رَحيلُ العراقي كريم: أنا الأقوى يا هذا المارِق!

البروفسور بيار الخوري*

كريم، أحد رموز الشعر العراقي المُعاصِر، نَثَرَ بيننا نور الإبداع وأحاسيس الحزن والوجع. كتبَ قصائده بلغةٍ تنبضُ بالحياة، مُوازِنةَ بينَ الشَجَنِ العميق والصلابة العذبة، فأثّرت في قلوبنا وزرعت بذورَ الحبِّ والتحدّي في دروبنا المُظلمة.

أبياتُ شعره على سرير الموت عكست رحيله المعجون بالألم، حيث عبّر كريم عن حالته وهو على فراش الموت. يصفُ نفسه بأنه “حيٌّ مَيِّتٌ”، وهذا يعكس تضارب مشاعره بين الحياة والموت. لكنه بقي قويًا ومُتفائلًا، وأمانيه حافظت على القوة والترابط.

شَعَرَ كريم دائمًا أنَّ الحياة قد سرقت منه شبابه وغُربته، وأنَّ العالمَ تَنَكَّرَ لوجوده وتجاهله. يستخدم مقارنة العراق للتعبير عن حالته الداخلية المضطربة والمتمزّقة.

في الأبيات الأخيرة، يُنادي الله بالعجلة، حيث يشير إلى أنَّ الصمتَ يكبتُ ضحكته وأفراحه ويظلمها، وإذا فات الأوان للتعبير عنها قد يفقد رسالته بالكامل.

في كلِّ قصائده بُعدٌ رمزي، حيثُ يصوغ  حزنه وألمه على هيئة القدرة والقوة والتحدّي وحبّ الانسان الذي لا يجب ان تَغتَصِبَ الحياة قوته، رُغمَ اغتصابها لكلِّ معاني الإنسانية.

في أشهَرِ قصائده، لا تشكو للناس…. اختصر العراقي كل المعاني والقِيَم والصفات والآفات التي جهد الفلاسفة عبر عصورٍ طويلة ومخطوطاتٍ عظيمة في سبر اغوارها: الشكوى، الالم، السقم، طبيعة البشر، الهمّ، الاحزان، الكتمان، قلة الاحساس، الندم، وهي المواساة والعزاء، وهي الحظ، الندب، الهمم، الخيبة، الهجران، التهم، الثقة، الحب، القيم، الوفاء، الأخِلاّء، اليأس، العناد، عدم الاستسلام، الخير، الشر، الخوف، الخبث، المكر، الدهاء، اللصوصية، الملذّات، المال، الجاه، الذهب، الصلاة، الدموع والدم، و….الاعتصام لله وحده.

أما مُنتهى الكلام فهو بيت كُتِبت لأجله أبيات القصيدة العشرين:

“كُن فَيْلَسُوفًا ترى أنَّ الجميعَ هُنَا

يتقاتلون على عَدَمٍ وهُم عَدَمُ!!”

يا لروعة تبسيط الفلسفة لكل البشر!

كل ما سَعَت فيه أحجار الفلاسفة سقط على عشرين بيتًا مليئًا بالحزن على الإنسان أدّاهُ وجهٌ لا تفارقه ابتسامة عنيدة في تحقير الحزن العميق. أنا الأقوى يا هذا المارق!

في داخل كلماته، يتجلّى فقط جُزءٌ من عالمه الداخلي، فكره العميق، وقدرته على الاستفادة من اللغة بأبهى صورها. رحيله أثار حزنًا عامرًا في نفسي وأشعرني إني قد خسِرتُ جُزءًا من نفسي.

أكتُمُ حزني على الرجل كي لا اخجل من ضحكته حتى على فراش الموت وهو الذي مزج في داخلي المشاعر بالألفاظ المليئة بقوة التحدّي.

سبق كريم نزار الذي انتظر اللقاء بقارئة الفنجان حتى خَبِر أنه بعد رحيل العمر سيعلم أنه كان يطارد خيط دخان. وأراح نفس ابو ماضي لأنه لم يَشكُ رُغمَ أنه مُذ وُلِد…. غَدا عليلًا.

ستبقى في ذاكرة الكلمات، تتنقل بين فضاءات العواطف والألوان، ونغوصُ معك ابدًا في أعماق هذا الانسان الذي لم يتعلّم بَعد كيف يعيش موجوعًا مُبتسمًا وقد أرَدْتَه رافضًا أن يشفي غليل الألم ولو بجولةٍ واحدة.

(لستُ ناقدًا ادبيًا ولكني وجدتُ من واجبي نعوة ورثاء هذا الفيلسوف البسيط). 

  • البروفسور بيار الخوري هو باحثٌ أكاديمي وكاتب في الاقتصاد السياسي. يمكن الاتصال به عبر البريد الالكتروني التالي: info@pierrekhoury.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى