هل يُخَطِّطُ بنيامين نتنياهو لمَخرَجٍ عبر لبنان؟
يزيد صايغ*
في محادثةٍ مع وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، نُقِلَ عن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أنه أعربَ عن قلقه بشأن دور إسرائيل في تصعيد التوترات على طول الحدود مع لبنان، مُبديًا خوفه من أن يؤدي ذلك إلى حربٍ إقليمية. وعليه أن يقلق. لا توجد حتى الآن ضرورة استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل لتوسيع نطاق الصراع في غزة، لكنَّ المَنطِقَ السياسي الذي يُشَكّلُ سلوكَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يجعل استمرارَ هذا الصراع والتصعيد على جبهاتٍ أُخرى خياره الافتراضي. وهنا يكمن الخطر الحقيقي على الجميع.
قَدّمَ نتنياهو أدلّة كثيرة منذ الهجوم الذي شنته حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) على أنه يصنع سياسة على قدم وساق. لقد ألقى باللوم على أعلى المستويات الأمنية في إسرائيل بسبب الفشل الدراماتيكي لسياساته السابقة تجاه “حماس”، في منشور على موقع “X” تمَّ حذفه لاحقًا، ولكن ليس قبل نقل الرسالة إلى جمهوره المحلي المقصود. وفي بيانٍ صدر في 28 تشرين الأول (أكتوبر)، ذَكّرَ الجنود الذين كانوا يستعدون لدخول غزة بأن “يتذكّروا ما فعله العماليق بكم” (العماليق هي أمة موصوفة في الكتاب المقدس العبري بأنها عدو قوي لبني إسرائيل). في المناخِ السياسي الحالي، فإنَّ استحضارَ فقرةٍ من الكتاب المقدس تأمر بالانتقام لهجوم على اليهود العُزَّل في الصحراء سوف يفهمه المستمعون على أنه يعني ضمنًا مقطعًا ذا صلة: “لا تعفوا عن أحد، بل اقتلوا على حدٍّ سواء الرجال والنساء، الأطفال والرضّع، البقر والغنم والجمال والحمير”. وتوقع نتنياهو في وقت لاحق أنَّ الحربَ ستتبعها مسؤولية أمنية إسرائيلية غير محددة على غزة، على الرُغم من أنَّ كلًا من غالانت ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن نفيا أن يكون هذا في الواقع هدفًا رسميًا للحرب.
لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد منطقٌ داخلي أو تماسكٌ لتصريحات نتنياهو المُتباينة ومنشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي. بل إنها تخدم غرضَين. أوّلًا، تأخير اللحظة التي سيواجه فيها العبء الأكبر من المطالبات بالمساءلة السياسية بسبب فشل السياسة التي باعها للشعب الإسرائيلي لفترة طويلة: الوعد بالأمن والازدهار لإسرائيل، في حين يحاصر غزة ويُفقرها ويوسع المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية. ويتمثل هدفه الثاني في إبقاء شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف على مقربة منه ومناشدة الدوائر الانتخابية اليمينية لضمان دعمها عندما تأتي لحظة الحساب تلك. وإذا تمكّن من الحفاظ على قبضته على رئاسة الوزراء، فسيكون نتنياهو قادرًا على مواصلة السعي للحصول على الحصانة من الملاحقة القضائية بتُهَمِ الفساد التي سعى إليها من خلال الإصلاحات القضائية المثيرة للجدل التي اتبعها ائتلافه اليميني منذ بداية العام 2023.
وعلى حدِّ تعبير الصحافي الإسرائيلي المخضرم عاموس هاريل: “حتى في خضم الحرب الأكثر أهمية التي تشهدها البلاد منذ خمسين عامًا، فإن رئيس الوزراء مشغولٌ في المقام الأول، وقبل كل شيء، بنفسه وبإنقاذ مستقبله السياسي الهشّ”. لدى نتنياهو مصلحة سياسية واضحة في الحفاظ على وتيرة العمليات العسكرية في غزة، وبالتالي رفضه المتكرر لوقف إطلاق النار الإنساني. وما لا يقل إثارة للقلق هو أنه إذا تحوّلَ تبادل إطلاق النار المستمر بين “حزب الله” والقوات الإسرائيلية عبر الحدود اللبنانية إلى مواجهة واسعة النطاق، فلن يكونَ ذلك بسبب قرارٍ اتخذه “حزب الله” أو إيران، اللذان يسعيان إلى احتواءِ أيِّ تصعيدٍ داخل الحدود الحالية، ولكن لأن نتنياهو يشعر أن بقاءه السياسي يتطلّبُ تصعيدًا على هذا النطاق.
من خلال جعل التصعيد هو موقفه الافتراضي، يستعير نتنياهو تكتيك “الهروب من خلال الركض إلى الأمام” الذي تبنّاه عدوه اللدود السابق ياسر عرفات، الرئيس الراحل لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية. وكما كتبتُ عن عرفات في ذلك الوقت، فإنَّ هروبه بالركض إلى الأمام جاء ردًا على بداية الانتفاضة الثانية ولجوء بعض الفلسطينيين إلى السلاح في العام 2000. ولم يكشف ذلك عن استراتيجية مُسبقة، بل عن غيابِ استراتيجيةٍ أو غَرَضٍ واضح. لقد استغلَّ “حدثًا دراميًا أحدثته وكالة خارجية لإخفاء مأزقٍ استراتيجي والهروب منه، ثم سعى إلى تكثيف هذا الحدث وإطالة أمده كوسيلة لاكتساب “الهيمنة على الأزمة” وفي النهاية للتوصّلِ إلى نتيجةٍ لصالحه… وكان ردُّ فعلِ عرفات الغريزي هو الحفاظ على هذه الميزة، التي تتطلّب، بالمعنى التقريبي، حصيلة يومية من القتلى”.
