أنا أنطونيو… وأنطونيو أنا
رشيد درباس*
“إنهم ينتقمون منا بقتل أولادنا”
وائل دحدوح
مراسل الجزيرة في غزة
ضَرَبَ الزلزالُ الكيانَ الإسرائيلي في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، فترامت الهزّات الارتدادية إلى الولايات المتحدة مرورًا بأوروبا في مشهد عصفٍ غير مسبوق.
يوم اندلعت حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973، لم يُسْتَدْعَ الاحتياطي الإسرائيلي حتى أمسك الجيش المصري بكامل الضفة الشرقية من القناة، وتَوَغّلت القوات السورية في داخل الأراضي المحتلة. ورُغمَ أنَّ هنري كيسنجر، كما نقلت عنه صحيفة معاريف منذ شهر، اتفق مع الرئيس ريتشارد نيكسون على عدم السماح بهزيمة إسرائيل، فإن الولايات المتحدة لم ترسل قطارها الجوي إلّا بعد أن استشعرت الخطر من هزيمةٍ شنيعة قد تحلّ بجيش الدفاع الإسرائيلي.
لكن، منذ خمسين عامًا ليس كما اليوم، فالاحتياطي في جيش العدو استُدعِيَ فورًا وما زال مُستَنفَرًا، ودباباته تراوح على حدود القطاع وتتقدم بالأمتار، في مواجهة فائقة الغرابة بين مئات ألوف الجنود المحترفين مع آلاتهم الحديثة المُدَمِّرة من جهة، وآلاف المقاتلين الفلسطينيين الذين يُقلِقون بتكتيكاتهم وشجاعتهم البنية الإسرائيلية برمّتها؛ وذلك وفقًا لوصف قادتها الذين لا يكفّون عن القول بأنها حرب وجود طويلة ومؤلمة. وفي هذه المرة لم يتأخّر المستر بلينكن والرئيس بايدن عن النجدة، بل وصلت حاملة الطائرات الأميركية الكبرى (جيرالد فورد) إلى مياه المتوسط، ثم تبعتها الحاملة (أيزنهاور)، في مواكبة لزيارة الرئيس الأميركي الذي حضر لشدِّ الأزر وللإعلان أمام العالم كله بأنَّ أميركا معنية بِقَضِّها وقضيضها بهذه الحرب، إلى درجة أن راح الرئيس الأميركي يتبنى المقولة الإسرائيلية لجهة تدمير المستشفى المعمداني، ثم لجهة التقليل من عدد الضحايا.
على هامش هذا استشعرت الدول العربية بهَولِ الجريمة المُتمادية، فأعلنت مواقف جازمة وضعت حدًّا لخطط التهجير التي لم تتخلَّ عنها إسرائيل يومًا، في سعيها اليائس لتلافي انفجار القنبلة الديموغرافية الفلسطينية في زمان بدأت تلوح إرهاصاته. (يراجع تقرير أفيغدور ليبرمان الذي نشرته الصحف الإسرائيلية منذ أيام).
لكن أسوأ أنواع الحروب تلك التي يشنّها المتوتّرون الذين لا يستطيعون أن يبتعدوا بأنظارهم خارج اللحظة القتالية الراهنة، كما تفعل إسرائيل الآن، دون أن تُعيرَ التفاتًا إلى الاستنكار الشعبي الذي عمّ العالم، بدءاً من لندن، مرورًا بالموقف التركي الذي وصل رسميًّا إلى حد التلويح باستعمال القوة العسكرية، فيما كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بالدولة العبرية وكانت لها معها أطيب الصلات. لقد رمت إسرائيل جانبًا تطور علاقاتها بالدول العربية، وتناست رفع علمها في المغرب والخرطوم وبعض دول الخليج، وقررت استعادة منسوب العداء الإسرائيلي ضد العرب إلى ذروته القصوى، بما ينكأ جراح “دير ساسين” و”بحر البقر” و”قانا” و”صبرا وشاتيلا” وحصار بيروت، واكتفت بالتباهي بقوتها العسكرية التي تقتل البشر بلا هوادة دونما تفرقة بين المقاتل والرضيع، أو بين الثكنة والمستشفى، وصولًا إلى تحقيق شعار النصر الكاذب الذي لن يكون، حين تنكشف الخدعة ويظهر للعيان عبثية فكرة إقامة “دولة حديثة” على أساس من الأسطورة والخرافة.
