كميليا كلوديل: ضحيةُ رودان؟ أَم مُلهمَتُه؟ (1)
هنري زغيب*
طالما ارتبط اسمها باسمه وسيرتها بسيرته، مع أَنها انتهت في مصح عقلي بسبب الصدمة التي ولَّدها لها رفضُه القاسي الزواجَ منها، بالرغم من عشر سنوات أَمضياها معًا في حالة حب مجنون أَشعلَه الشغَف والولَه والولَع. كان يحبُّها لكنه حطَّم شخصيتها برفضه الزواج، إِذ بقي على علاقته بعشيقته الأُولى روز التي عاد تزوَّجها وهو في السادسة والسبعين قبل أَشهر قليلة من وفاته.
تلك قصة الحب، المجنونة والمأْساوية معًا، بين النحاتة الفرنسية كميليا Camille كلوديل (1864-1943) والنحات الفرنسي أُوغست رودان (1840-1917).
فماذا عنها؟ ومَن هي قبْله؟ وكيف التقيا؟ وإِلى أَين انتهت قصتُهما الغريبة؟
هذا ما سأَتولَّاه في هذا المقال الذي سيمتدُّ على حلقات متتالية.
شخصية قوية تَجاوُزية
علاقتُها المعروفة برودان لا تلغي موهبتها الفريدة كنحاتة. فهي كانت على شخصية قوية تجالَدَت بها خلال غضبها ومزاجها واعتراض أُسرتها على علاقتها برودان، ورفْض رودان الزواج بها، ورفْض منحوتات لها في أَكثر من معرض، حتى أَنهكتْها تلك الشخصية القوية فانهارت إِلى نهاية تاعسة في مصح عقلي.
على أَن هذا الاضطراب شبه اليومي في مجرى حياتها لم يحُلْ دون وضوح الشفافية الرقيقة في نحتها تفاصيلَ الجسم البشري بِحُبٍّ وحنانٍ. ومع أَن عددًا كبيرًا من منحوتاتها ضاع أَو أُتْلِف، فالباقي منها دليلُ كافٍ على عبقريتها النحتية الواضحة.
من هي؟
ولدَت كميليا نهار 8 كانون الأَول/ديسمبر سنة 1864 في تاردُنْوَى (نحو 100 كلم عن باريس)، ذات البيئة المحافظة بسكانها الذين معظمهم مزارعون وتجار وحرَفيون. والدُها لويس ووالدتها لويزا تزوَّجا سنة 1860 وكان لويس يعمل لدى إِحدى المدارس اليسوعية التي دخلَتْها كميليا سنة 1870. ولما كان والدُ لويزا يملك منزلًا واسعًا في فيلنوف (على 8 كلم من تاردُنْوَى) قدَّمه لابنته وزوجها فانتقلا إِليه وعاشا فيه سنواتٍ، وحتى حين تنقَّلا في مدن أُخرى كانا يعودان إِليه صيفًا.
سنة 1866 ولدَت ابنتهما الثانية لويزا وسنة 1868 ولد ابنُهما بول الذي سيصبح دبلوماسيًا وكاتبًا وسيتولى لاحقًا شؤُون شقيقته كميليا في سنوات محنتها، لأَن والدتها المحافظة جدًّا أَلْغَتْ فترتئذٍ كلَّ اتصال بابنتها رافضةً أَن تراها أَو تكلِّمها أَو تساعدها. فلم يكن لها من يلتفت إليها سوى والدها وشقيقها بول.
اكتشاف الفخَّار
في تلك البلدة كانت كميليا تتنقل بين البنَّائين فاكتشفت مادة الفخَّار التي يستعملها العمَّال لتشييد المنازل في المنطقة. وكان فرحُها باكتشاف المادة أَنها تُغرقُ في طينها أَصابعها وتُطْلع منها أَشكالًا تحافظ على هيكليتها كما هي حين تدخل الفرن كي تحترق وتجفّ. وطلبت من أَصدقائها وأَنسبائها أَن يجمعوا لها ما يمكنهم من تلك المادة الفخَّارية.
سنة 1876 انتقلت الأُسرة إِلى بلدة “نوجان سور سين”، وكانت موهبة كميليا في الرسم وضحَت لأَساتذتها. مع ذلك بقيَت تزاول وحدها كي ترسّخ طواعيتها في استخدام الريشة، ومشكِّلَةً كذلك منمنمات تستوحيها من نقوش ومحفورات قديمة كي تنحت أَشخاصًا من التاريخ. من تلك الفترة الباكرة لم تبقَ سوى ثلاث منحوتات: “داود وغولياث”، “نابليون”، و”بسمارك”.
دروس خاصة مفيدة
تلك الأَعمال الأُولى لفتَت إِليها انتباه النحات الشاب أَلفرد بوشيه (1850-1934) صديق رودان. كان يعيش في باريس ويتردَّد على نوجان ويزورها يستطلع أَعمالها الجديدة ويُمضي بعض الوقت معها يُسدي إِليها نصائح وتوجيهات مفيدة في فن النحت وأَساليبه. وكانت كميليا تغْنم كذلك من توجيهات السيد كولان الذي كان عيَّنه والدُها كي يدرِّس أَبناءَه ويثقِّفَهم. وراح كولان يدرِّسهم الرياضيات واللاتينية والقواعد اللغوية وقواعد الخط، ما لم يكن ممكنًا للأَولاد الثلاثة أَن يتلقَّوه في مدارس تلك المنطقة.
هكذا، بين بوشيه وكولان، تنامت القواعد الأَساسية لـموهبة كميليا فنيًّا وثقافيًّا، لكنها بدأَت تعي أَن مستقبلها في النحت لا يمكن أَن يتنامى في هذه القرية البعيدة، ولن يوصيها فيها أَحدٌ على نحت تماثيل أَو منحوتات.
لا محترفات للأَجساد العارية
في النصف الآخر من القرن التاسع عشر، لم يكن في فرنسا إِلَّا معهد مجاني واحد في باريس مختص بتنمية الذائقة الفنية لدى الفتيات، يتيح لهن العمل لاحقًا في النحت الفني أَو في القطاع الصناعي. أَما في الضواحي فكان مستحيلًا حضورُ دروسٍ في الرسم أَو النحت لدى محترفات تبيح “الموديلات” العارية.
هكذا كان لا بُدَّ من الانتقال إِلى محترفات باريس لتَلَقِّي دروس حية ومباشرة على الأَجساد العارية. فهل سيَرضى سالوالد المحافظ؟
هذا ما أَكشفه في الجزء الثاني من هذا المقال.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.