نقاشٌ مُبَكِّرٌ في مساراتِ “حماس” والعَرَب
محمّد قوّاص*
تنتمي حركة “حماس” إلى “جماعة الإخوان المسلمين”، وهي جُزءٌ من الجهد العام للإسلام السياسي في العالم. كان للحركة الموقف والفعل في سياق “الربيع العربي” الذي هبّ على المنطقة في العام 2011 لجهة كونها جُزءًا من تيارٍ عقائدي عمل على هيمنة التيارات الإسلامية على تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا وغيرها. وقد انتقلت “حماس” في الميدان المصري بالذات من النظري إلى العملي وإلى المقاعد الأمامية واتُّهِمَت لاحقًا بالتآمر على أمن البلد.
ليس في هذا السرد سوى توصيف للوضع والتموضع الذي اختارته حركة “حماس” في التعامل مع البلدان العربية، بعدما سيطرت في العام 2007 على قطاع غزة وطردت هياكل السلطة الفلسطينية من هناك. وإذا ما اشتبكت العواصم مع “إسلامها السياسي” بأشكالٍ وأنماطٍ مختلفة، فإن هذا الاشتباك طاول منطقيًا حركة “حماس” ومَسَّ طبيعة العلاقات العربية معها.
وما فاقمَ توتر علاقات النظام العربي أو معظمه مع “حماس” هو علاقاتها المُتَقَدِّمة مع إيران في عزِّ المواجهة المفتوحة بين طهران والمنطقة. استعارت الحركة مُفرداتِ الحاكم نفسها في إيران في مقاربةِ بعض العواصم العربية، وأقرّت بأنها جُزءٌ من “محور المقاومة” الذي تستخدمه طهران أداةً من أدواتِ السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية.
استطاعت القاهرة تجاوز سوء العلاقة مع “حماس” واشتغلت الحركة بجدّية لإعادة الوصل مع مصر. صحيحٌ أنَّ ضريبةَ الجغرافيا تفرضُ على “حماس” احترامَ شروط وقواعد ومعايير وأصول في التعامل مع الجار المصري الكبير، لكن هذه الضريبة أيضًا أملت حقائقها لدفع مصر إلى إرساءِ تعاملٍ ما، أخذ أكثره الطابع الأمني الاستخباري، مع “الجماعة الإخوانية” الفلسطينية.
يدافع قادة الحركة عن التحاقهم بمحور إيران ويعزون الأمر إلى غياب رعاية لهم عند العرب. يكرر رئيس الحركة في الخارج خالد مشعل حجّةً تقول إن “حماس” دقّت أبواب العرب فلم تفتح فاضطرّت لقبولِ دَعمِ مَن طَرَقَ بابها (إيران). لا يعترف مشعل ضمنًا بالأسباب التي جعلت أبواب العرب موصدة ومسؤولية “حماس” وسياستها ومصالحها وأجنداتها في ذلك، ولا يتطوّع بممارسة أيِّ نقدٍ ذاتي في سلوكها مع البيت الفلسطيني والبيت العربي على السواء.
وإذا ما عزلت “حماس” نفسها عن البيئة العربية ولم تعترف بطبيعة هذه البيئة وتاريخها في الصراع مع إسرائيل وما دفعته في العسكر والأمن والحجر والبشر والاقتصاد، وإذا ما فتحت بدل ذلك منافذ لها، تارةً مع إيران وتارةً مع تركيا وغيرهما، معتبرة أن في ذلك تشاطرًا وإنجازًا، فإنَّ الحركة من حيث تدري قدمت “القضية” ورقة من أوراق القوة لدى طهران خصوصًا، تستخدمها للاستهلاك المحلي والإقليمي والدولي وتقاتل بها من خلال أذرعها. وطهران تترك هذه الأيام غزّة لمصيرها ما دام ذلك أيضًا يخدم مصالح الحكم في طهران.
يطلق قادة “حماس” في الخارج هذه الأيام، واحدًا تلوَ الآخر، عتبًا على إيران وأذرعها، لا سيما “حزب الله” في لبنان، لتقاعسها عن الانضمام بشكلٍ وازنٍ إلى معركة غزّة. والأمرُ يطلقُ أسئلة بشأن معطيات “حماس” التي تُبرّرُ هذا العتب، سواءَ في وجود اتفاق تحالف تمّ نقضه أم في استناد “حماس” جدّيًا وبإيمانٍ مُطلَق إلى سرديات إيران وعقائدها وخطب مرشدها أو وعود فصائلها، وخصوصًا حزبها في لبنان. لكن العتب يتحوّل إلى أكثر منه حين يتعلق بالعالم العربي وإن اتّخذَ هذه المرة وتيرة أقل حدّة وشراسة.