كل ذلك يحدث أمام شاشات التلفزة التي تكاد تنفجر في نفوس مشاهدي العالم أجمع. فعلى مرِّ الثواني، تنقضُّ الطائرات فوق رؤوس ما يزيد عن مليوني إنسان، بالحمم القاتلة المدمِّرة، في فضاءٍ حرّ خالٍ من المخاطر، وبوتائر متصاعدة، لأن “فرسان الجو”، يخشون الالتحام بأهل البر المُحاصَرين المحرومين من الماء والكهرباء والدواء والطعام. أما فرسان السياسة، “بايدن” و”ريشي سوناك” والرئيس “ماكرون” وغيرهم من قادة العالم، فيهرعون للسفر إلى تل أبيب تضامنًا مع نتنياهو واستنكارًا لما فعلته “حماس”، غاضِّين النظر عن تدمير القطاع وتجويعه، فيما يرى العالم كله، شخصًا متواضعًا، خلع عنه ربطة عنقه وأبّهة مركزه الرفيع، ليتابع شاحنات الإغاثة على بوابة رفح، وينتظر حزينًا، فسحة من الوقت تسمح فيها إسرائيل بمرور بعض المعونة للعطاش والجرحى والجوعى. إنه “أنطونيو غوتيرتش”، الأمين العام للأمم المتحدة، الذي أشهر غضبه الهادىء في مجلس الأمن وقال: إن ما حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) لم يأتِ من فراغ، بل له ما قبله، وهو نتيجة الاضطهاد ضد الشعب الفلسطيني، وسياسات الاستيطان، وتجاهل الدول العظمى لهذه القضية. ولما انفجر الوزير الإسرائيلي بوجهه مطالبًا بإقالته، سكت وزراء خارجية الدول المتحضّرة عن الأسلوب السوقي، فيما أشاح عنهم الرجل النبيل بنظرة مزدرية، كأنه يستعيد ما قاله مارك انطونيو في مسرحية “كليوباترا” لأمير الشعراء أحمد شوقي: “أنا أنطونيو …وأنطونيو أنا”، فمَن يسكت عن سجنٍ حقيقي فيه أكثر من مليوني نزيل، حُكِموا جميعًا بالعقوبة المؤبّدة، بمن فيهم الأجِنَّة في الأرحام، ليس غريبًا أن يسكتَ عن كلام سوق من رجلِ سوء بإجرام الوزير الإسرائيلي، الذي لا يستحق إلّا الازدراء، مع أولئك الذين ارتضوا أن تُهان الأمم المتحدة إلى هذا الحد، فلم يُحرّكوا ساكنًا ولم يزجروه. أما مَن هو بشموخ “غوتيرتش”، رُغمَ قصر قامته، فيكفيه من المجد ثورة القرنفل السلمية على الفاشية والدكتاتورية، وانتسابه لذلك الفكر الإنساني رئيسًا لحزب، ورئيسًا لحكومة ثم أمينًا عامًّا يمارس الحراسة على الشاحنات، كما على القِيَم البشرية التي تُنْتَهَكُ بالقتل والتدمير والتجويع والتعطيش وتدمير المستشفيات. ولقد كنتُ أتوقّع مواقف من الدول العربية تُحيي شجاعة الرجل، ولقد كان من أضعف الإيمان أن يوجه السيد أحمد أبو الغيط رسالة شكر له، باسم جامعة الدول العربية، فإذا السكوتُ قد عمَّ أيضًا اللسان العربي. أما عن موقف وزير خارجية اسرائيل، فيكفي التذكير بأن رئيس حكومته بنيامين نيتياهو، سليل تراث إرهابي قديم، وأنه خليفة “مناحيم ببغن” الذي نسف فندق الملك داوود، ثم حصل على “نوبل” للسلام في ما بعد، بمحاكاة مضحكة مبكية تفسّر مفهوم السلام على أنه نوعٌ من البطش بالشعوب مرغوبٌ فيه دوليًّا. شتَّان ما بين شيبة نتيناهو المتهتكة ووقار شيب الأمين العام.
إنَّ الأمين العام للأمم المتحدة، عندما نبه المجتمع الدولي إلى خطورة تجاهل الحقائق، لم يكن معاديًا للسامية أو داعيًا إلى رمي إسرائيل في البحر، بل كان يقول لمن له سمع وبصيرة، إن العواقب المقبلة ستكون أدهى من النتائج المنظورة.
السلام صعب والحرب هينة. فالأول يحتاج إلى منسوبٍ عالٍ من الفهم والثقافة والإنسانية والشجاعة والقدرة الفائقة على إقناع الناس بأهمية الحياة، أما الحرب فقرارٌ جبان يتّخذه من خانته شجاعة الذهاب إلى التسويات، واستسلم إلى الخطاب والغريزة.
أعودُ إلى السيد “غوتيرتش” الذي يكن حبًّا للبنان وإعجابًا به، فقد كان يدعو دائمًا إلى عدم التفريط بالصيغة وإلى الحفاظ على نموذج التكامل بين الطوائف. وكان لي حظ التعرف به عن قرب، لكثرة ما تلاقينا في لبنان والخارج أثناء تولِّيَّ لملف اللجوء السوري كوزير للشؤون الاجتماعية آنذاك. ومما أذكره له، وأنَوِّه به، أنني عندما أبلغته بقرارنا وقفَ اللجوء السوري، وشطبَ الذين يذهبون إلى سوريا من سجل اللاجئين، همس لي بودٍّ كبير: أنا أمامك أمثّل مصالح اللاجئين، لكنني عندما أدير ظهري أصبح لبنانيًّا متعاطفًا معكم… ثم ختم، إنها دولتكم، وأنتم أدرى بمصالحها. هذه الدولة قد تتعرّض لحرب مدمرة، فيما قواها السياسية مصرّة على أن تشرع شبابيكها وأبوابها للإعصار المتوقع، دون أن يهتز فيها عرق من خجل، فتسارع إلى ملء الفراغات الخطيرة التي أصبحت فجوات واسعة ستتدفق منها الأمواج المغرقة لا سمح الله. ذلك أن شغور الرئاسة والحاكمية وقيادة الجيش، ليس شغورًا مارونيَّ العناوين وحسب، بل أنا أخشى أن يصير مشروع شغور وشيك بالدور الماروني، وبالصيغة اللبنانية كلها؛ ولقد كان من اللافت، يوم الجمعة الماضي أن خطاب الأمين العام ل”حزب الله” لم يتطرق إلى هذا الأمر الذي هو أساس الصمود في وجه أيِّ عدوان.
- رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).