حَربُ أوكرانيا: كَيفَ تَغَيَّرَ العالم في العام الأول
محمّد قوّاص*
قد يوحي العنوان أن للحرب في أوكرانيا أعوامًا مقبلة، وأن “العملية العسكرية الخاصة” التي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عام قد تستهلك سنواتٍ من الفوضى وعدم اليقين في أوروبا كما داخل المشهد الدولي العام. وكما أن موسكو وكييف وبقية عواصم العالم لم تتوقع في الأيام الأولى للحرب أن تطول الحرب أسابيع ثم أشهرًا وتطوي سنتها الأولى، فإن لا شيء يمنع من أن تمتد هذه الحرب لأمدٍ عبثي.
وللعام الأول حكاية ومسارات لم ترصدها مسبقًا مؤسسات البحث والتفكير الاستراتيجي وسط اعترافٍ لكبرى أجهزة المخابرات بأنها لم تكن تتوقع ما استجد منذ 24 شباط/فبراير 2022.
وعلى الرغم من أن عملية ضمّ شبه جزيرة القرم في العام 2014 وفّرت الأعراض المؤشّرة إلى ما جرى خلال الأشهر الـ 12 الأخيرة، وعلى الرغم من حالة التوتر في علاقة كييف مع منطقة الدونباس شرق أوكرانيا خلال السنوات السابقة، وعلى الرغم من فشل اتفاق مينسك الموقع في العام 2014 في هذا الصدد، إلّا أن استراتيجيي واشنطن وحلف شمال الأطلسي لم يتبصّروا مُسبقًا انفجار ورم بات خبيثًا.
وإذا ما زعمت المنظومة الغربية اندهاشًا ومفاجأة من اجتياز القوات الروسية الحدود الشرقية لأوكرانيا منذ عام فراحت تتآلف وتتوحّد وتطوّر مواقف بلدانها للانحياز إلى جانب أوكرانيا، فإن موسكو أيضًا تفاجأت من مواقف هذا “الغرب” بأجنحته الأوروبية والأميركية والآسيوية، بحيث بدا أن “الناتو” بات موحّدًا واستفاق من “الموت السريري” وفق وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وأن الاتحاد الأوروبي المتعدد ارتجل انسجامًا صعبًا من أجل ردّ ما استيقظ عليه الغرب واعتبره “تهديدًا”.
لم يأبه هذا الغرب لحرب روسيا الأولى والثانية في الشيشان (1994-1996، 1999-2009). ولم يكترث كثيرًا لحرب روسيا في جورجيا (2008). وبقي ردّ فعله متوقعًا وتحت سقفٍ محدود حيال حرب شبه جزيرة القرم (2014)، ولم يمنع الأمر من مواصلة العلاقات مع روسيا وزعيمها فلاديمير بوتين واستقباله معزَّزًا مكرّمًا في عواصم أوروبا. فمن حقّ موسكو أن تُفاجأ بسلوكٍ غربي جديد لم تعهده روسيا-بوتين قبل ذلك.
والحال أن النقيض الصيني للغرب صار منذ عقود مادة تلقى رواجًا في الولايات المتحدة لا سيما منذ تحوًل استراتيجيات واشنطن صوب آسيا ومنطقة الإندو-باسيفيك في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما. لم تكن أوروبا تشاطر الأميركيين هذه المخاوف وبقيت تنسج علاقات اقتصادية وسياسية إيجابية مع بكين. وعلى الرغم من خصوصية وامتياز العلاقات تاريخيًا بين الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن الأخيرة، في عهد رئيس الوزراء بوريس جونسون أصدرت قبل عامين وثيقة للأمن الاستراتيجي تعتبر أن روسيا هي العدو الاستراتيجي ولم ترَ ذلك في الصين.
أكثر من ذلك. أبرمت لندن اتفاقات تجارية متقدمة بما في ذلك عقدا مع شركة هواوي الصينية للمشاركة في مدّ شبكة الجيل الخامس للإتصالات. كانت واشنطن تعتبر الأمر مهدّدًا للأمن الاستراتيجي للمنظومة الغربية إلى درجة أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اضطر إلى ممارسة نفوذ على “الصديق بوريس” وإقناعه فعلًا بالتخلّي عن الشركة الصينية وإلغاء العقد معها. ففعلت ذلك في تموز/يوليو 2020.
وإذا ما مال الحليف البريطاني المميّز إلى الصين، فما بالك ببقية الدول داخل الاتحاد الأوروبي التي ساءت علاقاتها مع الولايات المتحدة في عهد ترامب ولم تكن أساسًا توافق واشنطن هاجسها الصيني. وحين تمّ لبايدن في صيف 2021 لمّ شمل المنظومة الغربية ورأب الصدع في علاقات بلاده مع دول أوروبا والناتو وجرّهما للاقتناع بالتهديد الصيني في وثائق “الناتو”، أطلّ على الجميع “خطر روسي” لم يتوقعوه ولم يرصدوا نشوءه.
انقلب المشهد الدولي الكبير. أعادت الولايات المتحدة قراءة الخرائط الاستراتيجية برؤى جديدة. ما زالت ترى في الصين تحدّيًا استراتيجيًّا كبيرًا. لكنها راحت تعترف بأن روسيا باتت تشكل خطرًا حقيقيًا وجب التعامل معه. ولئن تكتلت الدول الأوروبية على نحوٍ متفاوت الحدّة بين شرق وغرب وشمال وجنوب لردّ التمدد الروسي داخل القارة الواحدة، فإن واشنطن في صقورية موقفها الداعم لكييف تُدرج المعركة في أوكرانيا مع ذلك داخل معركتها الكبرى مع الصين.
في تحوّلات هذا العام ظهور تحالف جدي بين الصين وروسيا في مواجهة غرب متصدّع في مقاربته للمشهد الدولي المستجد. لم تعترف بكين بضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم قبل 9 سنوات. لم تعترف بضمها للأقاليم الأربعة شرق أوكرانيا قبل أشهر. ولم تصرّح بدعم الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا منذ عام. لكن اعتبار واشنطن أن فشل موسكو في أوكرانيا من شأنه إضعاف الصين وردعها عن مهاجمة تايوان، واعتبار الولايات المتحدة أن الحرب في أوكرانيا هي جزء من الصراع الأميركي ضد الصين، عزز من حرص بكين على منع أي هزيمة لروسيا في أوكرانيا.
خلال عام من المواجهات ثبت أن روسيا لم تستطع أن تحقق نصرًا كاسحًا سريعًا في أوكرانيا. بالمقابل ثبت أيضًا أن تشكّل جبهة متعددة الجنسيات ضد روسيا لن تستطيع، على الأقل حسب تقييم رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأميركي الجنرال مارك ميللي، أن تطرد القوات الروسية من كامل الأراضي الأوكرانية، وأنه سيصعب استعادة الأراضي إلى حدود العام 1991، أي حدود الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي، وفق وعود الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي.
وبإمكان المراقب أن يستنتج بسهولة انقلاب خرائط الاصطفافات التقليدية التي قام عليها عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فإذا ما نجحت المنظومة الغربية بصعوبة في الحفاظ على وحدة بلدانها وتماسك تحالفها، فإن مناطق عديدة في العالم، من جنوب أميركا إلى أقاصي آسيا مرورًا بأفريقيا والشرق الأوسط، أظهرت إعادة تموضع لافت جعلها تنتقل إلى منطقة الحياد ومغادرة فضاءات الانحياز للقوى التقليدية الكبرى.
وإذا ما كان الأمر واضحًا في التصويت الذي شهدته الأمم المتحدة بشأن الحرب في أوكرانيا أو في التوتر الذي شاب علاقة واشنطن مع منظمة “أوبك+” مثلًا، فإن الدول المحيطة بروسيا والمنتمية إلى “رابطة الدول المستقلة” و “معاهدة الأمن الجماعي” المحسوبة على روسيا أظهرت تحفّظًا لافتا وأخذت مسافة من موسكو وموقفها من الحرب في أوكرانيا.
هل نحن بصدد تشكّل نظام دولي جديد؟ ليس بالضرورة، ذلك أن دولة مثل الصين تعملقت مستفيدة مما وفّره النظام الدولي الراهن ولا مصلحة لها بابتكار نظام جديد قد لا تجد به ما نالته في العقود الأخيرة. لكن حالة التشقق الحاصلة ما زالت لا ترقى إلى انقلاب في موازين القوى. فإذا ما كسبت الصين روسيا داخل معسكرها أيًّا كانت نتائج حرب أوكرانيا، فإن “معركة” المناطيد الصينية فوق الولايات المتحدة، قد تعبّر عن هراء المقاربة الأميركية للحالة الصينية وتقادمها وفق ما بدأ استراتيجيو واشنطن ومفكروها يعترفون به وإن بخفوت وخجل.
ينتهي العام الأول على مبادرة. انتظرت الصين 365 يومًا حتى تقدم خطة للسلم لإنهاء الحرب. فهل تخشى الصين أن تخسر في العام الثاني ما جنته وراكمته في العام الأول للحرب؟
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)