وإذا ما بحثنا عن تفسيرٍ لعدمِ التحاق “الآخر” بالمعركة فنجد شرحًا دقيقًا قدّمه نائب رئيس الحركة موسى أبو مرزوق. ففي مقابلةٍ معه وفي معرض ردّه على سؤالٍ بشأن سبب عدم مشاركة “حماس” مع حركة “الجهاد الإسلامي” في غزّة وجنين قبل أشهر، قال في 8 آب (أغسطس) الماضي إن “المعارك لا تُخاضُ بإراداتٍ فردية ومن أجل أهدافٍ جُزئية وأن تجرَّ شعبًا بأكمله إلى معركةٍ أنت في النهاية لا تريدها”. وأضاف أن هناك “تفاهمات واستراتيجيات مع حركة “الجهاد” وكان من المفروض أن تنبع أي معركة من تفاهماتٍ مشتركة حتى تُخاضُ معركة مخطط لها وليس محطة يُجرّ لها شعبنا ويدفع ثمنها بالنهاية”. ثم أوضح أنه “كان على هذه المسائل أن تكون محسوبة وتقوم بتفاهمات مسبقة تتيح للمجموع الوطني وغرفة العمليات المشتركة اختيار التوقيت والمكان والزمان والكيفية والآلية، ولا تكون المسألة أخوض معركة وأخسر ما أخسره وتكون النهاية كما نشاهد”.
لم يصدف أنَّ مسؤولًا عربيًا حتى لو كان خصماً لـ”حماس” قال ذلك عن الحركة. ولسنا هنا لمحاكمة “حماس” فيما إسرائيل تفرج عن أشرس قدراتها في ارتكاب المجازر وإبادة غزة بشرًا وحجرًا. وإذا ما بات العالم أجمع، حتى ذلك الداعم بلا شروط لإسرائيل، يقرّ بصعوبةٍ بأنَّ قضية فلسطين لم تبدأ في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وبأنَّ الاحتلالَ الذي يمتد لعقودٍ وسياسة إسرائيل مسؤولان مباشرة عن انفجار الوضع الفلسطيني عامة وفي غزة بخاصة، فإنَّ العربَ جميعًا، شعوبًا وعواصم، يقفون موحّدين إلى جانب فلسطين وغزّة حتى لو شاب العلاقات مع “حماس” في الماضي شوائب موجِعة.
ليس تفصيلاً أن يقف النظام العربي برمّته من دون أي تصدّعات وانقسامات ليتكلم لغة واقعية واحدة بعيدة من شعبوية ماضوية، سواء في موقف الأردن أم مصر أم السعودية أم الإمارات (التي تمثل العرب في مجلس الأمن) وباقي دول الخليج. ليس تفصيلًا أن يسمع وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن، كما كل الموفدين الغربيين، لغةً واحدة في كل العواصم العربية التي زاروها تطالب بوقف إطلاق النار ومنع “نكبة” وهجرة جديدة للفلسطينيين والمطالبة بالاعتراف بالقضية الفلسطينية والذهاب إلى جذور المشكلة وحلّ الدولتين. وليس تفصيلًا أن يحظى القرار الذي قدمته المجموعة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة بإجماع عالمي كاد يكون شاملًا.
وُجِبَت ملاحظة أن الحروب التي خيضت في المنطقة منذ بداية التسعينيات الفائتة أُقيمت لها تحالفات دولية حظيت بتأييدٍ داخل المنطقة، لكن حرب إسرائيل ضد غزّة المدعومة عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا بالمنظومة الغربية، لم تجد لها في المنطقة حليفًا ولم تمنح المنطقة أي تفهّم لرعاية “نكبة” جديدة. بدا العالم الغربي معزولًا عن الشرق الأوسط في حربه في غزة، وبدا أنَّ فلسطين أعادت رسم معالم انقسام دولي قد يؤسّس لخرائط أخرى في هذا العالم. وإذا ما ذهبت “حماس” في خياراتها وأجنداتها بعيدًا من سياقات المنطقة وأنظمتها السياسية، فإن حاضنة العرب نصبت سقوفها فوق فلسطين، بما في ذلك فوق من غرّد خارج سربها ولم تحاكمه على قرار منفرد اتّخذه لحسابات ما زلنا لم نستنتج نهاياتها.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).