“رَبيعُ إسرائيل”: العَودَةُ إلى”الوَضعِ الطبيعي”

محمّد قوّاص*

يُقارِبُ العالمُ الصراعَ الراهن في إسرائيل من زاويةِ حيثيّاته الداخلية غير المُرتَبِطة بالصراعِ في المنطقة. يحرصُ إعلامُ أوروبا والولايات المتحدة على متابعة الحدث وتخصيص ساعات من البث المباشر والبرامج الحوارية بشأن ما يعتبره جدلًا يُهدّدُ ديموقراطية إسرائيل. يشارك أخصائيو الشرق الأوسط مع شخصياتٍ يهودية وبعضها ممثّل للجاليات في قراءة الحدث وتشريح قوى السياسة والاعتراض في السعيّ الى تفسير هذا الصدام النادر بين الشارع والحكم.

لا أحد في الخارج أو في داخل إسرائيل اهتدى إلى أي تطوّر تفرضة تلك المواجهة، وخصوصًا بهذه الكثافة في التظاهر، في الموقف الإسرائيلي العام من المسألة الفلسطينية. بات الخارج الداعم لإسرائيل تاريخيًا يتعامل منذ عقود مع المسألة الفلسطينية بصفتها تفصيلًا أمنيًا إسرائيليًا وحتى جُزءًا من كينونة إسرائيل التي يجب قبولها كما هي بما تحمله من سمات. ومن تلك السمات الاحتلال والاستيطان والتعايش مع القمع والعمليات الأمنية والحروب الصغيرة والكبيرة كمسلّمات في أبجديات “أمن إسرائيل وحقّها في الوجود”.

الفلسطينيون أنفسهم، داخل الخطّ الأخضر أو في الضفة الغربية وقطاع غزة ودول الشتات، يراقبون الحدث الإسرائيلي بصفته حدثًا يهمهم لكن لا يعنيهم ولا يؤثّر كثيرًا في حال التعفّن التي وصل إليها الوضع الفلسطيني العام. ولم تظهر لدى الفلسطينيين أي أعراض إيمان بتطوّر كبير ستضخّه تظاهرات “الدفاع عن الديموقراطية” في إسرائيل لوقف المنحنى اليميني الذي اندفع داخله المجتمع الإسرائيلي خلال السنوات والذي جعل من وجود الثنائي إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش داخل الحكومة الحالية منطقيًا طبيعيًا داخل السياق.

والأرجح أن الجانبَ الفلسطيني يظهر متأمّلًا للحدث مُستَقيلًا من التعامل مع المستجد الذي لا يستهان به داخل المجتمع الإسرائيلي. لا تعود هذه الحالات إلى حكمة تؤْثِر عدم التدخل في جدل إسرائيلي-إسرائيلي لتركه يستعرّ متخلّصًا من عوامل قد يستفيد منها بنيامين نتنياهو وصحبه. بل الأرجح أيضًا أنه عائدٌ إلى تعب واستنزاف أصابا القدرة على قراءة الحدث، سواء في أبعاده الاستراتيجية والبناء عليه بنباهة ورشاقة، أم في الاستفادة من مناخات دولية متبرّمة والنهل من استياء عربي مما تفرزه العنصرية الإسرائيلية، بما في ذلك الذي عبّرت عنه الدول التي أبرمت حديثًا مع إسرائيل الاتفاقات الابراهيمية.

ورُغمَ أن العامل الفلسطيني ليس هامشيًا داخل هواجس الأمن في إسرائيل على ما تدل المواجهات في جنين ونابلس والحوارة وغيرها، غير أن الأمر لا يدخل ضمن السجال السياسي الذي يستحق أن تخوضه قوى الائتلاف الحكومي بقيادة نتنياهو. ولا يُسجل لدى قوى الاعتراض المتضخمّة والتي تمكّنت من حشد تظاهرات شبه مليونية أنها بصدد خلق وعيّ جديد يباشر مسارًا لإعادة قراءة وجودية إسرائيل وعلاقتها بالوجودية الفلسطينية.

