هَوِيَّتي الوحيدة: لبنان اللبناني
هنري زغيب*
أَمام ظاهرتَي النزوح (منذ 2011) واللجوء (منذ 1948)، وعقِب الأَحداث الأَخيرة المتسارعة محليًّا وإِقليميًّا، يُبدي كثيرون قلقَهم من أَي تبدُّلٍ ديموغرافي قد يَزيد مع الوقت فيؤَثِّر على الهوية اللبنانية.
أَفهم قلقَهم وأُبرِّره، لكنني لا أُشاركهم هذا القلَق.. فالهوية ليست بنْتَ الديموغرافيا بل بنْتُ التاريخ.. ومن يغيِّر في الديموغرافيا أَو الجغرافيا لا يمكنه أَن يغيِّر في التاريخ.. ولبنان، بعيدًا عن العنتريات الزجلية ونبرات التعنُّت الشوفينية، ضالع في ضمير التاريخ.. من هنا هويتُه الراسخةُ الجذور فلا خوفَ عليها من أَغصان تيبَس أَو تتقصَّف أَو تتحوَّل طالما الجذور ثابتة في العمق الهانئ.
أَقول “ثابتة” وأَتَمَسَّك بالكلمة. فالهوية ثابتة لا تُكتَسَب (كما تُكتَسَب “بطاقة” الهوية) ولا تُقتَلَع (كما يُسحَب جواز السَفَر).. والهوية ثابتة تولَد معنا ونحمل جيناتها فينا منذ الولادة حتى الوفاة، وليس مَن يستطيع تغيير الجينات.
الهوية الثابتة تعني الوطن لكنها لا تتقوقع فيه بل تنفتح دولتُه وسْعَ آفاق محيطه تَفعَل بها وتتفاعل معها في تراشُح مثمر ومفيد.
الهوية الثابتة أَقدم وأَكبر وأَعمق من الدولة.. هذه تتغير بتغيُّر رجال سلطتها لكن الوطن باقٍ بهويته الثابتة أَيًّا يكُن نظام الدولة فيه.
والهوية الثابتة: التاريخُ مداها الأَوسع، والأَرضُ ذاكرتُها الأَعمق.. هي ثابتة في النسيج الدموي وليس مَن يستطيع تغيير هذا النسيج.
والهوية ثابتة في اطِّلاب الحرية.. ولبنان، منذ كان جبَلًا مفْردًا وحيِّزًا على خارطة، كان موئلَ حريةٍ أَسَّسها لنا أَجداد مباركون كي ترتفع مساحة الحرية إِرثًا لنا لا إِلى إِعارة ولا إِلى إِحالة.. لذا لن يؤَثِّر فيها نزوح أَو لجوء أَو تجنيس. فلا اللاجئ سيعترف بالهوية اللبنانية، ولا النازح سيعتنقُها، ولا المجنَّس سيتبنَّاها – ولو نال بطاقتها الرسمية – إِذ وفَّرها له سياسيون لبنانيون حقيرون لغايات انتخابية.. واستطرادًا: كثيرون من اللبنانيين يحملون “بطاقة” الهوية اللبنانية إِنما لا يستاهلونها لأَنهم لا يعترفون بها أَو يؤْمنون بل يُحقِّرونها لأَنهم حقيرون، ولا يتمسكون بها لأَنهم بلا وفاء ويَنتمون إِلى هويات أُخرى خارج الحدود.
الهوية الثابتة لا تتأَثَّر بالتغيُّرات السياسية المتقلِّبة التي تلحق بالدولة ظرفيًّا.. عانى شعبنا 400 سنة من الحكْم العثماني، ولم “يَتَعَثْمَن” بل نفض عنه القرون الأَربعة وعاد أَصيل الهوية ولو انه انتقل فترتئذٍ إِلى عروبة دالَّة على خلع العَثْمَنَة دون اعتناقها هوية.. ثم خضع لبنان للانتداب الفرنسي ولم “يَتَفَرْنَس” بل ظل على هويته الحادة وطالب بالاستقلال عن “الأُم الحنون” ليزاول حريته دون القمع والمفوَّض السامي.
والهوية الثابتة أَمتن من تظاهرات لغو كلامي أَجوف يطالعنا في تواقيع البيانات الظرفية أَو الاعتصامات في الساحات العامة تأْييدًا أَو استنكارًا أَو احتجاجًا.. هذه جميعُها من الرغو الزبدي العابر ولا يؤَثِّر مطلقًا في أَصل الهوية.
والهوية الثابتة لا تقتصر على مساحة الأَرض.. فلِلُبنان مهاجرون في كل العالم يؤْمنون عُمقيًّا بخصائص الهوية اللبنانية ولو انهم يحملون جواز سفر أَو بطاقة هوية لجنسية البلاد التي يعيشون فيها. لذا يؤْمنون بهويتهم الأُولى، هوية الحضارة والتاريخ والأَرض والعائلة ولو ان كثيرين منهم محرومون من “بطاقة” الهوية اللبنانية لأَسباب لوجستية. فالهوية شرفٌ ذاتـيٌّ لأَبنائِها يحملونها على أَرض الوطن وأَنَّى هم في العالم.
والهوية الثابتة لا تغيِّرها تعدُّدية ولا بنودُ عقد اجتماعي ولا تحوُّلاتٌ في تناسق ديموغرافي.. هذه جميعها لا تُلغي هويتي بأَنني سليلُ بعلبك وبيبلوس وصيدا وصور وطربلس وجميع الواحات الحضارية في بلادي، ولن يحرِمَنيها أَحد.
هويتي اللبنانية ولدَت بي كما فئةُ دمي، وليس من يستطيع أَن يغيِّر لي فئة دمي، كما لا يستطيع أَحد أَن يقتلع مني جذور الأَرزة التي أَحملها في قلبي كما في قلب علَم لبنان اللبناني.
هويتي الثابتة ذاتُ جناحين: إِيماني وانتمائي.. إِيماني ما سوى بلبنان اللبناني، وانتمائي ليس إِلَّا إِلى لبنان اللبناني الذي وحده عنوانُ الهوية الواحدة الوحيدة التي تعصمُنا من الانزلاق إِلى الغربة الهجينة.
هكذا – وما سوى هكذا – نستحقُّ لبنان.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).