مما لا شكَّ فيه أن أنصارَ أيٍّ من الرجلين سوف يشعرون بالإهانة، ولكن كما هو الحال مع عرفات، كذلك الحال مع نتنياهو. ويكشف موقف نتنياهو الخطابي (المدعوم بالتقاط الصور الفوتوغرافية التي لا نهاية لها مع الجيش) عن تصوّرٍ مفاده أن التكاليف السياسية المحلية لتغيير المسار الحالي لحكومته -إجراء عمليات عسكرية بدون استراتيجية خروج متماسكة في غزة، من وجهة نظر مسؤولي إدارة بايدن- أعلى للغاية من تلك التي تحافظ عليه. فالإسرائيليون الذين يشعرون بأن الافتقار إلى تفكير سياسي واضح غير مهم ما دامت القوات الإسرائيلية تُنفّذُ عملية القضاء على “حماس” بشكلٍ جذري، يستخفّون بالعواقب المترتبة على خيار نتنياهو الافتراضي. ويتجلّى هذا بشكلٍ واضح في سياسته المتمثلة في تركيز الموارد الحكومية والجُزء الأكبر من وحدات الجيش على توسيع وحماية حركة المستوطنين العدوانية والعنيفة بشكلٍ متزايد في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، بتكلفة باهظة دفعها المدنيون الإسرائيليون على طول الحدود مع غزة في 7 تشرين الأول (أكتوبر).
تُظهِر التطورات في الضفة الغربية والقدس الشرقية أنه في حين يُركّزُ هدف نتنياهو في الأمد القريب على بقائه السياسي الشخصي، فإن هدفه في الأمد الأبعد المتمثّل في الاحتفاظ بمنصبه يُشكّل هدفًا استراتيجيًا وطويل الأمد. فمن خلال تعميم الخطاب اليميني القومي المتطرف، يعمل على تعميق القناعة بأنَّ إسرائيل ينبغي لها ــوالأهم من ذلك، أن تتمكن من ــ بسط سيطرتها على جميع الأراضي الفلسطينية بهدف تحويلها بشكلٍ لا رجعة فيه إلى أرض إسرائيل من “النهر إلى البحر”. وبإفلاته من أزمته السياسية الحالية بالمضي قدمًا، يحجب نتنياهو عن الرأي العام الإسرائيلي أن تصميمه على جعل إقامة الدولة الفلسطينية أمرًا مستحيلًا في حين يعد بالسلام والأمن الكاملين للإسرائيليين يمثل دائرة لا يمكن تدويرها. وهذا يكمن في جوهر خياره الافتراضي.
سواء أُجبِرَ نتنياهو في نهاية المطاف على ترك منصبه أو عاد منتصرًا في معركته السياسية الداخلية، فإنه سيعمل على تعميق الاستقطاب في بلاده إلى حدٍّ كبير وتشجيع حلفائه اليمينيين على أن يُصبحوا أكثر تصادمًا مع مواطنيهم – سواء كانوا مليوني فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية أو المنشقّين والمعارضين اليهود. إن عنفَ المستوطنين الذي نراه الآن في الضفة الغربية بدأ يظهر بالفعل عبر حدود العام 1967، داخل إسرائيل. الواقع أن كفاح نتنياهو من أجل الاحتفاظ بمنصبه قد يؤدي إلى تمكين شركائه من اليمين المتطرف، حتى أنه لن يتمكن بعد الآن من تقديم نفسه للأحزاب الإسرائيلية الأكثر وسطية، أو للحكومات الغربية، باعتباره الضمانة المعقولة التي تُعيق اليمين المتطرف. هذا الأخير سيكون قويًا جدًا، وسوف يتحوّل ميزان القوى من نتنياهو إليه.
بمجرد أن حَبَسَ عرفات نفسه في خياره الافتراضي، أصبح مُحاصَرًا بالمعنى الحرفي والمجازي. وقد حاصرته القوات الإسرائيلية في مجمعه الرئاسي في رام الله منذ منتصف العام 2002 حتى وفاته في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004. وفي هذه الأثناء، صوت البرلمان الفلسطيني على تقييد صلاحياته، والأهم من ذلك، على خارطة الطريق للسلام التي أصدرتها “اللجنة الرباعية” بقيادة الولايات المتحدة في العام 2003 التي أحرزت المزيد من التقدم نحو إقامة الدولة الفلسطينية اعتمادًا على إصلاحاتٍ داخلية وعلى ضمان الأمن لإسرائيل. ولكن كل هذا لم يدفع عرفات إلى التخلّي عن خياره الافتراضي.
يظلُّ نتنياهو أبعد بكثير عن لحظة الحساب هذه، ولكنه عالقٌ على نحوٍ مماثل. وربما كان المقصود من نشر إدارة بايدن لأصول عسكرية كبيرة في شرق البحر الأبيض المتوسط هو ردع حزب الله (وإيران) عن توسيع نطاق الحرب في غزة، بالإضافة إلى ثني الحكومة الإسرائيلية عن القيام بعمل عسكري خارج قطاع غزة. لكنها قد تفعل العكس في الواقع: تشجيع نتنياهو على الاعتقاد بأن التصعيد العسكري في الشمال هو مرة أخرى خياره الأرخص – الافتراضي.
- يزيد صايغ هو زميل أقدم في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يقود برنامج العلاقات المدنية العسكرية في الدول العربية.