يلاحظ إيان إس لوستيك هذه الظاهرة ويدعو في الـ “فورين بوليسي” المحتجّين الإسرائيليين إلى الاعتراف بأن حقوق الفلسطينيين على المحكّ في الاضطرابات في بلادهم، وأن عليهم التعلّم من دروس الحرب الأهلية الأميركية لجهة أن المسألة تتعلق بالمساواة في الحقوق مع الفلسطينيين.

من يملك معطيات النقاش داخل المكوّنات السياسية الفلسطينية في إسرائيل يعرف أن جدلًا قد استعر حول مسألة نجاعة رفع العلم الفلسطيني داخل التظاهرات ضد حكومة نتنياهو، خصوصًا لجهة ما يمكن أن يسببه الأمر، للمفارقة، من حرج للمتظاهرين اليهود ضد التطرف والفاشية. والواضح أن كفاح المتظاهرين من أجل صون ديموقراطية دولتهم لا يجد أن إنهاء الاحتلال هو جزء عضوي من مسألة حماية ديموقراطيتها. ويكفي نتنياهو أن يقرر، استجابة لضغوط الشارع، تعليق التشريع بشأن تعديلات النظام القضائي لتبريد حركة الاعتراض والعودة بالبلاد إلى “الوضع الطبيعي”.

والوضع الطبيعي أن لا تُمسّ صلاحيات القضاء والمحكمة العليا وأن تعود الدولة لممارسة يومياتها السياسية في إسرائيل وروتينها اليومي الأمني في الأراضي الفلسطينية إلى ما بعد انقضاء فترة أعياد الفصح عند اليهود. فواشنطن الغاضبة وباريس العاتبة ولندن القلقة والجاليات اليهودية المُحرَجة لا تطالب عمليًا إلّا بعودة إسرائيل إلى هذا “الوضع الطبيعي”.

تجاوز الحراك في إسرائيل أبعاده التقليدية المنضبطة بين حكومة من جهة ومتظاهرين ومضربين من جهة أخرى. يهدد الصراع البنى العسكرية والأمنية والاقتصادية لجهة الانقسام الداخلي والتصدّع الهيكلي على ما ظهر داخل قطاعات الجيش، لا سيما الطيارين، بما بات يهدد الأمن الاستراتيجي للدولة، وفق فتاوى تبرر ما يشبه الانشقاق.

في هذا السياق جاء موقف وزير الدفاع يوآف غالانت (المُقال) بمعارضة تعديلات نتنياهو بشأن صلاحيات المحكمة العليا لأنها تسبب شرخًا مجتمعيًا تمدَّدَ صوب الجيش والأجهزة الأمنية، ما بات يشكّل خطرًا على أمن إسرائيل بحسب قوله. وفي السياق نفسه يشكو الأكاديمي والمؤرخ المثير للجدل يوفال نوح هراري، في مؤتمر نظمته “هآرتس”، من أنه لن يتمكن من مواصلة البحث والتدريس إذا ما مُرِّرَت قوانين تَحُدُّ من الحريات بما في ذلك حرية البحث وكل الحريات الأكاديمية.

إستطلاعات الرأي الحديثة في إسرائيل “تبّشرنا” بتراجع شعبية نتنياهو وارتفاع شعبية حزب وزير الدفاع السابق بيني غانتس. أي أن الجدل يجري بين يمين ويمين يلامس الوسط من دون أن تظهر أعراض بروز يسار أو قوى سلام من خارج الصندوق. والواضح أن مسألة فلسطين غائبة عن المؤرخ الشهير والليكودي المناكف. وكأن في اعتراض المثالين توقٌّ إلى إعادة إسرائيل إلى “الوضع الطبيعي”، حيث كان الجيش موحّدًا وأجهزة الأمن منسجمة والبحث والتدريس والأنشطة الأكاديمية تجري على قدم وساق تحت سقف لا يجد في الاحتلال عدوانًا بل قاعدة عيش لا شواذ بها. أما أن يخرج من “ربيع إسرائيل” تحوّل ما يلاقي التحوّلات الجارية في المنطقة والعالم، فذلك ليس إلّا رهانًا لا يجب التعويل عليه قبل ظهور علامات ما زالت حتى الآن خارج السياق.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى