون أحد أعراض التوترات المتزايدة بين الأديان، والتي يمكن أن تؤدي إلى عكس وتغيير مسيرة سنوات من التقدم الحاصل على مسارات العيش المشترك والمتآلف بين الشعوب والأديان.

لذلك، فإنه يتوجب علينا جميعًا أن نحرصَ على ألّا نقع في الفخ الذي ينصبه المتطرفون الذين يعارضون التسوية العادلة والدائمة لهذه القضية المُحقة. فالمتطرّفون يتحمّلون مسؤولية الفشل في تحقيق التسوية المنشودة. وأنا على قناعة أنّ هذه المحاولة لتقسيم العالم على أُسُسٍ ثقافية ودينية سوف تفشل، ولا سيما وأنَّ هناكَ الكثير من القيم والمبادئ والمصالح التي تجمعنا، ونتشارك في حملها وفي الدفاع عنها.

ولذلك أيضًا، فإنّ الخطوة الأولى والأكثر إلحاحًا الواجب القيام بها هي في التوصّل إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار من أجل وقف المزيد من التدهور. ومن ثم يجب أن تبدأ العملية السياسية على الفور. ولا بد أن يتشارك في هذه العملية جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي بالتعاون مع أوروبا، والولايات المتحدة، فضلًا عن مجلس الأمن والأمم المتحدة.

هذا هو الوقت الذي يجب أن تتفوَّق فيه الحكمة على العاطفة. وانا على يقين انّ التاريخ سوف يُحَمِّلنا جميعًا المسؤولية السياسية والأخلاقية إذا فشلنا، وبالتالي لا ينبغي ولا يجوز لنا أن نفشل.

إنّ تنفيذَ القرارات الدولية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة ينبغي أن تكون على رأس الأولويات. وينبغي لها أن تلبي تطلعات الشعب الفلسطيني وتكفل الأمن للجميع، وفي المقام الأول لجميع الأطراف المتحاربة.

ها قد مرّ أكثر من 30 عامًا منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط وإطلاق عملية أوسلو للسلام، والتي فشل مجلس الأمن في أعقابها وحتى الآن في اتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ قراراته ذات الصلة. ذلك لأنه خضع لأجندات المتطرفين، وهو بذلك يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية عما يجري الآن من جرائم قتل وتدمير وعذابات تفوق التصوّر.

تجدر الإشارة أنه، وعلى مرّ السنين الماضية، قد تمّ إجراء العديد من الدراسات، وإعداد التقارير، وعقد الاجتماعات والمشاورات، التي تم فيها تشريح كل جانب من جوانب هذا الصراع العربي-الإسرائيلي والحلول الواجب اعتمادها في هذا الشأن، ولا سيما في مسألة حلّ الدولتين. ولذلك، فإنّه إذا لم تكن لدينا كل الإجابات العادلة والواضحة حتى الآن، فمعناه أننا لن نحصل عليها أبدًا. ولهذا تنبغي المسارعة للتقدم على المسارات الصحيحة التي توصل إلى النتيجة المنشودة.

لا بدّ من التنويه هنا بالقرارات التي اعتمدتها القمة العربية الإسلامية المشتركة التي انعقدت خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي في الرياض، والتي ضمّت 57 دولة، وحيث اتخذت القرارات بالإجماع. ومن ذلك، الدعوة والإصرار على وقفٍ فوري لإطلاق النار، وكسر الحصار على غزة وإدانة التهجير القسري للفلسطينيين. ولقد تمَّ تأليف لجنة من ثماني دول لمتابعة تنفيذ مقررات هذه القمة.

أعتقد أنه ينبغي اعتبار هذه القرارات بمثابة رسالة قوية وجدية إلى العالم أجمع ومفادها أن الوقت قد حان للتحرك الآن، خطوة بخطوة، نحو تحقيق السلام الشامل والعادل والدائم.

مثل كثيرين غيري في العالم العربي، أشيد بالموقف الأخلاقي والثابت للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بشأن أحقيّة القضية الفلسطينية، وكذلك بشأن حقيقة وطبيعة الصراع العربي-الإسرائيلي الأكبر. ولذلك، لا بد من بذل جهد جريء ومقدام ونبيل لوقف إراقة الدماء هذه.

هذه ليست حربَ حضارات، ولا حربًا على الإرهاب، بل هي حربٌ من أجل أن ينال الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية والإنسانية. ولذلك، يجب ألا ندع العواطف وردود الفعل تقودنا إلى المزيد من إزهاق الأرواح والدمار والتدمير للمستقبل.

  • الرئيس فؤاد السنيورة هو سياسي لبناني شغل منصب رئيس مجلس الوزراء من 2005 إلى 2008. وكان رئيس كتلة المستقبل النيابية بين 2009 و2018.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في صحيفة “ذا ناشيونال” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى